الخديو إسماعيل حكم مصر بين عامي 1863 – 1879 م، وهو الخليفة الخامس بعد جده محمد علي، ثم والده إبراهيم، ثم ابن عمه عباس الأول، ثم عمه سعيد .
كان الخديو إسماعيل ديكتاتورا طموحا وعظيما وشديد الذكاء ومن أصحاب الهمم العالية، أراد أن تكون مصر قطعة من أوروبا، عاش كما لو كان إمبراطورا وليس واليا عثمانيا، وتصرف كما لو كانت مصر إمبراطورية استعمارية تنافس إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان له كل يوم إنجازات حقيقية على الأرض، لكن كانت له في مقابل كل إنجاز استدانة جديدة واستلافا جديدا وقروضا جديدة، كان في سباق صاروخي مع الزمن، كان يود أن ينجز في سنوات معدودات ما أنجزته أوروبا في قرون وأحقاب متطاولة ومتعاقبة على بسطات الزمن المطمئن، كانت أوروبا حلمه وهاجسه، كما كانت قبلته ووجهته، أغدقت عليه في القروض، وأمدته بالخبراء والمستشارين، وتسللت له من كل الثغرات، وأحاطت به من كل الجهات، وأحكمت عليه الحصار من كل الجوانب، حتي وقعت مصر في عهده فريسة احتلال أوروبي مدني شامل دون طلقة رصاص واحدة .
ديون إسماعيل رهنته للدائنين، ثم رهنت البلد معه، ثم خلعوه عن سلطته بقرار من السلطان العثماني، ليعرف -على وجه اليقين- أنه ليس إمبراطورا حقيقيا بل إن الإمبراطور العثماني ذاته لم يكن إلا شكلا دون مضمون حقيقي، خلعوه في 26 يونيو 1879م، وعينوا نجله مكانه بقرار صوري من السلطان العثماني، وانتهي المطاف باحتلال عسكري استمر ثلاثة أرباع قرن كانت فيها مصر مستعمرة بريطانية، وكان فيها الحكام من سلالة محمد على أدوات رخيصة تنفذ إملاءات الاستعمار .
باختصار شديد: ديون إسماعيل أجهضت مشروعه النهضوي العظيم، مثلما أهدرت حصاد 75 عاما من شبه الاستقلال المصري عن تركيا العثمانية، مثلما أفقدها استقلالها تماما لتخضع 75 عاما لاستعمار عسكري بريطاني صريح .
أكبر وأضخم عدد من المشاريع والإنجازات في أقصر وأسرع وقت ممكن، كان معناه أكبر وأضخم عدد من القروض الأجنبية والضرائب المحلية في أقصر وقت ممكن، ثم وصلت الاستدانة الأجنبية إلى نهايتها مع عجزه عن الانتظام في سداد المستحق منها، كذلك وصلت الضرائب والإتاوات وكل أشكال الجباية المحلية إلى نهايتها مع جفاف الضرع الحلوب ووصوله إلى نقطة الصفر .
بعد عشر سنوات من حكمه تأزمت اقتصاديات البلاد في الداخل والخارج، كل يوم يمر عليه في الحكم تزداد كراهية الشعب له وغضب الناس منه ونقمتهم عليه، فقد قرأت في كتاب الأستاذة الكبيرة عايدة العزب موسي، الصادر عن دار الشروق، تحت عنوان “130 عاما على الثورة العرابية“، قرأت في الفصل المعنون: “رأي الشيخ محمد عبده في تاريخ عرابي “ما أورده الشيخ محمد عبده -مفتي الديار المصرية في الفترة من 1899 – 1905- فقد قال الشيخ عبده ما معناه أن أفكارا مثل خلع الخديو إسماعيل ومثل اغتياله ومثل إعلان الجمهورية كان يتم تداولها بين النخب المشغولة بالقضايا الوطنية سواء من المدنيين أو العسكريين، وبالنص الحرفي كما ورد في الكتاب المذكور يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في صفحة 55: “أما ما قاله عرابي بصدد خلع إسماعيل، وأنه اقترح ذلك، فأقول إنه من المؤكد أننا كنا نتكلم سرا في هذا الشأن، وكان الشيخ جمال الدين موافقا على الخلع، واقترح عليَّ أنا، أن أقتل الخديو إسماعيل، وكان يمر كل يوم بمركبته على جسر قصر النيل.
