أحداث السودان الأخيرة كانت متوقعة وتدخل الجيش بالقوة لحسم الانقسامات التي عرفتها الساحة السودانية بين المكون المدني والعسكري، وبين الفصائل السياسية والاحتجاجات القبلية، فتح الباب أمام مخاطر كثيرة خاصة أن رئيس المجلس السيادي والقائد العام للجيش الفريق البرهان أعلن أنه سيؤسس لمسار انتقالي جديد بمشاركة قوى مدنية أخرى غير الحرية والتغيير وحكومة حمدوك.
ورغم أن هذا السيناريو غير مضمون النجاح كما أن بعض السيناريوهات البديلة تحمل مخاطر كبيرة مثل الفوضى والاقتتال الأهلي، إلا إنه سيبقي هناك بعض الأمل إذا أعيد ترتيب المرحلة الانتقالية بشكل جديد قد تنقذ البلاد من مصائر خطرة.
أخطاء المرحلة الانتقالية
ما جرى في السودان كان نتيجة سلسلة متراكمة من الأخطاء ارتكبتها جميع الأطراف وغاب عن المكون المدني الذي تصدر قادته الثورة الشعبية، إن أخطاء المرحلة الانتقالية سيدفع ثمنها أكثر من المكون العسكري.
وإجمالا يمكن القول إن طول المرحلة الانتقالية جعلت البلاد أمام خطر مؤكد بعدم اكتمالها، والمدهش أن المجلس العسكري الانتقالي في السودان طالب عقب نجاح الثورة أن تكون المرحلة الانتقالية عامان، وطالبت قوى الحرية والتغيير بأن تصبح أربع سنوات ثم بعد مفاوضات مع المجلس العسكري توصلا إلى أن تصبح ثلاث سنوات، وبعد التوقيع على اتفاق جوبا للسلام هذا العام تم “تصفير العداد” وإعلان بدء المرحلة الانتقالية من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق.
والحقيقة أن خيار “تطويل” الفترة الانتقالية هو خيار ضد المنطق والعقل، وضد حتى مشروع المكون المدني للانتقال لدولة مدنية ديمقراطية، فمن ناحية هو يخلق سلطة ضعيفة منقسمه على ذاتها تتعارض فيها مراكز القوى مما يعني عدم قدرتها على تقديم إنجازات حقيقية للمواطن السوداني إلا أن تترك له حق التظاهر والاعتصام، ورفض هذا “الزول” والمزايدة على الآخر، ويعني أيضا انقسام داخل جناحي السلطة بين المجلس السيادي الذي رأسه البرهان، ومجلس الوزراء الذي ترأسه عبد الله حمدوك، وأغرى ضعف السلطة وانشغالها بالصراعات الداخلية قوى كثيرة للاعتصام وإعلان التمرد ولعل أبرزها المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات في شرق السودان، والذي أوقف حركة النقل والبضائع داخل البلاد، وطالب بحل الحكومة، وبارك أمس خطوة البرهان وقرر إنهاء إغلاق الشوارع والموانئ وعودة حركة البضائع في القريب العاجل.
التوصيف الخاطئ للمشاكل
مشكلة ما جرى في السودان هو في جانب ما جرى في مصر عقب يناير، وفي جوانب أخرى ما جرى في بعض تجارب التغيير التي توصف بأنها ثورية، وهو الانطلاق من مجموعة من الأفكار تستدعي من متاحف التاريخ وتوصف بأنها ثورية وهي في الحقيقة لا علاقة لها بالواقع المعاش.
وقد بدأت قوى التغيير في السودان في وضع “آلية إقصائية” في إدارة الحكم، بدأت بالخصوم وانتهت بالحلفاء، فقد أصبح هدف مواجهة عناصر النظام القديم أكثر أهمية وإلحاحا من بناء نظام جديد، صحيح إن المحاسبة واجبة بحق كل من ارتكب جرائم دم او إبادة أو فسد وعذب وقمع أي فرد من أبناء الشعب السوداني، أما شبكات المصالح التي تشكلت من قيادات وسطي وصغرى دخلت حزب المؤتمر “المنحل” باعتباره حزب سلطة يجلب المنافع، فهؤلاء في كل تجارب التغيير الناجحة لم يتم إقصائهم من المجال العام او السياسي لأن ذلك في حال حدوثه سيدفعهم ببساطه إلي التحالف مع أي قوى مضادة لأهداف الثورة دفاعا عن مصالحهم ووجودهم، وهو ماجري عمليا في السودان.
إن أخطر ما في “الآلية الإقصائية” أنها مثل كرة الثلج تبدأ بمواجهة خصوم الثورة وتنتهي بمواجهة رفاق الثورة وهو ماجرى داخل الحرية والتغيير حيث انقسم إلى تيارات متحاربة وخرج منه تيار الميثاق الوطني الذي اعتصم أمام القصر الجمهوري وطالب بحل الحكومة ورحب بتدخل الجيش.
