لم تمنح الدساتير أعضاء المجالس النيابية «الحصانة البرلمانية» لحمايتهم من الملاحقة القضائية في اتهامات تتعلق بالفساد أو التربح أو غيرها من الجرائم الجنائية، وإنما لحمايتهم من المساءلة عما يبدونه من آراء وما يقومون به من أعمال في إطار أداء مهامهم الرقابية والتشريعية تحت القبة.
«الحصانة البرلمانية» وُجدت حتى يتمكن النائب من ممارسة دروه كرقيب على أعمال الحكومة وكيلا وممثلا عن الشعب الذي اختاره، يتستر بها من تغول السلطة التنفيذية التي من المفترض أن يقومها ويساءلها ويحاسبها، ولا يجب أن يتم توظيفها في التستر على تهم فساد وتربح تطال النواب أو في تكبيل يد المؤسسات والهيئات الرقابية والقضائية والحيلولة دون قيامها بدروها المكفول لها بحكم الدستور والقانون في ملاحقة الخارجين على القانون حتى لو كانوا نوابا.
بدعوى توافر «شبهة الكيدية»، رفض مجلس النواب قبل أيام طلب من النائب العام برفع الحصانة عن النائب الوفدي تامر عبد القادر حتى يتسنى للنيابة التحقيق معه في قضية فساد ورشوة متورط فيها 4 متهمين وليس هذا النائب فقط.
رفض المجلس رفع الحصانة عن عبد القادر حمل اتهام مبطن للمؤسسات الرقابية والقضائية التي تتبعت خيوط الواقعة وأجرت تحقيقاتها وسجلت للمتهمين، بأنها تكيد للنائب الموقر الذي ورد ذكر اسمه في تسجيلين من إجمالي 11 تسجيل تم تسليمهم إلى المجلس ضمن أوراق ومستندات القضية.
عبد القادر دافع عن نفسه خلال جلسة نظر رفع الحصانة وقال أنه وغيره من النواب يواجهون دائما مكائد بسبب خصومات سياسية في الشارع، وتمسك زعيم الأغلبية وممثل حزب «مستقبل وطن» بالمجلس النائب أشرف رشاد برفض طلب رفع الحصانة عن النائب بدعوى أن «شبهة الكيدية متوفرة»، مشيرا إلى أن النائب عبد القادر فنّد وأوضح بعض الحقائق بشأن الموضوع محل الاتهام، وتأكد البرلمان من براءته، مضيفا :«نحن واثقون من براءة النائب».
حديث النائب الوفدي الذي خاض معركة الانتخابات البرلمانية الماضية على قائمة «من أجل مصر» التي شكلها حزب «مستقبل وطن» وحديث زملائه من أعضاء البرلمان، وضع النيابة العامة موضع الخصم، وحمل اتهامات للمؤسسة القضائية التي من المفترض أنها تنوب عن المجتمع في إقامة الدعوى الجنائية بأنها تكيد للعضو، وهو ما رفضه النائب مصطفى بكري خلال الجلسة، نافيا وجود شبهة المكايدة في قضية «رشوة عبد القادر»، وطالب برفع الحصانة عن النائب كي تتولى جهات التحقيق تحديد البراءة من عدمها.
بكري قال في كلمته خلال الجلسة: «يعز علينا أن نقف هذا الموقف وزميل معنا في مجلس النواب، مطلوب رفع الحصانة عنه، لأننا أدينا القسم على احترام الدستور والقانون»، مشددا على عدم وجود مكايدة من جانب النائب العام والرقابة الإدارية في هذه القضية.
السؤال الذي طرح نفسه بعد تلك الجلسة: «إذا كان النائب واثق من برائته ومتأكد من ورود اسمه أو صوته في التحقيقات والتسجيلات بالمصادفة، أو أن بعض خصومه السياسيين زجوا باسمه في القضية من باب المكايدة، فلماذ لم يتقدم هو بطلب إلى البرلمان لرفع الحصانة عن نفسه حتى يضع نفسه تحت تصرف قضاء مصر الشامخ ليعلن براءته كما يقول، فيقطع الشك باليقين ويضرب المثل على أن البرلمان لا يتستر على فساد وأن أعضائه يدعمون النزاهة والشفافية وأنه هو شخصيا ليس على رأسه بطحة؟».
