عند انهيار الاتحاد السوفييتي، كان ماثلا في ذهن الضابط الشاب، بجهاز الاستخبارات السوفييتية، فلاديمير بوتين. عدة دروس سيستقي منها العبر لاحقا، ومن بينها أن تدخل بلاده العسكري في أفغانستان والهزيمة المخزية. كانت واحدة من بين عوامل عدة ساهمت في الانهيار، مثلما قال يوما، وأن الولايات المتحدة نجحت بذكاء في جر السوفييت إلى ذلك الفخ.
وبعد عقود من تلك اللحظة، ومن على كرسيه القيصري، سيتضح أنه تعلم الدرس. وسينتهج بوتين نهجا اعتبره مثاليا لاستعادة بعض من نفوذ روسيا حول العالم: البراجماتية، التي تحمل هدفا بعيدا، يمكن أن تحقق الكثير.
ومن أفغانستان مجددا سيفكر أن بإمكانه انتزاع الكثير.. ولكن هذه المرة بحثا عن مكاسب وتفاديا للهزائم.
منذ الوصول الثاني لحركة طالبان إلى حكم أفغانستان، يُنظر إلى روسيا -ضمن قوى إقليمية أخرى- على أنها أكثر المستفيدين. في إطار رؤيتها التي نفذتها قبل أقل من عقدين، بفتح قنوات تواصل مع الحركة الإسلامية المتشددة. وهو ما يستدعي نظرة على تاريخ تلك العلاقة.
اقرأ أيضا: (الصين وطالبان: شراكة لا تبدو بهذه المثالية)
تاريخ العلاقات الروسية الطالبانية
في أكتوبر 1996، ومع استيلاء طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، استدعى الرئيس الروسي بوريس يلتسين قادة دول آسيا الوسطى. إلى قمة عُقدت على عجل في العاصمة الكازاخية، آنذاك، ألماتي.
المشاركون في القمة اعتبروا أن “التطهير العرقي” الذي تمارسه طالبان، وقسوتها وقدرتها على إلهام المتمردين الراديكاليين في أماكن أخرى إلى جوارهم، يشكّل تهديدا صريحا. وأعلن الاجتماع دعمه لحظر الأسلحة وتجميد حسابات الدولة الأفغانية. واعدا بتعزيز الدفاع عن الحدود الجنوبية لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، ولا سيما حدود طاجيكستان.
ومع القرار الأمريكي بغزو أفغانستان، في أعقاب أحداث سبتمبر 2001، كان الرئيس بوتين، الذي لم يمض على حكمه سوى أقل من عام. أول المتصلين بالرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، معلنا دعمه اللا محدود في “الحرب على الإرهاب”.
وكعادة ضابط الاستخبارات السابق الذي يتمتع بالذكاء والصوت الهادئ، فإن هذا الاتصال في حقيقته لم يهدف لإظهار الدعم، وزيارته إلى موقع برجي مركز التجارة العالمي لم تكن هباءً. وإنما رجا منها أن ينال دعما غربيا في مواجهته العسكرية مع التمرد الانفصالي في الشيشان. والتي كانت إمارة أفغانستان، واحدة من بين دول قلة حينذاك اعترفت بهم رسميا، في بحثها عن الاعتراف الدولي أيضا.
وبوتين ظفر بما أراده: الغرب أطلق يده في استخدام القوة العسكرية المفرطة.
أظهرت روسيا فائدتها للولايات المتحدة، بعدما فتحت مجالها الجوي وخطوط سككها الحديدية لإمداد القوات الغربية، كما باركت استخدامهم للقواعد العسكرية لجيران أفغانستان. وفي عام 2003، صنفت طالبان كحركة إرهابية بالاتساق مع دفء العلاقات مع واشنطن آنذاك، ورغبة في تعزيز علاقتها الجيدة مع الرئيس الأول بعد سقوط طالبان، حميد كرزاي.
ولكن بعد غزو العراق، وبدء أكبر عملية لتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ نهاية الحرب الباردة. وتبني الولايات المتحدة لما يسمى “نشر الديمقراطية” حول العالم. وتزايد القواعد الغربية في منطقة آسيا الوسطى، بدعوى الحرب على القاعدة وطالبان، بدأت موسكو تشعر بالقلق.
