انتقل الصراع بين إسرائيل وإيران إلى مرحلة جديدة، أكثر تعقيدًا، وأبعد من ناحية التأثير على أمن المنطقة. الانتقال من الهجمات السيبرانية إلى حرب السفن البحرية، وصدامات ما وراء الحدود؛ وهو ما يطرح تساؤلات حول أبعاد هذا التصادم: هل تنفجر “حرب الظل” في العلن.
من الناحية العملية، فإن أية توترات إضافية في المنطقة بين إسرائيل وإيران معناه دخول المنطقة المضطربة والمشحونة بالمخاطر؛ مرحلة ظلامية. بما يهدد أمنها بالكامل، ويؤثر على ميزان القوة الاستراتيجي، نظرا للدور الإقليمي وأدوات القوة الخاصة بالطرفين. مما قد يجر الإقليم إلى حرب مفتوحة يصل نطاقها إلى دول أخرى.
تكررت وقائع “حرب السفن” خلال الفترة الأخيرة كثيرًا، وغالبان ما تناقلت وسائل الإعلام حادثتي اعتداء خلال أسبوع واحد. سواء في خليج عمان أو بحر العرب، بعضها ينتج عنها قتلى بين أطقمها. أضف إلى ذلك ضربات صاروخية، وعمليات تخريب، وقتل متعمد، يستمر منذ شهور تقف إسرائيل وإيران على خط المواجهة بحسابات مختلفة، وسيناريوهات أقلها يقود المنطقة إلى المجهول.
في الخامس من أغسطس الماضي، هدد وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، بأن بلاده مستعدة لضرب إيران عسكريا إن لزم الأمر. كان ذلك ردًا على اتهام طهران بالهجوم بطائرة بدون طيار على ناقلة النفط “ميرسر ستريت”.
إسرائيل التي تحشد دوليًا ضد إيران، تقول إن “عمليات (البلطجة) الإيرانية لا تشكل خطرا على إسرائيل فحسب. بل تمس أيضا بمصالح دولية وبحرية وتهدد الملاحة والتجارة الدولية”. هنا يتضح بأن أية مواجهة محتملة لن يكون طرفاها طهران وتل أبيب فحسب.
أبعاد التصعيد
اتخذ شكل التصعيد بين الطرفين أبعادًا مختلفة خلال الفترة الماضية، بعضها مباشر والبعض الآخر غير مباشر. لكنه كان مباشرًا جدًا في سياق تأجيج المواجهة:
خطاب حاد
دخلت إسرائيل في حرب كلامية مفتوحة في مواجهة إيران، في محاولة لإظهار قدرتها العسكرية على وقف التهديدات الإيرانية في المنطقة. وفي خضم حديثه عن موقف إيران المراوغ تجاه الاتفاق النووي، قال وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني غانتس” في 17 سبتمبر: “لا أستبعد إمكانية أن تتخذ إسرائيل إجراءات في المستقبل من أجل منع تحول إيران إلى دولة نووية”.
كذلك أكد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “أفيف كوخافي” على اتخاذ الجيش خطوات متسارعة نحو تطوير التكتيك العملياتي تجهيزًا لضربة عسكرية قوية تستهدف البرنامج النووي الإيراني.
وعلى الجانب الآخر، صعدت إيران لهجتها الحادة ردًا على التهديدات الإسرائيلية. وأكدت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية “سعيد خطيب زاده”: “نعلن بوضوح، أي عمل أحمق ضد إيران سيقابل برد حاسم… لا تختبرونا“، وكذلك في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ندد مندوب إيران “مجيد تخت روانشي”، بزيادة عدد وشدة التهديدات الاستفزازية من جانب النظام الإسرائيلي. كما قال صراحة: “نحذر من أي سوء تقدير ومغامرة عسكرية محتملة للنظام الإسرائيلي ضد إيران”.
سباق التسلح
تبذل إسرائيل جهود متسارعة من أجل تطوير ترساناتها الدفاعية، لاسيما في المجال الجوي. حيث يمتلك سلاح الجو الإسرائيلي أحدث أنظمة الدفاع الجوي في ظل تركيز إيران على النظام الدفاعي الجوي. ومؤخرًا يجري تدريب سلاح الجو الإسرائيلي بشكل مكثف لمحاكاة ضربة تستهدف منشآت إيران النووية. على سبيل المثال، مناورات العلم الأزرق- وهي أكبر مناورة جوية- بمشاركة 1500 فرد وأكثر من 70 طائرة مقاتلة من بينها “ميراج 2000″ و”رافال” و”إف-16″ بدعم من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا. وذلك بهدف تدريب سلاح الجو الإسرائيلي على التعامل مع الدفاعات الجوية الإيرانية. كما نشرت إيران بطاريات صواريخ متطورة مضادة للطائرات في سوريا. حيث تشن الطائرات الإسرائيلية بشكل روتيني ضربات جوية ضد أهداف إيرانية.
