لسنوات طويلة تم التعامل مع مشاكل الصحة النفسية كمسألة مخزية يجب السكوت عنها. ومع ذلك وخلال السنوات الأخيرة بدأت ملامح الوصم في التراجع بشكل نسبي، ولكن في حين يطلق العلماء على العصر الحالي عصر “القلق”. كما أن مرضا مثل الاكتئاب أصبح يتربع عرش الأمراض الشائعة، يتضاءل الاهتمام بالصحة النفسية لطلابنا ومعها اختفى كل دور للأخصائي الاجتماعي.

عادة يميل الناس إلى التفكير في الاضطرابات النفسية على أنها شيء لا يمكن أن يحدث له أو لأحبائه خاصة الأبناء. محدثا نفسه قائلا: “أنا لست شخصًا مجنونًا”. يتضاعف الأمر بين الطلبة فغالبًا ما يرفض الأولاد الاعتراف بأنهم يعانون من اضطراب أو يبحثون عن المساعدة. ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم كفاية المعرفة وجزئيًا بسبب الخوف من ردود الفعل السلبية من أقرانهم.

أمراض شائعة بين الطلاب

الحقيقة هي أن القلق والاكتئاب واضطرابات الأكل شائعة للغاية بين الطلاب، وفقًا لبحوث الصحة العقلية التي كشفت عنها منظمة الصحة النفسية الأمريكية. فإن واحد من كل أربعة طلاب يعانون من مرض عقلي يمكن تشخيصه.

كما أن الإجهاد الناتج عن الامتحانات، والضغط من الأقران والعائلة، والذي يتضمن الضغط من أجل الأداء الجيد في المدرسة. أو حتى الخروج للتواصل الاجتماعي والاستمتاع جميعها مؤشرات على ازدياد معدل التوتر، والوصول إلى حافة الهاوية بحس المتخصصين.

خلال السنوات الأخيرة أصبح من المعتاد تداول اخبار تفيد بمحاولة عدد من الطلبة الانتحار، ما يدق ناقوس الخطر حول الصحة النفسية لهؤلاء الأبناء. ومع ذلك يتم التعامل مع أعراض مثل التعب المستمر، والصداع، أو حتى العنف الزائد، كعرض طبيعي. بينما يؤكد المتخصصون أن أعراضا مثل التقلبات المزاجية، او حتى الأرق، والتوتر لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها، ولكن تكمن الأزمة في ان الوالدين غير متخصصين. فيما تخلت المدرسة عن هذا الدور، فاختفى دور الأخصائي الاجتماعي، ولم تبادر بتوفير أي نوع من الإرشاد النفسي.

يؤكد الباحثون أن دور الأخصائيين الاجتماعيين في المدرسة يقوم على تعزيز العلاقة بين المدرسة والبيئة وتنظيم هذه العلاقة وتوظيفها في خدمة المدرسة والطلبة. وذلك عبر التركيز على الشخصية ونموها عن طريق البرامج والأنشطة المختلفة التي تُكسِب الخبرات وتُنمَى القدرات. وتستثمر المهارات وتدعم العلاقات بين أفراد المجتمع الصغير وهو المدرسة تمهيداً لتدعيم العلاقات وتقويتها في المجتمع الكبير وهو الوطن.

اختفاء دور الاخصائي الاجتماعي

ولكن الملاحظ أن المسافات يوما بعد يوم تبعد بين الطالب وأسرته من ناحية، ومدرسته من ناحية أخرى، لمياء بسيوني. مؤسسة حملة «أمهات تصنع المستحيل». تقول “في ظل معدلات طلاق غير مسبوقة وجب الانتباه إلى صحة أبنائنا النفسية، وملاحظاتهم من خلال المدرسة التي يقضون بها الوقت الأطول من خلال متخصصين”.

وبشكل شخصي تحكي لمياء كيف أن نجلها واجه مشكلة نفسية بعد مشاجرة له مع بعض زملائه، ولم يجد أي نوع من المساعدة النفسية. وتقول “لا نعرف للأخصائي الاجتماعي وظيفة ولم يشاركنا من قبل في البحث عن أسباب المشكلات التي تواجه أطفالنا. مع العلم أن أبنائي في مدارس أجنبية مصروفاتها تصل إلى آلاف الجنيهات، ومع ذلك لا يتم الالتفات أبدا إلى مشكلاتهم النفسية”.

وخلال مجموعات الأمهات تكثر الشكوى من المشكلات والعثرات التي تواجه أبناءهن، والتي تؤثر بدورها على أدائهن الدراسي، والجميع لا يجد يد العون. أو التوجيه المناسب للتعامل مع هؤلاء الأطفال بمختلف مراحلهم العمرية وتقلباتهم المزاجية، بحسب ما تواجه لمياء.

وتعتبر لمياء أن متابعة الأطفال نفسيا أمر لا يجب أن يكون شكليا، بل يتم العمل على تفعيل الأمر وتوظيف متخصصين مؤهلين لمثل هذه المهمة، فبعض المدارس تقوم بتعيين موظفين غير متخصصين متابعة: “المسألة بقت سد خانة”.