مجريات تلك الجلسة، ليس لها إلا نتيجة من اثنتين لدى الرأي العام، وهما إما أن مجلس النواب يتستر على نوابه الذين ينتهكون القانون، أو أن جهات الرقابة والتحقيق التي كفل لها القانون والدستور إخضاع أي مواطن لسلطتها تكيد لأحد المواطنين، أو أنها تعجز في تلك الواقعة عن إخضاع نائب للتحقيق في قضية فساد، فكيف لتلك الجهات أن تمارس سلطتها مع باق المتهمين في نفس القضية وهناك طرفا لايزال فوق المساءلة والاتهام.
ما جرى في مجلس نوابنا الموقر، أعاد إلى الأذهان ما جرى في البرلمان الكويتي الذي تم تأسيسه بعد نحو قرن من بداية الحياة البرلمانية في مصر، ففي منتصف العام الماضي قرر البرلمان الكويتي رفع الحصانة عن النائبين صلاح خورشيد وسعدون حماد الذين طلبت النيابة العامة التحقيق معهما لتورطهما في قضية غسيل أموال ودفع رشاوى المتهم فيها النائب البنغالي محمد شهيد إسلام.
لم يعترض أحد من أعضاء مجلس الأمة الكويتي ولم تلاحق النيابة العامة هناك بتهمة الكيد للنواب، بل انصاع المجلس ووافق بالإجماع على رفع الحصانة عن النائبين وتم حبسهما على ذمة التحقيقات إلى أن إخلي سبيلهما بكفالة على ذمة القضية التي تورط فيها نواب وقادة في وزارة الداخلية.
وبعد شهور من قضية النائب البنغالي التي هزت الرأي العام الكويتي، وافق مجلس الأمة الكويتي على رفع الحصانة عن 38 نائبا من بينهم رئيس المجلس مرزوق الغانم وذلك لمخالفتهم الاشتراطات الصحية التي أقرتها الحكومة لمكافحة وباء كورونا، حيث شارك هؤلاء النواب في تجمعات واحتفالات بعد الإعلان عن نجاحهم في الانتخابات العامة التي أجريت العام الماضي.
الغانم أعلن في مارس الماضي أنه أُبلغ بتحويله إلى النيابة العامة بسبب تجمعات خالفت الإجراءات الصحية في ديوانه بعد إعادة انتخابه، مؤكدا أنه سيكون أول من يمتثل وآخر من يخالف.
وأضاف رئيس مجلس الأمة الكويتي: «سأكون أول من يطبق ويحترم القانون وآخر من يعترض على تطبيقه ولا كبير أو صغير أمام القانون في دولة الكويت دولة المؤسسات»، وتابع الغانم قائلا: «لو لم يتم احالتي للنيابة العامة سأقول لهم أن هناك تجمعات جرت في ديواني بعد الانتخابات خالفت الإجراءات والاحترازات الصحية ويجب إحالتي للتحقيق معي».
واعترف رئيس مجلس الأمة الكويتي أن التجمعات التي شهدها ديوانه خالفت الإجراءات الاحترازية بالفعل، وأكد أنه سيكون أول من يحضر للامتثال أمام النيابة العامة وأول من يطلب رفع الحصانة عنه، وعلل ذلك بالقول: «لنؤكد للجميع أننا في دولة دستور وقانون وأنه لا كبير فوق القانون».
ما جرى في مجلس الأمة الكويتي، أظهر برلماننا المصري في واقعة النائب تامر عبد القادر كمن يحمي نوابه من المساءلة القانونية ويبقي عليهم وفوق رأسهم اتهامات الفساد معلقة، أكثر من حرصه على تطبيق العدالة وسيادة القانون ودعم نظامنا القضائي.
المجلس الذي رفض خضوع النائب عبد القادر للتحقيق أمام النيابة بدعوى «كيدية الطلب»، هو ذاته المجلس الذي أحال النائب الوفدي محمد عبد العليم داود إلى لجنة القيم لأنه أدلى برأيه تحت القبة واتهم حزب الأغلبية مطلع العام الحالي بتوزيع «كراتين» خلال الانتخابات لحث المواطنين على التصويت لمرشحيه.
المجلس الموقر الذي من المفترض أن يشرع القوانين لدعم العدالة والمساواة، يكيل بعدة مكاييل، فلكل واقعة لدى نوابه مكيال خاص بها، ينتفض المجلس للدفاع عن حزب الأغلبية ويجمد عضوية نائب منتخب لدورة برلمانية كاملة، وينتفض أيضا بنفس القوة دفاعا عن نائب طالبت جهات التحقيق المستقلة بمثوله أمامها في قضية فساد مسجلة بالصوت والصورة.
هذا هو برلمان الشعب الذي من المفترض أن يراقب أعمال الحكومة ويحارب الفساد ويدعم العدالة ويدافع عن الحقوق والحريات.