والقلق نبع من “تحول الحرب في أفغانستان إلى وسيلة لتعزيز الوجود العسكري الغربي في آسيا الوسطى. إلى جانب توسع الناتو على حدودها الغربية وتطويقها من كل جانب”، بحسب دراسة لمركز الدراسات العربية الأوراسية.
وهنا بدأت العلاقة الروسية مع طالبان في التحول
بدأت روسيا في إجراء “اتصالات مهمة” مع الحركة في عام 2007، وفقا لمركز تحليل السياسة الأوروبية. وفي عام 2011، عين بوتين مبعوثا خاصا لأفغانستان. الأوزبكي المولد زامير كابولوف، الذي تفاوض، قبلها بأعوام، مباشرة مع زعيم طالبان الملا عمر.
وانتقد كابولوف الولايات المتحدة علنا، ولامها على نقاط الضعف في الحكومة الأفغانية وفشلها في كبح جماح التشدد الإسلامي هناك. واصفا حركة طالبان الأفغانية بأنها كيان وطني لا يشكل أي تهديد خارج حدود البلاد ويمكن العمل معه “بعدما تخلوا عن الجهاد العالمي وندموا على اتباع أسامة بن لادن”.
وفي عام 2015 وبعد التوتر الكبير بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم، أغلقت روسيا طرق إمداد الناتو. وبدأت في تبادل المعلومات الاستخبارية حول تنظيم الدولة الإسلامية، مع طالبان. بل وامتد الأمر للتدخل في الصراع عن طريق دعم الأخيرة بالأسلحة، وهو ما تحدث عنه الجنرال جون نيكلسون. أطول قادة القوات الأمريكية والتحالف الغربي خدمة في أفغانستان.
لكن هذا التدخل كان متحوطا، ولم يكن بهدف تغيير مسار الصراع وإنما مضايقة وإحراج الولايات المتحدة، فبحسب الجنرال “كانت الأسلحة بكميات بسيطة، ولم تكن مُصمَّمة لتغيير ميزان القوى على الأرض. فعلى سبيل المثال، أرادت طالبان الحصول على صواريخ أرض-جو لكن روسيا لم تمنحهم إياها. لذا لطالما اعتقدت أنَّ دعمهم لطالبان كان مدروسا إلى حد ما”.
ويعلق مارك بولميروبولوس، مدير عمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في منطقتي أوروبا وأوراسيا: “نحن (الأمريكيون) فعلنا الشيء ذاته أيضا. فقد عززنا الضغط حين كانت روسيا تَهِم بالرحيل عن أفغانستان.. بوتين درس التاريخ جيدا”.
اقرأ أيضا: (إيران وطالبان: علاقة الأضداد تحكمها الفرص والمكاسب)
الولاية الثانية: احتواء وتفاهم
مع تجمع مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية داخل أفغانستان، والخشية من تحولهم إلى مركز جديد للمقاتلين المنتمين إلى جماعات إسلاموية تصنفها روسيا وبلدان آسيا الوسطى إرهابية. ومهاجمة حلفائها، وإحياء التمرد في شمال القوقاز، بدا للمسؤولين الروس أن حكومة كابول ضعيفة، والخلافات تعصف بها من كل جانب، مع تصدع التحالف الحاكم. وترافق هذا مع مؤشرات عن تغير في مواقف حركة طالبان.
وبحسب مركز الدراسات العربية الأوراسية، فإن الاتصالات -العلنية- الروسية مع طالبان بدأت منذ تلك اللحظة. وتوجت باستقبال موسكو وفد الحركة المكون من خمسة من قادتها في إطار سعيها إلى عقد مؤتمر للسلام لبدء مفاوضات بين الحكومة الأفغانية وطالبان تحت اسم “صيغة موسكو”، في نوفمبر 2018. وتوالت بعد ذلك الاجتماعات في عامي 2019 و2020، وفي العام الجاري.
ونتيجة لتعدد لقاءات وفود طالبان مع المسؤولين الروس، والتوصل- فيما يبدو- إلى تفاهمات بشأن عدة أمور بين الجانبين. صرح الجانب الروسي بعدم إغلاقه سفارته في كابول مع وصول الحركة للحكم، وردا على ذلك، أكد المتحدث باسم طالبان محمد سهيل شاهين، في يوليو. أن الحركة “لن تسمح لأي شخص أو جهة باستخدام أراضي أفغانستان لمهاجمة روسيا، أو البلدان المجاورة، أو تهريب المخدرات إلى روسيا”.
