في يناير 2020 أطلق “المنتدى الاقتصادي العالمي“، وهو منظمة دولية غير حكومية مقرها جنيف بسويسرا، مبادرة لزراعة تريليون شجرة في مناطق مختلفة في العالم، بعدها أعلنت كثير من الدول عن حملات وطنية لزراعة الأشجار، وبدأ الترويج للتشجير باعتباره الحل السحري والوحيد المتاح للحد من تغير المناخ، فهل هذا صحيح دائما؟ وهل تنجح حملات التشجير في وقف تغيرات المناخ أو التخفيف من عواقبها؟
تعتمد الأشجار-والنباتات عموما- على ثاني أكسيد الكربون، مع ضوء الماء، في عملية التمثيل الضوئي وإنتاج الطاقة الضرورية للنمو، بالإضافة إلى ذلك، فهي تعمل على تخزين الكربون وتثبيت التربة وتحسين جودة الهواء، لكنها لا تقوم بالدور العظيم الذي تقوم به المحيطات والغابات الاستوائية التي تمتص حوالي 90% من انبعاثات الكربون.
وتمتص محيطات العالم والنظم البيئية البرية، مثل الغابات، حوالي نصف انبعاثات الكربون الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري والأنشطة الصناعية الأخرى، بينما يذهب الباقي إلى الغلاف الجوي، لذا يجب أن تركز الحلول على خفض الانبعاثات الحالية والتحول إلى ميزان جديد للطاقة بعيدا عن الوقود الأحفوري، وعلى الحفاظ على الغابات والأشجار القائمة بالفعل، ووقف تدهور الغطاء الشجري في العالم.
بالنظر إلى التراجع الهائل والمستمر في مساحة الغابات، خصوصا الغابات الاستوائية والأشجار المعمرة، وارتفاع درجة حرارة المحيطات، وتحمض مياهها، بالتالي، تراجع قدرة هذه المصارف الرئيسية على امتصاص الانبعاثات، أصبح ينظر إلى مشروعات إعادة تأهيل الغابات وزراعة الأشجار، على أنها يمكن أن تكون أحد الحلول للحد من تغيرات المناخ. لكن، أي أنواع الأشجار أفضل في امتصاص ثاني أكسيد الكربون؟ وكم يبلغ عدد الأشجار التي يتوجب زراعتها؟ وأين؟ ومتى؟ وما هي الأنواع التي يفضل زراعتها؟ وما هي كمية المياه التي تحتاجها هذه الأشجار؟ وما هي الفترة الزمنية اللازمة لنمو الأنواع المختلفة من الأشجار حتى تصبح قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون بالمعدلات التي تعوض خسائر الغطاء الشجري في العالم؟
في يونيو 2019 نشرت مجلة العلوم الأمريكية دراسة مثيرة للجدل قام بها فريق من الباحثين في المعهد الفيدرالي الدولي بزيوريخ – سويسرا، واعتمد المنتدى الاقتصادي العالمي الدراسة كأساس لمبادرته لزراعة تريليون شجرة. درس الباحثون في الدراسة، التي قادها عالم البيئة البروفيسور “توم كراوثر”، حالة الغطاء الشجري، واعتمدوا على 80 ألف صورة عالية الدقة التقطت بالأقمار الصناعية، وباستخدام طرق الذكاء الصناعي، وبيانات أخرى تتعلق بالتضاريس والتربة المتغيرات المناخية الأخرى، كمعدلات الأمطار ودرجات الحرارة وأنماط الرياح ومواسم الجفاف.
توصلت الدراسة إلى خريطة عالمية للمواقع التي يمكن أن تزرع فيها المزيد من الأشجار. تزعم الدراسة أن الأشجار هي أفضل الحلول المتاحة للحد من تغير المناخ، وخلصت إلى أنه يمكن زراعة الأشجار في مساحة تبلغ 900 مليون هكتار من الأراضي، (الهكتار الواحد، يساوي فدانين ونصف الفدان)، وأن زراعة هذه المساحة يمكن أن تحتجز أكثر من ثلثي انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون التي يسببها النشاط البشري. ومع أن تقديرات الدراسة للمساحة المقترح زراعتها ليست بعيدة عن الأرقام التي كانت قد توصلت إليها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في تقريرها المنشور عام 2018، والتي ذهبت إلى أننا في حاجة إلى زيادة مساحة الغابات والأشجار بمليار هكتار حتى منتصف القرن. لكن اللافت للنظر، أن مجلة العلوم الأمريكية التي نشرت الدراسة، نشرت بعدها خمسة أوراق علمية تنتقد بشدة الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها الباحثون السويسريون!
