متشابكة، ومعقدة، العلاقة بين الثلاثي: الحرب والفن والتاريخ. وحين يطرق كاتب موضوع كسينما أكتوبر؛ أي الأفلام السينمائية المصرية التي تناولت، في جانب من أحداثها، بعض وقائع حرب السادس من أكتوبر 1973، لا بد أن يستلفت انتباهه هذه العلاقة، ويضعها في مقدمة المسائل التي يجب عليه بحثها.

في هذا الجزء، الأول، سيتم بحث هذا العلاقة من خلال ثلاثة نماذج، في حين سيخصص الجزء الثاني، للبحث في سينما أكتوبر.

***********

حدث في القرن الخامس قبل الميلاد، في مملكة تشي، أن طلب ملكها، هوو لوو، من المواطن والجندي، سون تزو، أن يكتب له كتابا؛ يضع فيه خلاصة خبرته، فوضع كتاب “فن الحرب”، ثم أراد الملك أن يختبر نظرية سون تزو في إدارة الجنود، فكان هذا المشهد: تم تجهيز قرابة ثلاثمائة امرأة من جواري قصر الملك؛ قسّمهن سون تزو إلى مجموعتين، وعيّن على رأس كلتا المجموعتين إحدى المحظيات من الجواري، ثم ألبسهن الدروع وأمرهن بأن يتسلحن بالسيوف والحراب في أيديهن، ثم خاطبهن قائلا: “أعتقد أنكن تعلمن الفرق بين المقدمة والمؤخرة، اليد اليمنى واليد اليسرى؟”، فأجبنه: “نعم!”.

ثم قال لهن سون تزو: “عندما أقرع الطبول وأقول: انظرن أمامكن، فيجب عليكن النظر للأمام؛ وعندما أقرع الطبول وأقول “دُرّن لليسار” فيجب عليكن الدوران باتجاه أيديكن اليسرى، وعندما أقرع الطبول وأقول “دُرّن للخلف” فيجب عليكن الدوران باتجاه أيديكن اليمنى إلى ورائكن”. فأجابنه بأنهن قد فهمن كلمات الأوامر الني شرحها لهن.

ثم بدء سون تزو التدريب العسكري، فدقت الطبول وأعطى أوامره “دُرّن لليمين” لكن النساء انفجرن في الضحك ولم ينفذن الأمر، فعقب سون تزو قائلا: “إذا كانت كلمات الأوامر غير واضحة ومميزة، إذا كانت الأوامر غير مفهومة فهما شاملا، فيقع اللوم على القائد”.

ثم أكمل، سون تزو فأعطى أوامره “دُرّن لليسار” لكن النساء انفجرن في موجات من الضحك ولم ينفذن الأمر، فعقب سون تزو قائلا: “إذا كانت الأوامر واضحة ومميزة إذا كانت الأوامر مفهومة فهما شاملا ولم ينفذ الجنود الأوامر، فالخطأ يقع على الجنود”. كرر سون تزو الأوامر ثلاث مرات وقرغ الطبول بيديه.

لما لم يتم تنفيذ الأوامر، أمر سون تزو بإحضار القاضي العسكري وسأله: في ساحة الميدان، ما جزاء عصيان الأوامر العسكرية؟” فأجابه القاضي: “العقاب فصل الرقاب”. وعليه أمر سون تزو بقطع رقبة قائدتي كلتا المجموعتين أمام النسوة!

كان الملك يراقب التدريبات من مكان قريب، ولم يسرّه خسارة جاريتيه المحظيتين عنده، فأرسل إلى سون تزو قائلا: “لقد أصبحت واثقًا من قدرتك على التعامل مع الجنود، ولن يلذ لي طعام أو شراب بدون هاتين الجاريتين، لذا فإنني أرغب في توفير حياتهما!”.

أرسل سون تزو مجيبًا رسالة الملك: “بتكليفكم لي قيادة قواتكم العسكرية، فإن هناك بعض أوامركم التي لا يمكنني قبولها وأنا تحت هذا التكليف”.

وتم إعدام القائدتين أمام النسوة.

وعلى الفور تم تعيين من تليهن في الحظوة لدى الملك كقائدتين للمجموعتين، وتم استئناف التدريب على صوت الطبول فلم يضحك أحد، وتقدمت النسوة في التدريبات العسكرية بكل دقة وانضباط دون أن يخاطرن بإصدار أي صوت!.

كتاب فن الحرب لـ “سون تزو”

 

************

الموسيقى كانت الفن الأكثر التصاقا بالحرب، فقد كانت أحد أدواتها، كما أخبرتنا الفقرة، الطويلة، السابقة، التي تمثل مقدمة مثالية للكتاب الأشهر في فن الحرب. وكما تطالعنا جميع المراجع التي تتحدث عن أهمية الموسيقى في التاريخ الحربي، في العديد من محطاته الرئيسية.

 الموسيقى العسكرية أو الموسيقى الحربية هي نوع محدد من الموسيقى المعدة للاستخدام في الأماكن العسكرية، يؤديها جنود محترفون يُطلق عليهم اسم الموسيقيون الميدانيون. ومعها يتحقق المظهر الأول من العلاقة بين الحرب والفن، وهو الجانب الوظيفي المباشر، حيث الآلة الموسيقية آلة قتال، بالأساس، ولم يتشكل ملمحها كفن إلى في مرحلة متقدمة من تاريخ الحرب، على مستوى الخبرة الإنسانية بها. 

وقد استُخدمت الموسيقى في المعارك لعدة قرون لتخويف العدو في بعض الأحيان، ولتشجيع المقاتلين في أوقات أخرى، أو للمساعدة في تنظيم إجراءات الحرب وتوقيتها. استُخدمت مجموعة متنوعة من الآلات الإيقاعية والموسيقية، اعتمادًا على الثقافة، مثل الطبلة، والناي، والنفير، والبوق أو غيره من القرون، والقربة، والمثلث، والصنج، بالإضافة إلى الفرق العسكرية الكبيرة أو الأوركسترا الكاملة.

كان الصينيون رائدين في هذا المجال، وتبعهم، بأداء مميز العثمانيين، في بداية القرن السادس عشر، وتسجل وقائع الحرب الأهلية الأمريكية حضورا مميزا للبوق النحاسي.

منذ القرن السابع قبل الميلاد، وإلى ختام الحرب العالمية الثانية، رافقت الآلات الموسيقية الجنود في أشد لحظات الحروب خطورة.

الصورة ألتقت يوم 26 يونيه 1944 لجندي من الفرقة 15 (الاسكتلندية)، يتقدم بآلاته “الشعبية” فصيلته القتالية خلال عملية “إبسوم” (تعرف بالمعركة الأولى في أودن)، خلال معركة نزول قوات الحلفاء على شاطئ نورماندي (فرنسا)، في الجولة الافتتاحية لتحرير أوروبا من قوات المحور؛ خلال الحرب العالمية الثانية

النموذج الثاني يقدمه لنا المسرح الإغريقي.

كتب أسخولوس (525- 456 ق.م)، الذي يُعّد المؤسس الفعلي للتراجيديا، سبعين مسرحية، لم يصلنا منها سوى ثمان مسرحيات فقط، يعنينا، هنا، منها، مسرحية الفرس، التي تم عرضها عام 472 ق. م.

يخبرنا عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لكتابه “تراجيديات أسخولوس”، أن أسخولوس قد حارب في معركة ماراثون، كما هو وارد في الشاهد المكتوب على قبره وذكرته “حياته”. كذلك يشهد أحد معاصريه، وهو إيون الذي من خيوس، على حضور أسخولوس في معركة سلامين. أما الأخبار التي تذكر أنه اشترك أيضا في معركة ارتمسيون أو معركة بلاتيا فليست مؤكدة.

وفي الهامش، يذكر، بدوي، أن معركة ماراثون بين اليونان والفرس في سنة 490 ق.م وفيها انتصر الأثينيون- بمساعدة أهل بلاتيات على الفرس.