رفع ميزانية الدفاع
بالتوازي مع التدريبات العسكرية لكافة أذرع الجيش الإسرائيلي، أعلنت الحكومة عن زيادة ميزانية الدفاع لعام 2022. بقيمة تقدر بـ5 مليارات شيكل (1.5 مليار دولار) لتزويد الجيش بمختلف أنواع الأسلحة. منها الطائرات بدون طيار، وتقنيات جمع المعلومات، وقاذفات حمل صواريخ، وكاميرات وآليات حديثة.
وتصل إجمالي قيمة الميزانية إلى 58 مليار شيكل (17.5 مليار دولار) بهدف مواجهة التحديات الإقليمية المتزايدة خاصة على الجبهة الشمالية. وفي المقابل، تسعى إيران نحو الحصول على مقاتلة روسية من طراز Su-35، بالإضافة إلى نظام الدفاع الجوي S-400. الذي بدوره يشكل تهديدا مباشرا للطائرات الإسرائيلية. وتبلغ ميزانية الدفاع ومعدل الإنفاق السنوي للجيش الإيراني 6.3 مليار دولار أمريكي فقط.
دوافع التوتر
ورغم أن دوافع التوتر بين إيران وإسرائيل ليست حديثة، إلا أن تطورات العقدين الأخيرين أضافت دوافع أخرى. ويمكن القول إن استمرارها يعني أن الحرب قادمة لا محالة، إلا إذا قرر النظام العالمي تدارك الموقف بتدخل حاسم، سواء بهدنة أو بعقاب.
الاتفاق النووي الإيراني
يشكل الاتفاق النووي الإيراني أو ما يسمى خطة العمل المشتركة الشاملة JCPOA) ) سببا رئيسيا في إثارة التوترات بين الطرفين. خاصة في ظل المماطلة الإيرانية على استكمال محادثات فيينا. إذ انتهكت طهران الاتفاق علانية من خلال إنتاج أجهزة طرد مركزي، وتخصيب وتخزين كميات سريعة النمو من اليورانيوم.
ورغم اختلاف موقف حكومة “بينت” عن موقف “نيتنياهو”، إلا أن هناك إجماعا إسرائيليا على ضرورة احتواء القدرات النووية لإيران. ومن أجل ذلك، وضعت إسرائيل مجموعة من البدائل إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يحافظ على أمنها القومي. ولوحت بالخطة “ج” باستخدام القوة العسكرية من أجل تحقيق 3 مبادئ: “لا لحصول إيران على قنبلة نووية، ولا لإمكانيات نووية إيرانية، ولا لقدرات عسكرية واقتصادية إيرانية”.
التوترات مع أذربيجان
الصدامات خارج الحدود لعبت هي الأخرى دورًا كبيرًا في اشتعال الموقف. وتعتبر إسرائيل ركنًا رئيسًا في التصعيد الأخير بين إيران وأذريبجان. على خليفة مزاعم بالتعاون العسكري بين أذريبجان والمخابرات الإسرائيلية بالقرب من الحدود الإيرانية. والسماح باستخدام أراضيها لإجراء عمليات استطلاعية وهجومية تنطلق من قاعدة القبلة جنوب باكو ضد إيران. بالإضافة إلى دورها في مساعدة إسرائيل على اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده، صاحب الدور الرئيس بالبرنامج النووي الإيراني.
اقرأ أيضًا| صراع إيران وإسرائيل ينتقل إلى أذربيجان: حرب على الأبواب؟
ونفذ الجيش الإيراني سلسلة من التدريبات تحت شعار “غزاة خيبر” باستخدام المدفعية والعربات المدرعة والطائرات المسيرة بالقرب من حدودها مع أذربيجان. في محاولة لاستعراض القوة وممارسة الضغط على أذربيجان لوقف السماح لإسرائيل باستخدام الأراضي الأذرية. وقال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني “علي شمخاني”: “يجب أن تعلم أذربيجان أن إيران تعتبر من حقها مواجهة الإرهاب والتهديدات الأمنية من النظام الإسرائيلي”.
مناوشات عسكرية
عن طريق الأذرع أو بشكل مباشر، تخوض إسرائيل وإيران مواجهات في عدد من بؤر الصراع في الشرق الأوسط. لاسيما في سوريا وفلسطين ولبنان. وفي الفترة الأخيرة، شنت إسرائيل عددا من الهجمات العسكرية على بعض الأهداف الإيرانية في محاولة لكبح جماح النفوذ الإيراني. بلغ عددها 3 عمليات عسكرية في شهر أكتوبر وحده، بالقرب من قواعد حزب الله في مدينة البعث بمحافظة القنيطرة. وهجوم آخر في منطقة تدمر بمحافظة حمص. كما استهدفت شحنة أسلحة متجهة إلى حزب الله بالقرب من قاعدة T-4 الجوية. ونفذ الجيش الإسرائيلي أكثر من 200 هجمة على أهداف إيرانية خلال عامي 2017 و2018. في إطار المواجهة بين الطرفين على الساحة السورية.
أما الرد الإيراني فجاء بحريا، حيث تمتلك طهران رابع أكبر أسطول بحري في العالم بإجمالي 397 قطعة بحرية. وفي وقت سابق، اتهمت إسرائيل القوات الإيرانية بشن هجوم على ناقلة النفط “ميرسر” قبالة سلطنة عمان في بحر العرب.
محددات الضبط
لكن رغم سخونة الأجواء، يدرك الطرفان، كما تدرك الدول الغربية والإقليمية كلفة أية تهور قد يقود إلى حرب. فضلاً عن حسابات جيوسياسية تجعل فكرة الذهاب بعيدا في مواجهات الظل إلى حرب مباشرة أمرًا على الأقل يحتاج إلى تروٍ.
ميزان القوة الاستراتيجي
تقع إسرائيل في منطقة نفوذ استراتيجي بالنسبة لإيران. حيث تمتلك إيران أذرعًا سياسية وعسكرية قادرة على الالتفاف حول إسرائيل في عدة جبهات مما يهدد أمنها. ولعل ذلك ما أدركته القيادة الإسرائيلية الجديدة. وهو ما دفعها لتغيير موقفها بالنسبة للاتفاق النووي، وتعاطيها مع إمكانية عودة الاتفاق وإن كان بشروطها.
كما تهدد التطورات الأخيرة بالمنطقة طهران من إمكانية تكوين جبهة ممتدة تستهدف المصالح الإيرانية، لاسيما في ظل اتفاقية أبراهام. بالإضافة إلى أن إسرائيل تمثل الحليف الأول للولايات المتحدة، مما يمنحها نفوذا دوليا نسبيا بالمقارنة بإيران.
الكلفة الاقتصادية
في ضوء تغليب المصالح، يؤدي توجيه ضربة عسكرية قاصمة إلى انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة. والتي تتضمن خسائر اقتصادية غير محتملة بالنسبة لجميع الأطراف. حيث لا تزال تعاني إسرائيل تداعيات جائحة كورونا.
ويقدر العجز في الميزانية العامة بأكثر من 62 مليار دولار، بنسبة 10.1%، وهو ما أشار إليه “شمخاني” منذ أيام محذرًا: “بدلاً من تخصيص ميزانية بقيمة 1.5 مليار دولار للأعمال الوحشية ضد إيران، يجب على النظام الصهيوني التركيز على توفير تمويل بعشرات الآلاف من مليارات الدولارات لإصلاح الأضرار التي ستنجم عن رد فعل إيران الصادم تجاه إسرائيل”.
وعلى الجانب الآخر، تعاني إيران أزمة اقتصادية متراكمة. ومن المقرر أن ينجم عن الدخول في حرب عسكرية إلى ضغط هائل على ميزانية الدولة، في ظل سعيها إلى رفع القيود الاقتصادية المفروضة عليها. ووفق تقديرات البنك الدولي، أدى الإنفاق المرتبط بجائحة كورونا وانخفاض عائدات النفط إلى زيادة نسبة عجز الموازنة العامة إلى إجمالي الناتج المحلي الإيراني إلى أعلى مستوى لها منذ عقود.
السياقات المحتملة
تشير جميع الدلائل على استبعاد شن حرب مواجهة بين إيران وإسرائيل، وأن التصعيد لا يتجاوز مستوى التهديد بالألفاظ. وكذلك صعوبة عقد اتفاق سلام بين الطرفين، وإنما تتراوح احتماليات المواجهة بينهما في ضوء حدود الردع والتزام سياسة ضبط النفس.
السيناريو الأول: في ظل الجهود الدولية المبذولة في سبيل إتمام الاتفاق النووي. من المتوقع أن تتوصل الولايات المتحدة إلى تسوية ملائمة للطرفين. مع تحجيم حدود الدور الإيراني في المنطقة، وإلزامه بسحب الميليشيات المسلحة من مناطق النزاع.
السيناريو الثاني: إذا لم تستطع الأطراف الدولية إقناع إيران بالجلوس على طاولة المفاوضات. من المتوقع أن تستمر المناوشات العسكرية بين الطرفين، ما يهدد أمن المنطقة بأكملها.
السيناريو الثالث: أن تتخذ المواجهات سياقًا مختلفًا، معتمدًا بشكل أكثر على الاستهداف غير المباشر. وهو ما نجحت إيران في اختباره خلال الفترة الأخيرة من خلال حربها البحرية التي تتنكر منها. فضلاً عن مجموعاتها المسلحة المنتشرة بالمنطقة.
السيناريو الرابع: قد تفهم إسرائيل اللعبة، وتجر المواجهة مع إيران في مساحاتها الضعيفة. خاصة في محورين، الأول سوريا، والثاني الاتفاق النووي. لاسيما أنها تدرك قوة إيران البحرية وتفوقها في الحرب غير المباشرة، وفي هذه الحالة ستكون إيران مجبرة على الدفاع عن مصالحها في هذين المحورين.