ويضيف الأستاذ الإمام محمد عبده أنه كان موافقا -كل الموافقة- على اقتراح الأفغاني بقتل إسماعيل وبالنص الحرفي يقول: “لكن كل هذا كان كلاما نتهامسه فيما بيننا، وكنت أنا موافقا الموافقة كلها على قتل إسماعيل، ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة، ولو أننا عرفنا عرابي في ذلك الوقت فربما كان في إمكاننا أن ننظم الحركة معه، لأن قتل إسماعيل في ذلك الوقت كان يعتبر من أحسن ما يمكننا عمله “.
ويبرر الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 – 1905 م التفكير في قتل إسماعيل من جانب الوطنيين المصريين بالقول: “قتل إسماعيل كان أحسن ما يمكننا عمله في ذلك الوقت لأنه كان يمنع تدخل أوروبا، لكن لم يكن من الممكن في ذلك الوقت تأسيس جمهورية إذا نظرنا إلى حالة الجهل الذي كان سائدا على العقول. انتهت أقوال الشيخ .
أما عرابي نفسه فيقول في الكتاب المذكور أعلاه ص 44: “كانت البلاد في حالة مروعة من الظلم، ومن ذلك الوقت بدأت أهتم بالسياسة رجاء أن أخلص البلد من الخراب، أخذت أفكر في الشؤون السياسية، وأتذكر أني رأيت الشيخ جمال الدين -المقصود هو الثائر الفقيه الفيلسوف جمال الدين الأفغاني 1838 – 1897 وقد عاش في مصر في سبعينيات القرن التاسع عشر وبذر فيها بذور الإصلاح والثورة معا – ولكني لم أكلمه، وقد أفادتني علاقتي القديمة بالأزهر في معرفة عدد من الطلبة، وكان من أفضل من عرفتهم الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل”.
مثلما كشفت شهادة الأستاذ الإمام محمد عبده أن أفكارا مثل خلع أو قتل إسماعيل وإعلان الجمهورية كانت متداولة بين المدنيين في صفوف الحركة الوطنية، فإن شهادة الزعيم أحمد عرابي 1841 – 1911 م تكشف الوجه المكمل وهو تداول هذه الأفكار بين العناصر الوطنية في صفوف الجيش المصري إذ يتحدث عن اجتماع له مع زملائه من الضباط يقول في ص 46: “لكن قبل أن نفترق اجتمعنا، فاقترحت عليهم، أن نكون عصبة لخلع إسماعيل، ولو فعلنا ذلك لحللنا المسألة من وقتها، لأن القناصل -يقصد ممثلي الدول الأوربية- كانوا يرغبون في التخلص منه بأي طريقة، وكنا قد وفرنا على أنفسنا جميع المشاكل التالية، وكنا وفرنا 15 مليون جنيه أخذها إسماعيل وقت خلعه، ولكن لم يكن قد ظهر من يقود هذه الحركة، فوافق الموجودون على رأيي، لكنا لم نقدر على تنفيذه، ثم خُلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن الذين فعلنا ذلك -وليس الأوربيين- لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، وكنا أعلنا الجمهورية.
ويختتم عرابي بالقول: “وقد اقترح الشيخ جمال الدين على الشيخ محمد عبده أن يقتل إسماعيل على جسر النيل فوافق محمد عبده علي الاقتراح”. انتهت أقوال عرابي .
لقد حاول إسماعيل إنقاذ نفسه وبلده من تبعات الديون لكن في وقت متأخر جدا، في السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه، فسمح للبرلمان -مجلس شوري النواب- بمعارضة وطنية فريدة من نوعها وربما سابقة لعصرها، مثلما سمح بصحافة وطنية فعالة، مثلما سمح بأوسع هوامش للرأي العام، مثلما بدأ يعيد النظر في سياساته المالية، لكن لم يساهم كل ذلك إلا في المزيد من انفراط العقد بين يديه واستفحال الأزمة وبعدها إمكانات السيطرة .
تم إمهال إسماعيل أربعة أيام حتي يغادر إلى منفاه في إيطاليا، وأخذ يتنقل بين عواصم أوروبا، تراوده أحلام اليقظة في العودة إلي الحكم، حتى مات في الثاني من مارس 1895 م، ونُقل جثمانه إلى مثواه الأخير في مسجد الرفاعي بالقاهرة .
……………
أن يكون في كل يوم إنجاز، وفي كل شبر مشروع جديد، وفي كل يوم ضريبة علي الناس، وفي كل صباح سلفة وديون وقروض جديدة من الأجانب، وأن يتم ذلك في أسرع وقت، فهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .