تشكلت علاقتي بالسينما اللبنانية ضمن حكايات واقعية كان يسردها أبطال يعانون من تواجدهم في البلد المليء بالصراع والمآسي، نتيجة حروب أرهقته ودمرت أفكار العيش داخله بسلام. وبالرغم من التواجد السنوي الهش للسينما اللبنانية ستجد كل عام أكثر من نصف الأفلام التي تأتينا من هناك في قلبها الحديث عن إرهاصات الحرب الداخلية والخارجية فيها. 

المآسي التي يخلقها هذا الواقع المأزوم بالرغم من كل شيء تخلق قصص صادقة وقوية تُعالج سينمائيًا لتنتج فنا مُلهم وقويا ومؤثرا، لذلك، أعتقد أني لا أجد ثمة أفلام في ذاكرتي عن لبنان لم تكن الحرب أو غرهاصاتها فيها. 

من بدايات أفلام جاد شمعون اللبناني الذي قام بتدريس السينما في معهد الفنون الجميلة في لبنان من 1976 إلى 1983، بجانب عمله في التلفزيون والإذاعة والمسرح، لكن يمكن أن نعتبر أن الواقع الذي لاقاه جان شمعون بعدما أنهى دراسة السينما في العاصمة الفرنسية ووصل إلى بيروت عندما كانت مقبلة على حرب أهلية هو ما فرض عليه تصورات أخرى ومحاولات توثيق مختلفة، وبدلًا من أن يذهب جان شمعون لتوثيق اجتماعيات لبنان والحديث عن شوارعها، وجد أنه يجب أن يوثّق مآساة البلد ودمارها، إلى جانب إيمانه بأن السينمائي العربي يجب عليه أن يختار مواضيع تلمسه ومشاكله بقوة.

اختار سينما توثّق لبنان في أفلام مثل”طيف المدينة” وأحلام معلقة” و”زهرة القندول” وتل الزغتر وغيرها من الأفلام المؤلمة التي وثقت حياة لبنان مؤخرًا، والتي صنعها بحب إلى جانب زوجته المخرجة مي المصري.

جان شمعون كان مشروع سينمائي لبناني يمكن البناء عليه في السينما التي توثّق الحرب والحياة بأدق تفاصيلها، سيتبعه جيل أكبر أكثر تضررًا وغضب سيحكي عن لبنان كما يراها أكثر عنفًا وتخبط.    

جان شمعون

أيضًا شاهدنا السينما اللبنانية التي تحكي المأساة في أفلام المخرج مارون بغدادي صاحب أفلام “خارج الحياة” و”حروب صغيرة” الساخر المبكي الذي يحكي خلاله رحلة ثلاثة من الشباب ممثلين عن جيل عاش عشرينياته في الحرب، والتحولات الكبرى التي يمرون بها عندما يصبح أولهم “طلال” أمير حرب، وثريا حبيبته التي يتركها عندما ينتهي منها كغرض انتهت صلاحيته للاستخدام، والثالث نبيل الذي تضغط عليه الحرب فتحوله إلى مدمن مخدرات. وفيلم “لبنان بلد العسل والبخور”.

أصابتنا الرهبة في مشاهدة فيلم الرقص مع بشير الذي رشّح للأوسكار، الفيلم الذي يمكننا اعتباره شهادة رسمية عن تورط الجيش الإسرائيلي في مجزرة تل الزعتر التي حدثت أثناء الحرب اللبنانية الإسرائيلية عام 1982، من إخراج أري فورمان، وهو المخرج الذي شارك خلال شبابه في الحرب. وتدور أحداث الفيلم عن ذكرياته الشخصية وعن الكوابيس التي تطارده نتيجة عدم قدرته على نسيان تورطه في هذه المجزرة.

تلك الأفلام في غالبها كانت أفلام توثق الحرب ومحاولات الحياة غير المنتخية التي كان أشهرهم  “جماهيريًا” فيلم “هلأ لوين” الذي تقدمه نادين لبكي البطلة ذاتها للفيلم الجديد كوستا برافا.

 

 

نادين لبكي

 

 

 

والفيلم الحديث “1982” الذي كان قد فاز في الدورة قبل السابقة من مهرجان الجونة السينمائي، ينقل الحرب الأهلية إلى العدوان الإسرائيلي. يدور الفيلم في مدرسة صغيرة، نتعرف على قصص مختلفة في قلبها قصة المدرّسة الشابة التي لا تستطيع الارتباط بحبيبها بسبب انتماءاته السياسية المختلفة عن عائلتها، والصبي الصغير الذي يحب زميلته، ولكن يخشى التصريح لها بعواطفه، وفي ظل هذه المشاعر المضطربة يأتي العدوان الإسرائيلي ليضع كل الشخصيات تحت ضغط مختلف هو محاولة النجاة بحياتهم، والخروج بالعربات المدرسية المحملة بالأطفال آمنين وإعادتهم إلى منازلهم.

 

فيلم 1982

كوستا برافا.. الأحدث بالقسوة ذاتها

في مهرجان الجونة الأخير فقط، شاهدت فيلمين قاتمين عن الوضع المزعج في لبنان بسبب الحرب؛ فيلم المخرج اللبناني إيلي داغر الذي يحكي عن حالة الركود التي يعيشها اللبناني اليوم دون معرفة مصيره المرتقب في حكاية بطلتها فتاة تعود إلى وطنها بعد دراستها في فرنسا لمدة أربعة سنوات، في عودتها تكتشف البلد من جديد في داخل المأساة التي تعيشها. يظهر تمامًا من الفيلم خوف صانعه كبقية جيله في الغالب من المستقبل المجهول الذي يواجهونه.

المخرج ذاته كان قد قدم فيلم قصير بعنوان “موج 92” الذي يحكي فيه حول مشكلة النفايات، المشكلة ذاتها التي سيسردها فيلم المخرجة اللبنانية مونيا عقل “كوستا برافا” المذهل الذي فاز بجائزة نيتباك المرموقة في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي 2021. الفيلم الذي شارك سابقًا كمشروع في منصة الجونة السينمائية قبل الإنتاج، أذهل الجماهير وأعجب لجنة التحكيم لتعرّضه للعديد من القضايا في الوقت ذاته؛ مثل أزمة البيئة والمستقبل المستدام، وفاز بجائزة الفيبريسي وجائزة نجمة الجونة الخضراء لأفلام البيئة. 

https://www.youtube.com/watch?v=OtEwUw_Gogs

كوستا برافا هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة وكاتبة السيناريو اللبنانية مونيا عقل، وبطولة السينمائية الأشهر في لبنان “نادين لبكي”. تدور أحداث الفيلم حول عائلة لبنانية تقرّر الهرب من بيروت الملوّثة، لتلجأ إلى العزلة في الطبيعة والجبل، ظنًّا من الأم والأب أنهما ينقذان أولادهما مما عانا منه على مرّ سنوات حياتهم.

فترة قصيرة من الراحة يعقبها قرار متهور وعبثي من السلطات بإنشاء مكتب نفايات ضخم مقابل أرضهم مباشرة. في استعراض للأزمة التي تعرضت لها لبنان في 2019 وجعلتها طريحة اقتصاد هش يعاني بسببه أغلب أبناء الدولة.

من قبل قدمت عقل فيلمها القصير “سبمارين” كان ذلك في عام 2016، تناولت خلاله أزمة النفايات اللبنانية ذاتها التي كانت قد نشبت في صيف 2015. وفيلمها الآن يُعرض كنوع من مط الفكرة الرئيسية في الفيلم القصير، الأمر الذي يجعل بعض المط والتطويل الملاحظ على الفيلم له أسبابه المنطقية التي لا تبرره لكنها تضعه في سياقه الأكبر. 

كانت المخرجة آنذاك عندما كتبت الفيلم منذ 2015 تتخيل مستقبلا بائسا للبنان لعام 2030. لكن تسارع الأحداث على أرض الواقع جعلت ما تتخيله حقيقة مفزعة.

زوجة تحن للعودة للحياة وسط البشر والغناء مرة أخرى مقابل الزوج الذي ضج بالبشر، تنتشر رائحة خلافاتهم مع مجيء مكب نفايات آخر بجانب منزلهم. لبنان كاملة ممثلة مجازًا في “كوستا برافا” البيت الجميل الهادئ المغري لكل البعيدين في مقابل الفكرة الأثيرة لكل سكانه بالهجرة خارجة وتجربة حياة حقيقية بدون صراع يومي مرهق. 

تقول بطلة الفيلم يمنى مروان خلال حديثها إلى مصر 360 أنه الفيلم يحكي المأساة اليومية التي يعيشها اللبنانيون هناك، ثمة صراع مشابه، يحكي عن الذين ينزعون الطبيعة من لبنان” تحكي أنهم حاولوا في الفيلم أن ينفذوا تواجد مكب نفايات بواسطة فريق متخصص دون أن يكون له وجود حقيقي فقط لوصف المشهد المخجل. 

عندما قابلت منتجة الفيلم على البساط الأحمر لأسألها عن السبب الحقيقي وراء الرغبة في إنتاج فيلم على ما يبدو لن يحقق الأرباح المغرية بالرغم من كل شيء كانت تتحدث بأفلاطونية حول رغبتها في عودة ما ذهب، دق جرس الإنذار حول الأزمة التي يعيشها اللبنانيون اليوم، بعدها بدقائق دخلت إلى حفل الختام وفازت بالجائزة وأمسكت الميكروفون لتقول: شكرًا لأننا حاولنا أن نجعل المستحيل ممكنًا.