سلامين، أو سلاميس، وهي جزيرة في الخليج الساروني بين الشاطيء الغربي لأتيكا والشاطيء الغربي لميغارا، وعندها هُزم الأسطول الفارسي هزيمة نكرة، سبتمبر سنة 480 ق.م من جانب اليونانيين.

ارتمسيون: لسان على الساحل الشمالي الغربي لبوبوا، وفيها وقعت معركة بين الفرس واليونان.

من المؤكد، إذا، حسبما يقرر، بدوى، أن أسخولوس شارك في حربين خاضهما مواطنوه ضد الفرس، وانتصروا، فيهما.

 

النص التالي منقوش على شاهد قبر أسخولوس وربما كتبه إسخيلوس نفسه، إلا أنه لا يذكر شهرته المسرحية، ويمجد فقط انجازاته العسكرية:

في هذا القبر يختبئ تراب أسخولوس،

ابن اوفوريون ومبعث فخر گـِلا الولودة

لأي حدٍ اُختـُبِرت شجاعته؟ اسألوا ماراثون

ومـِدِس ذات الشعر الطويل، التي عرفت شجاعته جيداً

في تقديم ترجمته لمسرحية “الفرس” يذكر، بدوي، أنها “مسرحية تاريخية، موضوعها فصل مهم من تاريخ اليونان هو الحروب التي تسمى بالحروب “الميدية”- نسبة إلى ميديا، أي فارس القديمة- التي وقعت بين الفُرس واليونانيين في الفترة بين سنة 492 ف.م و479 ق.م”.

ثم يقدم، بدوي، خلفية تاريخية، عن وقائع تلك الحروب، ثم يتساءل: فماذا فعل بها (الوقائع التاريخية المؤكدة) اسخولوس في مأساته: “الفرس”؟، ويجيب: لقد أهملها كلها، واقتصر منها على شيء واحد هو هزيمة الأسطول الفارسي على يد اليونانيين في معركة: سلامين وبلاتايا!

ويضيف: ثم إنه زيف الوقائع التاريخية.

ثم يختم، بدوي، عرضه للمقارنة بين وقائع التاريخ، والمسرحية، فيقرر أن أسخولوس قد أبدع في جعله المشاهد تحدث في السوس- في فارس- وليس في أثينا أو بلاد اليونان، لأن صنيعه هذا مكّنه من أن يحوّل المسرحية إلى مأساة باكية نائحة؛ ولو كان قد جعل المشاهد في بلاد اليونان لكانت المسرحية قد تحولت إلى نشيد انتصار وتمجيد من جانب اليونانيين فخرا بانتصارهم.

هذا درس، قديم، قدمه أسخولوس، وتقبله مشاهديه، وهم جميعا على معرفة تامة بـ “حقيقة” الوقائع التاريخية، لكنهم يدركون أن ما يقدم فن له “حقيقته” الخاصة، وأن الاستجابة لها هو معيار الحكم.

تجري أحداث المسرحية تدور، كلها، في بلاد فارس، وهي تعرض لهزيمة الفرس العسكرية، وتصورها على لسان المهزومين، ولم يُظهر أية شخصية يونانية، كي ينزع أي شعور بالابتهاج بتحقيق النصر وهزيمة العدو، ملئ أسخولوس المسرحية بالكثير من مشاهد الترقب والبكاء والخوف على مصير الجيش الفارسي وملكه، ثم برع في تصوير عظمة وقوة الجيش الفارسي وكثرة عدته وتنوع أسلحته ومهارة قواده وبسالة جنوده، وآخيرا، أبرز نحيب الفرس على قتلاهم، وهزيمتهم.

المدهش أن أسخولوس، الكاتب الأشهر في زمانه، اعتبر أن مشاركته في نصر بلاده، أعظم أعماله التي يرجو أن يتذكره بها مواطنوه، لكن العصور اللاحقة، تتناسى مآثرته تلك، وتتذكره، كأول تراجيدي كبير، ومن ضمن هؤلاء بلا ريب الكثير من أسلاف الفرس الذين حاربهم، وانتصر عليهم، ثم خلد هزيمتهم، بمسرحيته الباقية.