يقول نقاد الدراسة إنها معيبة للغاية، وإن حسابات الأشجار والمساحة وامتصاص الكربون خاطئة، وإن الدراسة بالغت جدا في تقدير مساحة الأراضي المتاحة لزراعة الأشجار، وإن حساب امتصاص الكربون أيضا غير دقيق، لأنه قام على افتراض أن غطاء الأشجار الجديدة يساوي تخزينا جديدا للكربون، وفي هذا الخصوص، فإن الحشائش والسهول العشبية أو أراضي السافانا، التي قد تحتوي على عدد قليل نسبيا من الأشجار، تحتوي بالفعل على الكثير من الكربون في تربتها، الأمر الذي يعني أن تقديرات الدراسة السويسرية للكربون الذي يمكن امتصاصه أكبر 4 مرات من الواقع. بالإضافة إلى ذلك، فإن زراعة الأشجار الجديدة خصوصا في المناطق الجليدية يمكن أن يؤدي إلى زيادة امتصاص أشعة الشمس وبالتالي إلى ارتفاع في درجة الحرارة. ثمة خلاف كبير بين العلماء في تقدير المساحات المتاحة لزراعة الأشجار، في العام الماضي نشر موقع العلوم للعموم- بوبيولار ساينس- دراسة تؤكد أننا بحاجة إلى عشرة أضعاف المساحة، وهو الأمر الذي يبدو صعب المنال، وربما لا يمكن تنفيذه، لا الآن، ولا في المستقبل القريب.
حملات زراعة الأشجار ليست جديدة، لكنها تسارعت في الفترة الأخيرة، فأعلنت كثير من الدول عن حملات وطنية لزراعة الأشجار. نجحت حملات إعادة تأهيل الغابات نجاحا محدودا في أوربا. ففي إسبانيا نجحت عمليات إعادة التشجير في زيادة مساحة الغابات خلال ثلاثين عاما من 8% إلى نحو 25% من مساحة البلاد. وخلال الفترة بين عامي 2000 و2015 نجحت أوربا في إعادة تأهيل 2.2 مليون هكتار سنويا من الغابات والأراضي المتدهورة. لكن للأسف، الكثير من هذه الحملات تحول إلى إنذارات ورسائل تحذير واضحة، ونستعرض هنا عددا من هذه الحملات وننظر في مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق أهدافها، وفي هذا السياق، تقول دراسة نشرها موقع “أخبار العلوم”- ساينس نيوز- في يوليو الماضي، أن مشروعات التشجير الضخمة التي لا تضع في اعتبارها العوامل العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن تهدر الأموال، وأن تضر بأكثر مما تنفع.
يقول جوزيف فيلدمان عالم البيئة بجامعة تكساس الأمريكية إن الأشجار فكرة يمكن استخدامها في الدعاية للحصول على الدعم السياسي، وأن هذا الاستخدام يمكن أن يؤدي إلى كثير من المشكلات، الشيطان -كما يقولون- يكمن في التفاصيل، وينصح فيلدمان بتوخي الحذر قبل المضي قدما في مثل هذه الحملات التي تركز فقط على عدد الشتلات التي يتم غرسها، ولا يعطون الوقت الكافي لرعايتها والحفاظ عليها وصولا إلى مرحلة النضج.
في عام 1974 بدأت الحكومة في “شيلي” في تقديم إعانات لملاك الأراضي من أجل زراعة الأشجار، لكن القوانين كانت تسمح للملاك بتحويل أراضي الغابات والأشجار إلى مزارع للمحاصيل المدرة للأرباح، نتيجة لذلك، لم تعمل المزارع الجديدة على زيادة تخزين الكربون فحسب، بل أدت أيضا إلى تسريع خسائر التنوع البيولوجي، وفقا لدراسة في دورية “نيتشر- الاستدامة” في سبتمبر 2020. يتحدثون كثيرا عن الأشجار، ولا يتحدثون عن النظم البيئية المتكاملة وحماية التنوع البيولوجي.
في عام 1978 بدأت في الصين حملة واسعة فيما عرف بالجدار الأخضر العظيم لوقف زحف صحراء “جوبي” في شمال البلاد. كان هدف الحملة زراعة مجموعة من الأشجار في منطقة تمتد على 4500 كيلومتر، وتضمنت استخدام الطائرات لإسقاط ملايين البذور في الأراضي، بالإضافة إلى ملايين الشتلات التي زرعت يدويا، لكن تقييما عاما للحملة في 2011 كشف عن أن ما يصل إلى 85% من المزارع والأشجار فشلت، لأنها لم تستطع البقاء في البيئات القاحلة التي زرعت فيها.