تعامل حذر
رغم ذلك تتعامل روسيا بحذر مع الحركة، فعند سؤال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. عن إمكانية التدخل العسكري في أفغانستان، أجاب: “الانسحاب الأمريكي يعني اعترافا بالهزيمة في هذا البلد. وتربطنا اتفاقية دفاع مشترك مع طاجيكستان في إطار معاهدة الأمن الجماعي. وحال تعرضت لهجوم من أي طرف فسيكون لنا رد فعل جدي وفوري”. لكنه أكد أيضا أن روسيا لن تتدخل في شؤون أفغانستان الداخلية.
هذا التفاهم عبّر عنه ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم طالبان ووكيل وزارة الإعلام في الحكومة المؤقتة. في شهر سبتمبر الماضي حينما أعرب عن قناعته بقدرة روسيا على لعب دور الوسيط بين كابول والأمم المتحدة في معالجة جملة من الأمور العالقة وأهمها رفع العقوبات. ولافروف رد عليه قائلا إن بلاده ستواصل حث الحركة على التصرف بطريقة حضارية، وأنها تدعمهم في عزمهم مواجهة داعش.
رغم ذلك يعتقد مركز الدراسات العربية الأوراسية أن يظل الوضع بالنسبة إلى روسيا غامضا في أفغانستان. عكس المرحلة السابقة التي كان فيها الوجود الأمريكي ضامنا للأمن بحد أدنى، ويتوقع أن يستحوذ الملف الأفغاني على جل اهتمام السياسة الروسية في المرحلة المقبلة.
اجتماع موسكو والرفع من قوائم الإرهاب
تأكيدا على الأولوية التي تمنحها روسيا لها مؤخرا، استضافت، في العشرين من الشهر الجاري، محادثات دولية حول أفغانستان بحضور حركة طالبان. سعيا لتأكيد نفوذها في آسيا الوسطى والدفع في اتجاه التحرك ضد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يحتشدون، بحسب قولها، في هذا البلد الهش.
وإلى جانب البلدين، شارك في المحادثات مسؤولو الصين وإيران وباكستان والهند وطاجيكستان وقيرغزستان وتركمنستان وأوزباكستان وكازاخستان. فيما لم تشارك الولايات المتحدة في المحادثات “لأسباب لوجستية”، وفق وزارة الخارجية الأمريكية.
ودعت روسيا والصين وإيران إلى العمل مع سلطة الحركة في أفغانستان من أجل ضمان “استقرار” المنطقة المعرضة إلى مخاطر كبيرة على صعيد الأمن. وحضت الحركة الإسلامية على انتهاج “سياسات معتدلة”.
وجاء في البيان المشترك أن “عبء” إنعاش الاقتصاد والنمو في أفغانستان يجب أن يتحمّله “الأطراف الذين كانوا حاضرين في البلاد في السنوات العشرين الماضية”. في إطار الأزمة الإنسانية الخطيرة التي تواجهها.
تجاهل الاعتراف بطالبان
ولكن المحادثات تجاهلت إمكانية الاعتراف بحكومة طالبان. وجدد بيان منفصل لموسكو دعوته لتشكيل حكومة “تشمل كل الأطراف” وتضمن إشراك الفرقاء المحليين السياسيين كافة في السلطة. ومن جهته قال رئيس وفد طالبان نائب رئيس الوزراء، عبد السلام حنفي، إن “عزل أفغانستان لا يصب في مصلحة أي طرف. هذا ما أثبتت تجارب الماضي صحته”.
وفي أحدث تطور ناتج عن هذه المحادثات، قال الرئيس الروسي بوتين، في اليوم التالي، إن بلاده تتجه نحو رفع طالبان من قائمتها للجماعات الإرهابية. مضيفا أن قرار استبعادهم من قائمة المنظمات الإرهابية، يفترض إتمامه على مستوى الأمم المتحدة، وأن بلاده ستتحرك في هذا الاتجاه.
ووفق الخبير الروسي بيوتر أكوبوڤ، تطمح روسيا إلى عملية سلام تفضي إلى حكومة ائتلافية بين طالبان وباقي الأطراف الأفغانية الأخرى. وبالحد الأدنى عدم تحول أفغانستان إلى عنصر مزعزع لأمن بلدان آسيا الوسطى الحليفة مما يضاعف الأعباء الأمنية والاقتصادية على موسكو.