**********

النموذج الثالث، الدال للغاية، يذكره الدكتور أحمد فخري في كتابه (مصر الفرعونية- موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد- مكتبة الأسرة، 2012)، حيث يشير إلى أن الملك سيتي الأول، ثاني ملوك الأسرة التاسعة عشرة، التي حكمت مصر خلال السنوات (1304- 1195 ق.م)، والذي حكم بين سنوات (1303- 1295 ق.م)، “كان قد قضى سنوات شبابه وهو يعمل ضابطا في الجيش؛ وبخاصة على حدود مصر الشرقية في حصن ثارو. وقد استحدث الفنانون في عهد سيتي الأول أمرا جديدا وهو رسم المعارك الحربية مفصلة وفي حجم كبير على جدران المعابد إذ أن مصر لم تعرف ذلك من قبل، وهو التقليد الذي إتبعه خلفاؤه من بعده”.

أما مَنْ دفع هذه العلاقة الثلاثية الأطراف بين الحرب والفن والتاريخ إلى ذروتها القصوى فهو ابنه، وخليفته، رمسيس الثاني؛ الذي حكم سبعة وستين عاما (1290- 1223 ق.م)، وبلغ من الشهرة، عبر التاريخ، ما لم يبلغه ملك من ملوك مصر، فقد استطاع أن يفرض اسمه وشخصيته على عصره وعلى العصور التالية وملأ البلاد كلها بآثاره. وفي السنة الخامسة من حكمه وقعت معركة قادش (مدينة تقع علي الضفة الغربية لنهر العاصي في سورية جنوبي بحيرة حمص بعدة كيلومترات)، بين قوات الملك رمسيس الثاني، ملك مصر، والحيثيين، في مملكة “خيتا”، بقيادة الملك مواتللي الثاني.

والحيثيون، كما هو معروف، كانوا شعبًا أناضوليًّا لعب دورًا مهمًّا في تأسيس إمبراطورية كان مركزها “خاتوشا” في شمال وسط الأناضول عام 1600 قبل الميلاد تقريبًا، وبلغت أوج قوتها في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إذ ضمّت الأناضول كلّها وأجزاءً من شمال بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين.

**************

نقرأ في كتاب، فخري، الآتي: “يقص علينا رمسيس الثاني قصة هذه المعركة في قصيدة شعرية نفشها على الجدران الداخلية لعدة معابد: في الأقصر وفي الرمسيوم وفي الكرنك وفي أبيدوس، وفي إحدى البرديات، كما صور لنا أهم مناظر المعركة على واجهات بعض المعابد”.

ما سجله الفنان المصري القديم، على جدران هذه المعابد وواجهاتها، آيات من الروعة الفنية، والجمال، والدقة، والبراعة، لكنه يظل، فنا، فقط، وعلاقته بالتاريخ (بالدقة التاريخية) موضع شك، أو في أحسن الفروض، موضع جدل، لم يحسم، بعد.

مشهد من معبد أبو سمبل يصور جانب من معركة قادش ورمسيس الثاني يقود عربته الحربية

يذكر، فخرى: “ونحن إذ ننظر في تاريخ هذه المعركة الآن، ونقرأ ما كتبه عنها المصريون وما سطروه على واجهات المعابد فإننا نجد أنفسنا عاجزين عن فهم السبب الذي جعل رمسيس الثاني لا يجني ثمرة إنتصاره، إن كان حقيقة قد سحق أعداءه في اليوم الثاني!! ولكن ربما كان الحق هو أن الحرب لم تكن فاصلة وأن رمسيس كان يحارب في يومه الثاني ونفسه مملوءة بالألم؛ ففي نصوصه التي تصف المعركة يتحدث عن فجيعته في جنوده إذ تركوه وهو إلههم وسيدهم معرضا للموت، وجروا طلبا للنجاة. وربما كانت حالته النفسية هي السبب في قبول الصلح وهو في انتصاره، ما دام رجاله لا يستحقون الاعتماد عليهم. يقول رمسيس إن مركبات العدو التي كانت عددها 2500 مركبة، وفي كل عربة منها ثلاثة رجال، قد أحاطت به وكانوا مقسمين إلى وحدات، بينما “لم يكن معي قائد أو ضابط مركبة أو ضابط من المشاة ولا حامل درغ فقد كرني مشاتي وقرساني فريسة أمام الغدو ولم يثبت واحد منهم لمحاربته”.

