مرتديًا زيًا سودانيًا تقليديا، ظهر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، قبل أيام، في فيديو مسجل، ليحيي مئات الآلاف من المتظاهرين الذين خرجوا مطالبين بحكم مدني ديمقراطي في الذكرى السابعة والخمسون لثورة الحادي والعشرين من أكتوبر 1964. قبل أقل من شهرين على ذكرى الثورة السودانية التي أطاحت بالرئيس البشير، وتوافقت قواها عليه لرئاسة الوزراء خلال المرحلة الانتقالية.
حاول رجل الاقتصاد التوافقي، أن يبدو هادئًا كعاته، واعدًا جماهير السودان بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكن توتره كان واضحًا وهو يبتلع ريقه متفاديًا هروب الكلمات من على لسانه. فقد أدرك حمدوك متأخرًا نوايا “عسكر السودان”.
https://www.youtube.com/watch?v=U99eSuPvfwY
لم يكن هذا هو الظهور الأخير لـ”حمدوك”، قبل وضعه قيد الإقامة الجبرية ثم اقتياده وزوجته إلى مكان غير معلوم فجر الإثنين، على يد قوات من الجيش السوداني، في انقلاب عسكري جلي. فظهر الرجل قبلها بساعات في اجتماع مع المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، لبحث الأزمة السياسية في السودان، وهو الاجتماع الذي ضم رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو.
التوافقي المتوافق عليه
حمدوك والذي سُمي في أغسطس من العام 2019، كرئيس لحكومة انتقالية، تقود البلاد إلى جانب مجلس سيادي يضم ستة مدنيين وخمسة عسكريين، كان الخيار الأفضل لكافة الأطراف. فالرجل يتمتع بسجل نظيف كما وصفته عناصر من قوى الحرية والتغيير، فهو الذي رفض عرض البشير لتولي وزارة المالية، ومن أوائل المؤيدين للمطالب الديمقراطية لثورة التاسع عشر من ديسمبر، التي لم يشارك فيها.
كان حمدوك أيضًا وجهًا مريحًا لقادة الجيش يمكن اعتباره شريكًا “لطيفًا”، فهو اقتصادي إصلاحي، ليس معنيًا بتجذير مطالب الثورة فلم يكن لديه يومًا أي نزع ثوري. كما عمل في منظمات دولية وإقليمية، آخرها مساعد الأمين العام التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في إثيوبيا، ما يعني أنه قادر على التعامل مع المجتمع الدولي والمنظمات الاقتصادية والمالية الدولية خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين. أما خارجيًا فقد كان النموذج المثالي لقادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا.
سياسات حمدوك بين النجاح والإخفاق
حمدوك، الذي نشأ في قرية صغيرة بإقليم كردفان جنوبي السودان، أحد الأقاليم التي شهدت نزاعات مسلحة لسنوات بين قوات البشير ومتمردين، يعرف جيدًا ويلات الحروب والنزاعات كما يعرف أنه لا فرصة لتنمية حقيقية إلا في ظل السلام.
لذا فقد سارع الرجل لتوقيع اتفاق سلام مع عدد من الجماعات المسلحة في الثالث من أكتوبر 2020، “اتفاق جوبا لسالم السودان” ما عرف لاحقًا بـ”اتفاق جوبا”. وهي خطوة زادت من أسهمه خارجيًا وداخليًا.
استطاع موظف الأمم المتحدة السابق، بما يحظى من ثقة لدى المؤسسات الدولية، أن يقنع صندوق النقد الدولي بتخفيف ديون السودان من 56 مليار دولار إلى 6 مليارات. لكنها لم تكن خطوة مجانية فقد اشترط الصندوق إجراءات تقشفية قاسية على الشعب السوداني، أهمها رفع الدعم عن الوقود وهو ما قوبل باحتجاجات شعبية، ليخرج بعدها حمدوك موضحًا أسباب قراراته واعدًا الجماهير الغاضبة بتحسن الأوضاع في محاولة لامتصاص غضبهم، لكن محاولاته لم تنجح فقد خصمت إجراءاته التقشفية قسطًا كبيرًا من شعبيته.
جزء آخر من هذه الشعبية انهار مع رضوخ عبد الله حمدوك لمساومة الأمريكان لرفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، في مقابل إعلان الخرطوم استعدادها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
عدم قدرة الحكومة الانتقالية على تبني مطالب محاكمة المسؤولين عن قمع وقتل المتظاهرين خلال ثورة ديسمبر، كانت أيضًا أحد أسباب تقلص شعبية حمدوك وحكومته، وهي نقطة لا يُسأل حمدوك عنها بقدر ما تُسأل قوى الحرية والتغيير مجتمعة، فهي شريك السلطة مع قيادات الجيش الذين اتهموا بتنظيم المجازر للمتظاهرين السودانيين، وإلقاء الجثث في النيل، واغتصاب العشرات من الجنسين لترويع الثوار.
دول الجوار.. علاقة حمدوك بإثيوبيا
حاول حمدوك استغلال معرفته الكبيرة بإثيوبيا والمكتسبة من سنوات عمله بـ”أديس أبابا”. حيث عمل كمستشار للبنك الأفريقي للتنمية المعني بوضع سياسات تحفيز النمو الاقتصادي الإثيوبي خلال فترة حكومة ميليس زيناوي، كما شغل منصب نائب الأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة في العاصمة الإثيوبية.
فور توليه مهام رئاسة الحكومة زار حمدوك أديس أبابا والتقى برئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد، وهو لقاء حاول فيه حمدوك طمأنة أبي أحمد والتأكيد على قوة العلاقات والتقارب حول القضايا المشتركة، مادحًا دور إثيوبيا في دعم الثورة السودانية.