المنطلقات الروسية الحقيقية
يرى أندريه سيرينكو، رئيس مركز الدراسات الأفغانية المعاصرة ومقره موسكو، أن “روسيا تريد استخدام أفغانستان دون التورط فيها (..) وتريد أن تظهر كوسيط رئيسي في الأمور المتعلقة بها”. مضيفا أن الأولوية القصوى لروسيا هي استغلال المخاوف الأمنية الإقليمية الجديدة لزيادة نفوذها في آسيا الوسطى، وهي منطقة تتنافس فيها على النفوذ مع بكين.
وتابع “هذا المؤتمر ليس حول أفغانستان. الأمر كله يتعلق بروسيا، التي تريد أن تُظهر للأمريكيين أنه بدونها، لن تُحل مشكلة أفغانستان”.
يشكّل الانسحاب الأمريكي تحديات لروسيا، ولكنه يمنح فرصا لبوتين أيضا، بتعبير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني “فهو يسعى، أكثر من مكافحة الإرهاب. إلى إضعاف البنية الأمنية الليبرالية التي قادتها الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لصالح رؤيته لعالم متعدد الأقطاب. وبالنسبة له. فإن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يضعف هذا الهيكل، ويترك فراغا لا خيار أمامه سوى ملئه”.
وأضاف المعهد “على عكس أسلافه السوفييت، ركز بوتين على الواقعية أكثر من الأيديولوجية لتحقيق أهدافه. ومنذ توليه السلطة قبل أكثر من عشرين عاما، مد باستمرار جسور التواصل مع الجميع في الشرق الأوسط. سواء الحكومات أو حركات المعارضة الرئيسية لها، وطبّق نموذجا مشابها لأفغانستان، حيث لعبت موسكو لعبة مزدوجة لسنوات”.
صحيح أن روسيا ليست سعيدة بوجود إمارة إسلامية غير بعيد عن حدودها. لكن طالما أن مشروع طالبان يبقى محليا دون رؤية شاملة -على خلاف تنظيم الدولة الإسلامية- وأن هم الحركة الأكبر هو فرض الشريعة في أفغانستان -مهما كان الثمن الذي سيدفعه السكان- فإن روسيا ستقبل بالأمر. بحسب ماكسيم سوشكوف الباحث في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية.
الخطوط الحمراء الروسية
ويرى أن الخطوط الحمراء الروسية هي: خطر مرور عدوى عدم الاستقرار من أفغانستان إلى آسيا الوسطى. والخطر الذي يمكن أن يشكّله تنظيم الدولة الإسلامية على روسيا وحلفائها انطلاقا من الأراضي الأفغانية. وإمكانية تفاقم حجم تهريب المخدرات إلى روسيا.
ويشير سوشكوف إلى المرتكز الأكثر أهمية “لا تفوّت روسيا فرصة للتذكير بأن انهيار الدولة الأفغانية أمام طالبان هو نتيجة مباشرة للفشل الأمريكي. كما تعمل على نشر هذا التفسير بالقرب من بلدان ترى أنها تعوّل أكثر من اللزوم على مساندة أمريكية، مثل أوكرانيا أو جورجيا”.
تبذل موسكو إذن جهودها لإقناع قيادات أو قوى معارضة في بلدان تمزّقها صراعات لا تزال مستمرة. وتنذرهم قائلة: “لن ينفعكم الأمريكيون، بل قد يجعلون الوضع أسوأ حتى مما هو عليه”، بتعبير الباحث.
بعبارة أخرى، فإن ما جرى في أفغانستان يمثل فرصة لتأكيد روسيا على التراجع الأمريكي في النظام الدولي. ويوضح الباحث “عزز التدخل الروسي في سوريا ثقل موسكو على الصعيد الإقليمي كما الدولي. وقد تلعب السياسة الروسية في أفغانستان قريبا نفس الدور”.
تمثل أفغانستان جزءًا لا يتجزأ من الجغرافيا السياسية الروسية. وأسهمت -إسهامًا غير مباشر- في رسم سياساتها الخارجية في منطقة آسيا الوسطى عبر التاريخ. وبتعبير مركز الدراسات الأوراسية “سيظل هذا الدور المهم لهذا البلد حاضرا في ذهن صانع القرار الروسي، ولا يمكنه تجاوز أهميته”.