قدم الفريق عبد الفتاح البرهان القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية خارطة طريق للمستقبل السوداني على المدي القصير، وذلك في خطابه الثاني بعد استيلائه المطلق على السلطة، وتقوم هذه الخارطة في تقديرنا على عدد من المعطيات الأساسية منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، على المستوى الأول يبدو واضحا أن الرجل مارس سلوكا تقليديا للمؤسسة العسكرية السودانية في معاداة الأحزاب السياسية، وفي سياق مواز سعى إلى تكوين حاضنة سياسية بديلة عن تحالف الحرية والتغيير، وذلك في ضوء انعدام هذه الحاضنة من الفئات الاجتماعية للشعب السوداني، بعد مظاهرات ٢١ أكتوبر التي جددت الطلب السياسي الشامل على الانتقال الديمقراطي، والتحول للحكم المدني ولو رمزيا بانتقال قيادة المجلس السيادي للمدنيين، وذلك مقابل اعتصام القصر الجمهوري الذي انفض سامره سريعا، بل وأنتج انشقاقات مؤخرا في حركة العدل والمساواة التي أعلنت تبرأها من دعم الانقلاب.

في هذا السياق وكما وضح من خطاب البرهان فإن الرجل يحاول الاعتماد على المكون القبلي والأرياف في عموم السودان، وهما القوى التي تمارس أدوارا تقليدية وتاريخية ضد كل تحرك للقوى الحديثة في السودان في محاولتها الدؤوبة لتدشين دولة المواطنة المتساوية، عبر أكثر من ثورة في التاريخ السياسي الحديث للسودان.

أدوات البرهان كانت واضحة لضمان ولاء هذا المكون وهو التمثيل السياسي في هياكل السلطة عبر ممارسة هذه المكونات حق الاختيار لممثليهم في المكونات الانتقالية، وذلك في مجلس سيادي يملك صلاحيات رئيس الجمهورية يكون أعضاؤه ممثلين لأقاليم السودان تمثيلا جهويا، وهو ما سيجري تطبيقه أيضا على مستوى مجلس الوزراء واختيار ولاة الأقاليم، وهي الفكرة التي سبق وأن طرحها محمد الأمين ترك ناظر عموديات قبائل البجا في شرق السودان، ولكن اقتراحه قد تبلور في اتجاه أن يكون هذا المجلس عسكريا وليس مدنيا، وهو أمر لم يفصله البرهان على وجه الدقة.

البرهان
البرهان

ويبدو التحدي أمام البرهان في الاعتماد على المكون القبلي، هو وجود مكون طائفي في سياق المكونات القبلية، وهو المكون المنتمي تقليديا لحزبي الأمة والاتحادي، ويبدو الأنصار وهم القواعد الجماهيرية لحزب الأمة حاليا أكثر فاعلية من الختمية المنقسمة أحزابهم الاتحادية، ولعل ذلك ما يفسر القبض على صديق الصادق المهدي، ابن الصادق المهدي قبل ساعات، وهو الرجل الذي يستطيع أن يحرك جماهير الأنصار ضد الانقلاب .

في سياق مواز، غازل البرهان الشباب في لجان المقاومة، وقال إنه سوف يجري الاعتماد عليهم في هياكل الدولة، وهؤلاء الشباب هم قواعد الثورة السودانية على الأرض والموجودون في الأحياء بالمدن الكبرى، ويقودون حاليا عصيانا مدنيا، ظهرت ملامح أولية لنجاحه، بعضهم منتم للأحزاب السياسية وبعضهم مستقل ومخلص لفكرة التغيير والانتقال لحكم ديمقراطي، وتبدو هذه الفكرة مشهورة، ومعمول بها كآلية تفتيت الخصم، والعمل على تكوين انشقاقات، ومن المرجح أن يكون نجاح البرهان في استقطاب شباب لجان المقاومة محدودا.

المعطى الأخير لمحاولة تكوين حاضنة سياسية للانقلاب، هو الالتزام باتفاقية جوبا للسلام، وهو أمر له بعدان خارجي وداخلي، على المستوى الخارجي هذا الالتزام بمثابة طمأنة للمجتمع الدولي، أن مجهوداتهم لإسناد هذا الاتفاق لم تتحول لقبض ريح.

أما على المستوى الداخلي فإن اتفاقية جوبا هي الاتفاقية التي يعتمد نجاحها على الجبهة الثورية المكونة من ثلاثة فواعل رئيسيين منهم مالك عقار والي النيل الأزرق وعضو المجلس السيادي المنحل الذي يبدو صامتا ولكنه متململ أيضا، أما جبريل إبراهيم فمرجعيته للإسلامويين السودانيين تجعل موقفه ضعيفا، والانقلاب عليه داخل حركته يجعل موقفه أكثر ضعفا بينما يلعب انتماء مني أركو مناوي حاكم دارفور لقبيلة الزغاوة دورا في جعل سنده الدارفوري ضعيفا نظرا لضعف وزن الزغاوة ديمغرافيا في إقليم دارفور الكبير.