لكن هذه الخبرة لم تحول دون توتر العلاقات مع الجارة الأكثر أهمية للسودان، فسرعان ما توترت العلاقات بين البلدين نتيجة عدة قضايا على رأسها “سد النهضة”، حيث طالب السودان في أبريل من العام الحالي، الأمم المتحدة بسحب الجنود الإثيوبيين من قوات حفظ السلام الدولية “يونيسفا” في أبيي المتنازع عليها بين السودان وجوبا، على أساس أن إثيوبيا لم تعد تتمتع بالثقة على خلفية إفشالها لمفاوضات “الفرصة الأخيرة” بين أطراف أزمة سد النهضة (مصر والسودان وإثيوبيا).
فيما شهدت الحدود السودانية الشرقية في أراضي الشفقة السودانية التي تحاول مليشيات إثيوبية السيطرة عليها منذ سنوات، توترًا كبيرًا، حيث اتهمت الخارجية السودانية إثيوبيا بالتوغل في العمق الاستراتيجي السوداني، وحشد قواتها على الحدود الشرقية.
سياسته مع مصر
خلال لقاء وزير الخارجية السوداني بقيادات مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية خلال زيارته لمصر، لخص حمدوك أزمة العلاقات المصرية السودانية من وجهة نظر حكومته، في ثلاثة نقاط وهي “الصور النمطية المتبادلة، والنظرة للتاريخ ومسألة حلايب”، وهي نقاط أطلق حمدوك عليها المسكوت عنه في علاقة مصر والسودان.
رغم أن حمدوك لم يتحدث على عكس طبيعته، بشكل شارح لنقاط “المسكوت عنه” لكن يمكننا القول إن السودان عانى من نظرة رسمية متعالية خاصة في عهد نظام مبارك، كانت لا ترى فيه شريكًا إقليميًا بل تابعًا رغم الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لمصر في بناء علاقات قوية مع السودان.
ويرى هاني رسلان رئيس مركز الدراسات التاريخية والاجتماعية بمؤسسة الأهرام والمتخصص في الدراسات السودانية، أن هناك أيضًا: “صورة سلبية أيضًا في السودان تجاه مصر، تم تكريسها على مدى زمني ممتد، واشتد أوراها خلال العقود الثلاث الأخيرة، وساهمت في ذلك عوامل مركبه بعضها تاريخي، وبعضها ثقافي، وبعضها الآخر سياسي، وجزء لا يُستهان به منها يتصل بمعطيات الصراعات الداخلية في السودان، سواء كانت جهوية أو ثقافية”.
رغم قناعة حمدوك بأن “المسكوت عنه” في علاقة البلدين يقف حائلًا دون بناء علاقات قوية، فقد استطاع بوضوح سياسات حكومته الأخيرة تجاه قضية سد النهضة والتي كانت ملتبسة في البداية أن تقارب بين وجهة نظر البلدين.
من جانبها تعاملت السلطة المصرية الحالية بشكل مختلف مع السودان، فاختفت النظرة الدونية له وسعت إلى بناء علاقة قوية مع سودان ما بعد الثورة، باعتباره ندًا لمصر، لكن محللين سياسيًا يرون أن النظام المصري كان متحمسًا بشكل أكبر لدعم المكون العسكري في السلطات الانتقالية في السودان.
مستقبل حمدوك مرهون بمستقبل الثورة
ربما لم يتصور عبد الله حمدوك نفسه، وهو الاقتصادي الإصلاحي، الذي عمل مستشارًا اقتصاديًا وموظفًا أمميًا وشغل العديد من المناصب الدولية، أن يرتبط مصيره بمصير الثورة السودانية. والتي باتت تقف أمام اختبار تاريخي غاية في الصعوبة والتعقيد، بعد إعلان البرهان عزل حكومة حمدوك، واعتقال عدد من وزرائها وتعطيل العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، وحل المجلس السيادي. فربما أدرك الرجل أنه لا نجاة له إلا بنجاة البلاد من براثن العسكر.
فقد دعا حمدوك في رسالة أخيرة وواضحة قبيل اقتياده لمكان غير معلوم، (اتضح أنه منزل البرهان بحسب إعلان البرهان نفسه منذ قليل) الجماهير السودانية إلى النزول للشارع لحماية ثورة التاسع عشر من ديسمبر من الانقلاب العسكري.
يدفع حمدوك ثمن وعيه المتأخر بنوايا قيادات الجيش في الانقلاب على الثورة والسلطة، وإعادة الأمور إلى ما قبل التاسع عشر من ديسمبر 2018 يوم انتفضت جماهير السودان في وجه سياسات الاستبداد والفقر. هذا الوعي المرتبط بإصلاحية حمدوك وطبيعته التوفيقية.
وهي مسؤولية لا يتحملها وحده بل يتحملها قوى الحرية والتغيير – الحاضنة السياسية للحكومة المنقلب عليها وللمكون المدني داخل المجلس السيادي الذي قررت سلطة الجنرالات حله.
ولسوف تكشف الأحداث قدرة الثورة السودانية على التغلب على الانقلاب العسكري البغيض وتجذير المطالب الاجتماعية، لخلق ديمقراطية حقيقية، كما ستكشف مدى استيعاب “حمدوك” للدرس. خاصة وأنه لا زال يحوذ على دعم خارجي، والأهم هو الدعم الداخلي الذي رغم تأثر شعبيته، لازال يتمتع به خاصة بعد ظهوره بمظهر الشجاع الرافض للانقلاب – الداعي للانتفاض ضده.