في يناير من العام الماضي أطلقت تركيا حملة لزراعة 11 مليون شجرة في مناطق مختلفة من البلاد، ففي مقاطعة “كوروم” زرعت أكثر من 300 ألف شجرة في ساعة واحدة، محققة رقما قياسيا عالميا جديدا، لكن في غضون ثلاثة أشهر فقط، كان ما يصل إلى 90% من الشتلات الجديدة قد ماتت، وفقا لنقابة عمال الزراعة والغابات التركية، وقال رئيس النقابة لصحيفة “الجارديان” البريطانية، إن الشتلات ماتت بسبب نقص المياه، ولأنها زرعت في التوقيت الخطأ.
في الهند، في منطقة “كانجرا” في مقاطعة “هيماشال براديش” واصلت الهند زراعة الأشجار لأكثر من عقدين من الزمان. كان الهدف من الحملة زيادة كثافة الغابات المحلية وتوفير منافع كالمراعي وأخشاب الوقود والأعلاف للسكان المحليين وحيواناتهم. درس “إريك كولمان” الأستاذ بجامعة فلوريدا وزملاؤه نتائج الحملة، فراجعوا الآلاف من صور الأقمار الصناعية، وأجروا مقابلات مع المسئولين والسكان، وتوصلوا إلى أن غرس الأشجار كان له تأثير ضئيل للغاية، فلم تتغير مساحة الغابات كثيرا، ومع أن ملايين الدولارات أنفقت على الحملة، إلا أن عددا قليلا من الأسر فقط استفادت منها.
في المؤتمر الدولي للحراجة الزراعية الذي انعقد قبل عامين في مونبلييه بفرنسا، طرح “لا ليز دوجوما” على المشاركين السؤال التالي، من منكم غرس شجرة من قبل؟ ثم سأل من أجابوا بنعم، هل نمت الأشجار التي غرستموها؟ وأقر معظم من غرسوا الأشجار بأنهم ليسوا متأكدين ما إذا كانت قد نمت أم لا، وعلق السائل قائلا: ننفق الكثير من الأموال على زراعة الأشجار، لكننا لسنا على يقين مما سيحدث لها فيما بعد.
درس دوجوما أسباب فشل هذه المشروعات في كينيا في ورقة عمل نشرت في العام الماضي، ذكر فيها، أنه في كل عام، تنفق ملايين الدولارات في زراعة الأشجار، لكن غطاء الغابات لا يزيد، ويتسائل، إلى أين تذهب هذه الأموال؟ يقول دوجوما إن عنوان القصة يجب أن يتغير من غرس الأشجار إلى زراعة الأشجار ورعايتها حتى النمو الكامل.
في بداية عام 2019 أعلن رئيس وزراء إثيوبيا، عن حملة لزراعة “مليار شجرة لعلاج إزالة الغابات والتغير المناخي”، لكن إثيوبيا-المشغولة بالحرب- لم تغرس شجرة واحدة خلا 8 أشهر، وفجأة، وفي يوم من أيام أغسطس، أعلنت الحكومة أنها نفذت خلال يوم واحد ثلث أهداف حملة المليار شجرة، وأنها غرست 350 مليون شجرة، في يوم واحد، ضاربة بذلك رقما قياسيا عالميا، كما قالت مصادر حكومية أن أكثر من 23 مليون من أصل 105 ملايين هم سكان إثيوبيا، قد شاركوا في حملة غرس الأشجار. فهل غرست إثيوبيا فعلا هذا العدد الضخم من الأشجار؟ وهل شارك 22% من سكان إثيوبيا فعليا في الحملة؟ وهل يمكن عمليا ولوجستيا وماليا تنفيذ ثلث أهداف الحملة المقرر لها ثلاث سنوات في يوم واحد؟
وزعت الشتلات على المواطنين قبل الحملة بثلاثة أيام، ووفقا لموقع “بي بي سي” قال مدير إحدى المؤسسات الحكومية إنهم تلقوا أوامر بزراعة 10 آلاف شجرة، وكان عليهم دفع التكاليف من ميزانية المؤسسة، لذلك فقد اكتفوا بزراعة خمسة آلاف شجرة، لكنهم رفعوا تقريرا بزراعة العدد الكامل. كذلك هناك اختلافات بين الأرقام التي أعلنها وزير التجديد والتكنولوجيا والبيانات المنشورة على موقع رئاسة الوزراء على الإنترنت. طلبت “بي بي سي” توضيحا من رئاسة الوزراء، لكنها لم تتلق ردا حتى الآن.