المعطيات الخارجية التي يعتمد عليها البرهان كحواضن هي التزامه بالاتفاقات الدولية التي وقعها باعتباره رئيسا للمجلس السيادي المنحل، وحصرا هي اتفاقية السلام الإبراهيمي مع إسرائيل، وهو أمر بالتأكيد يدعم وزنه السياسي لدى كل من واشنطن وتل أبيب، حيث من الملاحظ أن واشنطن لم تصنف تحرك البرهان للاستيلاء على السلطة بالانقلاب حتى الآن.

خارطة الطريق التي طرحها البرهان تواجه تحديات وحتى الآن نجاحها مشكوك فيه نظرا لعدد من العوامل:

  • إن قطاعات من الجيش غير راضية عن هذا التطور، والموجودون حاليا في مقر القيادة العامة مقطوعي الصلة بأهاليهم، طبقا لمعلومات من الداخل السوداني متاحة على الفضائيات العالمية.
  • وجود مكون تنظيمي للثورة السودانية في الأحياء، ليس في العاصمة وحدها ولكن أيضا في المدن الكبرى. المكون التنظيمي الثوري عناصره الأساسية قيادات الصفوف الثانية والثالثة من الأحزاب السياسية، فضلا عن لجان المقاومة في الأحياء، وكلها معطيات تجعل مقاومة البرهان قائمة وممتدة وتملك فاعلية .
  • إن وزارات حمدوك ووزراءه فاعلين في المشهد السياسي عبر فيس بوك رافضين للانقلاب ومعلنين عصيانا مدنيا يملك مقومات النجاح داخل السودان وخارجه حيث أعلنت سفارات ١٣ دولة أنها لا تمثل البرهان، بينما أعلنت وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي رفضها للانقلاب وعدم جواز فرض إرادة طرف على آخر.
  • أن الإدارة الأمريكية رغم عدم تصنيفها الاستيلاء على السلطة كانقلاب عسكري، لكنها سوف تكون مجبرة على ممارسة ضغوط متنوعة على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يجعل اندفاع الناس للشوارع قائما وممتدا أيضا تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية، التي لن يملك البرهان حلا لها رغم امتلاك المؤسسة العسكرية لموارد اقتصادية .
  • أن الفاعلين على الأرض ضد ثورة الشعب والعصيان المدني هم قوات الدعم السريع بما يجعل لهم ميزة نسبية على القوات المسلحة السودانية، وهو ما يجعل السودان مفتوحا على انهيار مؤسسة الدولة، وسيطرة ميليشيات عسكرية ستكون متحاربة.
حمدوك
حمدوك

في هذا السياق ربما يكون مطروحا في هذه الآونة قيام الولايات المتحدة بقيادة مجهود دبلوماسي براوفع إقليمية يحسن من المشهد ويدعو لحوار سياسي داخلي، دفعا وراء بلورة منصات سياسية جديدة تضمن استقرار سياسي في المرحلة الانتقالية ولو نسبيا، وقد وضحت معطيات هذا السيناريو باتصال جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي بالقاهرة، وعدد من دول الخليج، وتبدو فرص نجاح هذا السيناريو في الآتي:

أن المكون المدني قد أدرك أن الإسناد الأمريكي له غير مطلق، وبالتالي سيكون أقل تمترسا وربما نضجا في التعامل مع البيئة الداخلية والخارجية المحيطة به.

أن الحوار السياسي بين الأطراف يخلق معادلة متوازنة من المكونات السودانية ستكون بديلة لقاعدة الإخوان المسلمين وحزب المؤتمر الوطني المنحل التي لم تنزل الساحة بعد بثقلها.

في هذا السياق من المطلوب أن تنشط القاهرة في لعب دبلوماسي قائم على التوازن بين الأطراف، وعدم تقديم دعم مطلق للبرهان تماهيا مع صورة جديدة لمصر يتم تدشينها حاليا طبقا لاستراتيجية حقوق الإنسان التي أثمرت عن رفع حالة الطوارئ، وأيضا قائمة على توازنات قوى قد تكون مختلة وفي غير صالحه، وأيضا احتواؤها صعب نظرا لتكوين المجتمع السوداني المتعدد، حيث من المطلوب أن يتم تنشيط مظلة الجامعة العربية لتكون مظلة للدور المصري في السودان في إطار جماعي عربي .

في حال نجاح الشعب السوداني في قلب المعادلات السابقة عبر ثورة شاملة جديدة. يكون من المطلوب التعجيل بالانتخابات العامة لأن مشهدا انتقاليا جديدا من المرجح أن يكون مشهدا صراعيا، تحت مظلة نعرات إثنية سوف يسفر عن تفكيك الدولة السودانية.

وفي الأخير نسأل الله السلامة للسودان وأهله.