في حين تتذكر لمياء أيام طفولتها حيث كانت علاقة المدرسين بالطلبة متينة، وكثيرا ما كان يقوم هؤلاء المدرسون بدور المرشد النفسي. والأخصائي الاجتماعي، ومع ذلك كانت المدارس تهتم بوجود الأخصائي وتفعيل دوره.

في عصر كورونا أصبحت الحاجة أكبر للإرشاد النفسي، والعناية بالصحة العقلية للطلبة، بحسب ما يعتقد أستاذ التربية الدكتور سامي نصار. فالحاجة للتوجيه والرعاية أصبحت ماسة ليس بالنسبة للطلبة فقط، ولكن حتى للمدرسين.

ويقول نصار: “في ظل ظروف اقتصادية وصحية متعثرة مررنا بها خلال السنوات الأخيرة أصبحنا بحاجة لمراكز متخصصة في الإرشاد النفسي. والتنمية البشرية للطلبة، بعد أن لم يعد وجود الأخصائي الاجتماعي -غير المفعل بالأساس- وحده يكفي”.

الأخصائي الاجتماعي.. مهنة على الورق

المدرس منذ 16 عاما في مدارس إيهاب نبيل يروي شهادته على أحوال الطلاب النفسية، وعلاقتهم بالإخصائية الاجتماعية المفقودة. فيقول “يختلف دور الأخصائية ورقيا عنه في الواقع، وفي حين يعاني الطلاب من مشاكل أسرية جمة تظهر في السلوك العنيف لدى بعضهم. تكتفي الأخصائية بمنطق حصل خير دون محاولة التوغل في معاناة الطالب الحقيقية الي قد تكون نتيجة انفصال الوالدين مما يولد كراهية الآخر على سبيل المثال”.

ويلفت إيهاب إلى أن أغلب الاخصائيين الاجتماعيين من الإناث في المدارس التي عمل بها والتي هي بالعادة مدارس لغات بشكل لا يراعي الفروق بين الجنسين. ويقدم الامر كخدمة فندقية، لا إرشاد نفسي حقيقي.

وفي المدارس الخاصة خصوصا يتم التعامل بمنطق الزبون دايما على حق، لذلك يخشى أغلب الأخصائيين الاحتكاك بالطلاب بشكل حقيقي. خوفا من مالك المدرسة، ومديرها الذي لا يهمه سوى الحفاظ على أكبر عدد من التلاميذ بحسب إيهاب.

التربية النفسية رفاهية أم ضرورة؟

ويلفت إيهاب إلى مسألة الطبقية الحاضرة في إشكالية تفعيل دور الأخصائي الاجتماعي، خاصة في المدارس الخاصة واللغات. بينما يشير أستاذ التربية دكتور كمال مغيث، إلى أن غياب هذا الدور في مدارس “الدولار” إنما يرجع إلى غياب الوعي بأهمية الصحة العقلية للطلاب.

أما في المدارس الحكومية فلا يتوقع مغيث الكثير في ظل نقص المعلمين في هذه المدارس والتي تصل إلى 300 ألف معلم بحسب تصريح الوزير نفسه. مما يجعل التعامل مع مهنة الأخصائي الاجتماعي. والنفسي غير ذات أولوية، ويصبح الالتفات إلى نفسية الطالب محض رفاهية.

ويؤكد مغيث أهمية التربية النفسية للطلبة، وأن نظم التعليم الناجحة في العالم هي التي تكتشف عقليات. وطباع الطلاب منذ نعومة أظفارهم، ويحرصون منذ سن صغيرة على معرفة حدود وقدرات الأطفال، ومشكلاتهم النفسية عبر المتخصصين، لإحسان استغلالها وتطويرها.

ويقول مغيث “تفشل الجهات الرسمية والأسرية لدينا في تذكر الاهتمام بعقول أبناءنا. بينما لا يقل الامر أهمية عن تذكيرهم بالطعام، والتدريب، وتلقي المعرفة”.

كمال مغيث: ضرورة تضمين النظام التعليمي وظيفة المرشد النفسي جنبا إلى الاخصائي الاجتماعي. نتيجة المؤثرات الحديثة التي تجعل من كل طفل عالم منفصل. معتبرا أن تعزيز المنظومة النفسية للطلاب ربما يساهم في انقاذ مستقبل هؤلاء الطلاب، وتأهيلهم للخروج إلى الحياة العملية.

فالمدرسة كما يرى مغيث مؤسسة سياسية واجتماعية وثقافية، الأصل فيها إعدادها الإنسان للحياة المهنية، وكذلك التفكير بشكل منطقي. كما أنها أطول مؤسسة ينتمي لها الإنسان تعليميا وعمليا، حيث يقضي فيها نحو 15 عاما من حياته، مما يحملها المسؤولية الأكبر في إعداد المواطن الصالح.