نشر موقع بلومبرج في 20 أغسطس الماضي تقريرا بعنوان الجانب المظلم من حملات زراعة الاشجار في المدن. التقرير خلص إلى أن معظم هذه الحملات فشلت في تحقيق أهدافها المرجوة منها. واستعرض التقرير حالة الدانمارك التي أعلنت في عام 2015 بحماسة بالغة عن عزمها زراعة 100 ألف شجرة جديدة في العاصمة كوبنهاجن بحلول عام 2025. ولكن، بعد مرور ست سنوات على الإعلان، فإن الكثير من تلك الشجيرات، قد انتهى بها الأمر بالذبول والموت. وقال متحدث باسم المدينة إن نحو 50% من الأشجار المزروعة قد تمكنت من البقاء. من جهة أخرى، أسهمت خطة زراعة الأشجار في زيادة الغطاء الأخضر بنسبة 1.5% منذ عام 2015.
في لوس أنجلوس ودينفر بالولايات المتحدة الأمريكية، أطلق كل من عمدتي المدينتين في عام 2005 حملات لزراعة مليون شجرة، وبعد سنوات لم تزرع لوس أنجلوس إلا 407 آلاف شجرة، فيما زرعت دينفر حوالي 300 ألف شجرة. بعض الأشجار التي يعلن عن غرسها لا تغرس أصلا، كما أن الكثير من الأشجار التي تتم زراعتها، لا تنمو ولا تعيش، ولا تحقق الفوائد المرجوة منها.
تقول “لوسي هوتيرا” عالمة البيئة في جامعة بوسطن “تستطيع مبادرات زرع الأشجار تحقيق فوائد كبرى، ولكن أظن أن الكثير منها يتم تنفيذه بطريقة عشوائية”. وتقول “لارا رومان” التي تدرس موت الأشجار في خدمة الغابات الأمريكية “إن الأمر لا يتعلق فقط بزراعة مليون شجرة، بل بزراعتها والاعتناء بها في الأماكن المناسبة”. على الأشجار أن تعيش لسنوات طويلة، قبل أن تبدأ في التعويض عن التكلفة الكربونية الناجمة عن زراعتها، وبالتالي، فإن المكسب البيئي الأكبر من زراعة الأشجار لا يتحقق إلا حين تنمو، وأحيانا لا يحصل ذلك إلا بعد عدة عقود على زراعتها.
في مصر نفذت وزارة البيئة في يوم أول سبتمبر العام الماضي حملة تشجير في حي مصر الجديدة، حيث تم غرس 244 شجرة مثمرة، و4 آلاف متر من النجيلة، وأعلن عن حملات لزراعة الأشجار في محافظات الشرقية والغربية والبحر الأحمر وأسيوط، في إطار مبادرة “اتحضر للأخضر”. وفي مايو الماضي قالت وزيرة البيئة لقناة سي بي سي إكسترا- إنه في إطار تنفيذ المبادرة الرئاسية “حياة كريمة”، تم تشجير الطريق المؤدية إلى المتحف القومي للحضارة والمنطقة المحيطة بعدد 150 شجرة، بالإضافة إلى زراعة 10 آلاف شجرة في عدد من المدارس والجامعات والأحياء، وأوضحت أن الوزارة وفرت 222 ألف شجرة لزراعتها في 21 محافظة من محافظات الجمهورية.
حملات التشجير في مصر تبدو هزيلة إذا ما قورنت بالأرقام والمعدلات العالمية، بعملية حسابية بسيطة، نعرف أن نصيب كل محافظة من أشجار وزارة البيئة هو حوالي عشرة آلاف شجرة تقريبا، لكننا لا نعرف -على وجه الدقة- عدد الأشجار التي تمت زراعتها فعليا في المحافظات، ولا نعلم ما إذا كانت الوزارة وإدارات التشجير في المحافظات، تحتفظ بسجلات لأنواع هذه الأشجار، وأعدادها، ومواقعها، وأعمارها المتوقعة، ولا نعلم ما هي خطة الوزارة والمحافظات لرعاية الشجيرات الصغيرة حتى تنمو.
هل حملات زراعة الأشجار هي الإجابة الصحيحة على سؤال تغير المناخ؟ أم مجرد وسيلة لكسب الوقت في السباق بين الدول الصناعية الكبرى لتطوير “تقنيات جديدة” لمواجهة تغير المناخ؟
لم تنجح حملات التشجير على اتساعها وانتشارها في تعويض خسائر الغطاء الشجري في العالم، والحل العملي المعروف هو خفض الانبعاثات الحالية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق الحد من استخراج واستخدام الوقود الأحفوري المتمثل في النفط والغاز والفحم، لكن مصالح الشركات والدول الكبرى المنتجة للنفط والغاز والفحم، تهمش هذا الحل، وتقاوم التحول إلى ميزان جديد للطاقة، لا يعتمد على الفحم والنفط والغاز، وتقترح، بدلا من ذلك، حلولا غير عملية، ولا يمكن تنفيذها.