*************

ويواصل، فخري، شرح معضلة علاقة الأعمال الفنية، المسجلة في المعابد بالدقة التاريخية: “عاد رمسيس إلى مصر فملأ البلاد كلها بأنه انتصر وسحق أعداءه، وأن أباه “آمون” (الإله آمون، على عادة ملوك مصر القديمة في نسب أنفسهم لإله، كي يتصفوا، بهذه الصفة، إذ أن أباه الحقيقي، كما تقدم، هو الملك سيتي الأول) وقف إلى جانبه وأنه أباد عشرات الألوف بسيفه، ولكن مثل هذه الإدعاءات والتشبيهات الشعرية لا تغير من حقيقة الأمر شيئا وهي أنه إذا كانت هناك نتيجة هامة واحدة من وراء هذه المعركة فهي بقاء رمسيس على قيد الحياة، واحتفاظ مصر ببعض ممتلكاتها في فلسطين والشاطيء الفينيقي…وإذا رجعنا إلى المصادر الخيتية (نسبة للمصادر الآثرية المكتشفة حديثا في مملكة خيتا، ضمن أراضي تركيا الحديثة)، وخاصة ما كشفت عنه الحفائر في الأعوام الأخيرة، فإننا نقرأ قصة أخرى تختلف عن قصة المصادر المصرية. فبينما تتحدث النصوص المصرية عن النصر، وأن ملك خيتا تقدم بطلب الصلح نرى النصوص الخيتية تصف هزيمة المصريين، وتقول إن جيوش خيتا لاحقتهم حتى دمشق…ويقف المؤرخون بين هذين القولين ولكن الرأي الراجح هو تفضيل قصة ملك خيتا…وإذا تتبعنا الأحداث كما روتها المصادر المصرية فإنا نجد أنفسنا مضطرين مرة أخرى لتصديق المصادر الخيتية”.

مشهد من معبد أبو سمبل يصور جانب من معركة قادش- جندي مصري يضرب جندي خيتي

هل من سبيل لتفكيك معضلة: الحرب والفن والتاريخ، كما تتمثل في معركة قادش، والأعمال الأدبية والفنية التي سجلها الفنان المصري القديم عنها على جدران المعابد، ووقائع التاريخ، وشخصية رمسيس الثاني، فلنحاول.

وقعت المعركة في العام الخامس من حكم رمسيس الثاني، وإذ دام حكمه سبعة وستين عاما، فإنه ظل حاكما بعدها لاثنين وستين عاما، كاملة. 

عاد رمسيس الثاني من أرض المعركة، وشرع في تسجيل سرديته عنها. وعن آثاره، يذكر الدكتور احمد فخري في كتابه أنه “لا تكاد توجد منطقة أثرية في مصر لم يرد فيها إسمه، (فقد) كان أكثر الفراعنة آثارا في جميع نواحي المملكة وأكثرهم حبا للعظمة والفخامة”.

رعى رمسيس سرديته كل هذه السنوات المتطاولة، حفرها في الصخر، وشاد لها المعابد.

ثم طُمس ذكرها لأكثر من ثلاثة آلاف عام، حتى بادر مغامران أوروبيان، بكشف النقاب عن أهمها، على الإطلاق: معبد أبو سنبل؛ فقد كان المعبد منسياً حتى 1813، وتغطي الرمال أكثر من ثلثيه، عندما اكتشفه، مصادفة، المستشرق السويسري، جون لويس بركهارت، وأخبر صديقه الإيطالي جوفاني باتيستا بلزوني، باكتشافه، فسافرا معاُ إلى الموقع، لكنهما لم يتمكنا من حفر مدخل للمعبد، عاد بلزوني بمفرده، بعد ذلك بنحو أربع سنوات، ونجح في محاولته هذه المرة. 

