لا ينبغي أن ينسينا تلاحق الأحداث محاولة أحد المواطنين قبل أيام تحطيم أحد كباش ميدان التحرير الأثرية مرددا شعارات دينية، لم تكن المطرقة الحديدية التي جلبها المعتدي كافية للقضاء على أحد منتجات حضارة اشتهرت بتحديها للزمن، وطالما تصدت للكثير من المحاولات الأكثر عنفا بما لا يقاس، لكن وصول المعتدي بمطرقته إلى هذه المنطقة شديدة الحيوية في ميدان التحرير، ينبهنا إلى أن الخطر موجود وقريب مهما ظننا أنه ابتعد في المكان أو خفت في الصوت.

ستكشف التحقيقات ما إذا كان المعتدي متطرفا أم مضطربا نفسيا أو الاثنين معا، فقد ارتبط توصيف الخلل النفسي والمرض العقلي بسلسلة طويلة من الاعتداءات التي اتخذت الطابع الديني، وإذا كان هذا الربط جائزا وممكنا، فإنه من المثير للانتباه أنه لا يظهر تقريبا إلا في الاعتداءات والجرائم المطابقة لجرائم التنظيمات الإسلامية المتطرفة، على غرار الاعتداء على الكنائس أو على سكان من الأقباط أو حتى جريمة مقتل فنانة مسرحية شابة ووالدها قبل سنوات على يد “مختل عقلي” كان له نفس السمات الدينية المتطرفة، فلم نسمع من قبل – على حد علمي – عن هجمات منسوبة لمختلين مسيحيين أو بهائيين أو ملحدين، ما يجعل من الصعب – في كثير من الأحيان – تمييز الشعرة التي تفصل بين التطرف الإسلامي والجنون.

يضعنا هذا أمام أسئلة محيرة، ففي الوقت الذي تمتليء فيه المصحات العقلية في أنحاء العالم بالموهومين من قبيل مدعي النبوة والألوهية والمؤمنين بأنهم المهدي المنتظر أو المسيح، وهم عادة من مرضى الفصام ولايكون خطرهم – في أغلب الأحوال وليس كلها – إلا على أنفسهم، فإن ظاهرة المختل عقليا أو نفسيا الذي يهاجم كنيسة أو مواطنين أبرياء أو يحطم ما يظن أنها “أصنام”، هي ظاهرة يبدو أنها مرتبطة بالمجتمع الإسلامي أكثر من غيره، بالثقافة الإسلامية أكثر من غيرها، ثم إنها تختلف عن ظاهرة “المجذوبين” الذين تراهم في باحات أضرحة الأولياء، الذين تكمن ورائهم حكايات إنسانية أو تأخرات عقلية لكنهم أبعد ما يكونون عن العدوانية، بل إلى البراءة والطيبة أقرب.

وفي ظل “الصحوة” الوهابية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العقود الأخيرة، وأحيت وأنشأت العديد من التنظيمات العنيفة والمتشددة والإرهابية. لم يكن ثمة فرق بين ممارسات كثير من هذه التنظيمات، بل وأفكار كتبهم نفسها، وما يصنعه هؤلاء “المختلون” الذين نقرأ عنهم في الصحف، فماهو  الفارق – على سبيل المثال-  بين مطرقة معتدي ميدان التحرير ومطرقة محطم تماثيل أسود المنارة في رام الله قبل عشرة أيام، وتفجير تنظيم طالبان لتمثالي بوذا العملاقين قبل عشرين عاما؟ إن كلها “أصنام” سواء في نظر المختل عقليا أو المتشدد دينيا، وكذلك الهجوم على كنيسة أو مسرح أو حتى مدرسة بنات في هذا البلد المسلم أو ذاك.

إن الفوارق متعددة بين المرض النفسي والخلل العقلي، لكن كلاهما ينتج ما يمكن أن يتطابق بشدة مع التطرف الديني، سواء كنا بصدد أخطاء التفكير (المرض النفسي) أو الهلاوس (المرض العقلي). لا يرى المتطرف نفسه في واقعه الطبيعي وزمنه الحالي، لا يدرك أنه في ميدان التحرير سنة 2021 وتحته مترو الأنفاق وبجواره البنايات والفنادق والمواطنين يحملون أجهزة المحمول  والآيباد، بل يرى نفسه في صحراء ما ويرى الآثار  أصناما تطلب العبادة كاللات والعزى قبل 1500 عام، ولا يدرك حتى أن الكبش الذي “يواجهه” ينتمي لحضارة أقدم بكثير، “كبش آمون” يعود إلى 3500 عام، أي أن بينه وبين عصر صدر الإسلام مدة أطول من تلك التي بين صدر الإسلام وعصرنا الحديث، إنه تمثال ينتمي إلى حضارة ولأنه كذلك فقد صمد طويلا أمام أعداء الحضارة وسيصمد – كالأهرامات-  إلى الأبد، أما نحن فلا نعرف كم سنصمد وسط كل هذا الجنون.