مشكلة تجارب التغيير هي في بناء المنظومة الجديدة التي “ستكنس” دون ضجيج او هتافات ثورية كل فلول النظام القديم ببناء نظام جديد يضع قواعد جديدة يلتزم بها الجميع.
واللافت أن بعض قادة الحرية والتغيير مارسوا بعد أن وصلوا للسلطة كثير من الممارسات السلطوية تجاه الناس، من الشللية وتعيين المحاسيب والفساد وإقصاء المخالفين حتى لو كانوا من نفس التوجه.
التحدي الذي واجه السودان منذ نجاح ثورته في إسقاط البشير هو وضع البلاد على طريق بناء منظومة سياسية جديدة تري واقع المجتمع وليس خيالات أيديولوجية أو سياسية، هذا الوقع يقول أن قوي الثورة دائما جزء من المجتمع وليست كل المجتمع، وأي تصور للبعض أن الواقع الثوري الاستثنائي هو واقع دائم ومستمر نتائجه ستكون كارثية لأنه من ناحية لا يوجد مجتمع في حالة “ثورة دائمة” إنما هي فعل استثنائي غير مفضل بعد ان تغلق أبواب الإصلاح، كما أنه من ناحية أخرى يعطي الثوار حصانة خاصة على حساب باقي المجتمع سرعان ما تنتهي بأن يلفظهم المجتمع، او ينجحون في فرض نظم استبدادية جديدة على الناس باسم الثورة كما حدث في كثير من ثورات القرن الماضي.
والحقيقة أن تجارب التغيير الناجحة تنطلق من أن قوي الثورة أو القوي التي قادت الانتفاضات الشعبية مرشحة أن تقود المجتمع نحو الأفضل بإجراءات إصلاحية جراحية وليس بشعارات ثورية إقصائية، وبإصلاح مؤسسات الدولة لا استهدافها، وأن أي مجتمع في داخله قوى محافظة وأخرى ثورية، وأن السودان لازال أغلب مجتمعة محافظ وقبلي حتى لو ودعمت قطاعات كبيرة منهما الثورة، وفيه كثيرون يؤيدون الجيش، بما يعني أن الآلية التي كان يجب اعتمادها منذ اليوم الأول “آلية إدماجية” تحترم التنوع الموجود، ولا تدخل في صراع مفتوح مع الجيش الذي لازال يسيطر على مقاليد السلطة وتهديد قادته بمحاكمات وغيرها، وفي نفس الوقت تطالبه بتسليم السلطة للمكون المدني، وهو أمر لا يمكن أن يحدث في هذه الظروف.
طالما لم تبن مؤسسات سياسية وحزبية قوية، ولم تحسن ظروف المواطن العادي الاقتصادية والاجتماعية (لأسباب لا يتحملها المكون المدني وحده) فلا تتوقع أن تنتصر بالشارع فقط والصوت الاحتجاجي وتأخذ السلطة من المكون العسكري الأكثر تنظيما وتماسكا حتى لو كان غير قادر على الحكم بمفرده.
المخاطر والفرص
مخاطر قرارات البرهان كثيرة أبرزها أنه يواجه جزء يعتد به من المجتمع ومن قوى التغيير، صحيح ان المظاهرات خفت حدتها وفرص أن تعود بنفس القوة التي شهدتها يوم 21 أكتوبر أو أثناء مواجهة نظام البشير محدودة، إلا في حال تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية خاصة أن المجتمع الدولي لازال يثق في رئيس الوزراء المعزول وربط المساعدات الاقتصادية بوجوده.
وقد يكون “توازن الضعف” بين البرهان الذي أضعفته إجراءاته الأخيرة ولم تقويه كما كان يتصور، وبين تيار المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير الذي أضعفه سوء اداءه طوال فترة وجودة في السلطة، يمثل فرصة للبحث عن تفاهمات بين القوى المحافظة والقبلية والأحزاب التقليدية مثل الأمة والاتحادي والتيارات المؤيدة للجيش، وبين قوى الحرية والتغيير ومعها تيارات ثورية ومدنية كثيرة تعارض بقوة خطوة البرهان.
ستظل هناك صعوبات كثيرة للوصول إلى هذه التفاهمات في ظل لاحتقان الحادث بين قوى الحرية والتغيير وبين قائد الجيش، لكن إذا توافقت أغلب القوى الفاعلة على انهاء المرحلة الانتقالية العام المقبل والبدء من الآن في البحث عن “رجل جسر” بين القوي المتصارعة لكي يترشح في لانتخابات القادمة ويقود البلاد نحو مرحلة جديدة على طريق بناء دولة القانون المدنية الديمقراطية.