سندع، جانبا، هنا، سيرة بركهارت، ورحلته مع الوالي محمد على إلى الحجاز ونجد، لمحاربة الخارجين على سلطة الدولة العلية (الدولة العثمانية) في الدرعية (الدولة السعودية الأولى)، كما سندع جانبا، سيرة بلزوني، ونهبه للآثار المصرية.

قبل ذلك ببضع سنوات كان شامبليون قد تمكن من فك لغز الكتابة الهيروغليفية، من خلال دراسة حجر رشيد، وقصته معروفة، وهكذا أصبح المعبد ونقوشه موضعا للدرس من حينها.

شامبليون

لكن تاريخ معركة قادش كان يحتاج عشرات السنوات، فكما يخبرنا الدكتور فخري، فإن أولى الأبحاث كانت تلك التي نشرها عالم الآثار والمؤرخ الأمريكي، جيمس هنري برستد، في عام 1903، ثم نشر شارل كونتز نصوص ومناظر وترجمات حول المعركة في كتاب أصدره في عام 1924، أما معالجة الناحية الحربية فقد تصدى لها الميجر برن في كتب ثلاثة خلال الفترة ما بين 1921 إلى 1947.

ويوضح، فخري، أن الملك الخيتي (خاتوسيلي)، الذي أعقب مواتللي الثاني، أراد أن يشتري صداقة مصر حتى يتفرغ لملاقاة أشور، ولهذا أراد عقد معاهدة صداقة معه، ورحب الملك رمسيس الثاني بها ووقعها الطرفان في العام الحادي والعشرين من حكم رمسيس (بعد قادش بنحو 16 عاما) نقشت على جداران معبدي الكرنك والرميسوم، أما الأصل الخيتي فقد غثر عليه في خرائب بوغازي، وليس في هذه المعاهدة غير تأكيد الصداقة بين المملكتين. ثم أراد ملك خيتا أن يوثق الصداقة، فجاء زائرا إلى مصر ومعه ابنته ليزفها زوجة إلى رمسيس.

وفي الهامش، يذكر فخري، أن “المعاهدة المنقوشة على لوحين من الطين المحروق في حفائر فنكار في بوغاز كوي عثر عليها في الأناضول في عام 1906 ولكن النص لم يدرس وتعرف قيمته إلا في عام 1916. واللوحان معروضان، حاليا في متحف آثار إسطنبول”.

************

في قادش التاريخ لا يظهر رمسيس الثاني منتصرا ذلك الانتصار المذهل الذي تصوره النقوش والقصائد الشعرية المكتوبة على صفحات البردي، إنه، ووفق أفضل الفروض، التي يقدمها الدكتور أحمد فخري في كتابه، نجا من هزيمة، نجا من الموت في الواقع، ليعيش بعدها اثنين وستين عاما، يبني معابد مذهلة الروعة، وينقش فنانوه أشكالا بالغة الدقة والفخامة لانتصار متخيل.

معضلة قادش الثلاثية جلية: ورث المصريون المحدثون عن أسلافهم القدماء إرثًا بالغ الثراء، لكنه لم يظهر للعيان، في العصور الحديثة، إلا على أيدي أجانب، قدروا قيمته، وكثيرون منهم نهبوا نفائسه، ثم استدرك بعض المصريين، وحاولوا مجارة هؤلاء، في الفعلين، والواقع أننا لا نعثر على جهد علمي مصري يذكر لتحليل معضلة قادش: الحرب والفن والتاريخ، وهي معضلة متواصلة الفاعلية، فكل الأحداث والوقائع في تاريخنا الحديث على نفس الشاكلة، وحرب أكتوبر 1973، مثال دال، وهذا ما سيجري تبيانه في الجزء التالي.