الأحلام جزء مهم جدا من حياة السجين. تهتم النساء في السجن بتفسير أحلامهن وكذلك تفسير العلامات بل حتى اختراع بعضها لخلق الأمل، ودائما هناك أمل. هناك أمل لديهن حتى المحكومات بالمؤبد، الإيمان بأن هناك مخرج لا يفتر عندهن ولو قضين عمرا هناك، لازلن يملكن الرغبة في الخروج، أبدا لم أشاهد واحدة ترغب في البقاء بالسجن ومهما امتلكت من مال وسلطة -نعم يستطعن تحقيق أموال طائلة السجينات من السجن بشكل مشروع نسبياً أو غير مشروع بالمرة- لكن مهما قضت واستطاعت أن تنجو من السجن لا تتمنى أبدا البقاء داخل أسواره. 

ربما خشيت -آية آنوش- حينما “ندهوا عليها” أي حينما تم تبليغها أن أمر الإفراج الخاص بها سينفذ غدا بعد قضائها عشرة سنوات في السجن، لكنها رغم الخوف كانت مبتهجة وقلقة حينما لم ينادوها في اليوم التالي حتى عرفت أن “ترحيلتها” تأخرت للغد، لم يكن لقبها “أنوش” إنما هو لقب -عايده أنوش- أو كما تدعوها صديقاتها -عايده شكل- نظرا لأنها “بتتخانق” ليل ونهار رغم ملامحها الجميلة التي تتميز بعينين خضراوين وجسم متناسق وهي أم لولدين كلاهما في السجن بفترات عقوبة مختلفة نظراً لتوارث العائلة مهنة تجارة المخدرات، كانت -شكل- محكومة بالمؤبد، وكانت “آية” ابنتها خلال آخر أربعة أعوام، يأكلن سوياً ويطبخن سوياً ويتشاجرن معاً وسوياً. 

أحلام أنوش

حلمت “أنوش” الأم بأن ابنتها “هينادوا” عليها قريباً، وهي في الحلم نفسه رأت أنهم “سحبوها” لأنهم أكتشفوا خطأ بأوراقها وأنها لم تحصل على حكم المؤبد إنما الإعدام. بالفعل بعد أيام نادوا “آية” لكن كل النسوة أكدن لها أن معنى الحلم أنها ستخرج وأن الأحمر في الأحلام علامة فرح. وترد “عايدة شكل”:”أخرج إيه أنا لسه في أول التأبيده معداش خمس سنين ومعايا ماده” وكل مرة ترد عليها إحداهن “قادر يفرجها علينا ربنا، ياختي مفيش سجن اتبنى على مسجون” في إشارة منهن أن كافة المساجين يعودوا لبيوتهم عاجلاً أو آجلاً.

رغم أن -الحاجة مديحة- كانت تسكن السرير رقم 20 في عنبر 6 الذي قضيت عليه سبعة أشهر على المرتبة والمخدة نفسها وورثت بطانيتها بعدما ماتت فيه قبل نقلي إلى هذا العنبر بشهرين. إلا إنهم أبداً لا يفكرون في احتمالية موتهن هنا. على الأقل ليس هذا الشائع أو الذي يردد بالصوت العالي، الفأل الحسن هو ما يهمهن دائما، ملابس التي ماتت أو -سحبت لعنبر المخصوص أو لتنفيذ الإعدام- وكافة حاجاتها الشخصية قليلاً جدا ما يقبلوا ارتدائها مهما كانت حاجتهم. أما “شبشب” أنوش الابنة فبالرغم من أنه كان أصغر من قدم “عايدة أنوش” إلا أنها أخذته وارتدته لأن “شبشب اللى مروحه اللى تلبسه بتروح” -معروفة-.

لكن “أمينة” لما عرفت أن اسمها ضمن عفو العيد وأنها لن تقضي ست سنوات أخرى بعد خمسة أعوام في السجن، حرصت على ارتداء ملابسها الداخليه كلها -بالشقلوب- لتمنع الحسد. وبالفعل استطاعت أن تخرج من السجن حية رغم حسد مئات النسوة من اللاتي لم يخرجن في العفو رغم أنهن قضين مددا أطول منها وأن حكمهن أخف وأنهن لسنا تاجرات مخدرات معروفات وتلك أول قضية لهن بخلافها., لكن “الله” أنقذها كما تقول هي ويلمح البعض أن أموالها هي من أنقذتها! 

حينما قطع شبشبي رددت النساء جميعا الجملة ذاتها، وبصراحة كنت تنسجم مع تلك البساطة الشعبية التي قرأت عنها ورأيتها ببعض الأفلام الواقعية وأبداً لم أنل حظ أن أشاركهن المعيشة بمرارتها القاسية وحلوها البسيط، حينما قطع شبشبي وكدت أبكي لأنهم يرفضون إدخال “شبشب” لي وأيضاً ممنوع أن أشتري أو تعطيني إحداهن أي شيء فكيف سأتحرك بدونه! إلا أنهن جميعاً أكدن لي أن هذا فأل حسن وأن -الحبسه خلصت-. ولقد حصلت بالفعل بعدها بأسبوعين فقط على قرار إخلاء سبيلي في القضية الأولى. -صحيح تم تدويري في قضية أخرى من الداخل لكن هذه مسألة أخرى، أليس كذلك؟-.

 

“حفلة الخروج”

لم أحصل على حفلة لخروجي أو ما يسمينه “ليلة” لكني حضرت عشرات “الليالي” سواء في المواسم أو أعياد ميلادهن أو أفراح أولادهن بالخارج أو خروج إحداهن. وتتفاوت درجة الفرح على حسب المناسبة وأيضاً على حسب مكانة السجينة. المعتاد أن يبدأ الحفل منذ الصباح، يمتلئ الحمام بنسوة ينزعن شعر أجسادهن بـ “الحلاوة” ثم يتزاحمن ويتشاجرن ليحصلن على دور في “الحموم” ثم يحضرن “الطقم” تستعد كل واحده بإحضار طقم ملابس ملون ومميز، بعضهن يحصل حتى على فساتين، بالطبع تأجير الفستان هناك قد يكلفها أجر شهر من الخدمة “خرطوشة سجائر” لكن أن تبدو جميلة في الليلة أمر يستحق.

ثم بعد “القيلولة” يشرعن في فتح الأغاني على السماعات عبر فلاشات ممتلئة بالمهرجانات وأغاني الرقص -بدأت أسمع المهرجانات هناك بعدما كنت ذات موقف معادي للغاية منها، أصبحت أستسيغ حتى بعضها واهتز على إيقاعها-. وبعدها يبدأ الرقص في حلقة يلتف حولها الجميع يصفقن وفي المنتصف واحدة بعد الأخرى ترقص. تستعرض جمالها. ومفاتنها. تستعرض ما تملك لعلها تحصد مديحا أو ربما تحظى بسجائر يتم -تنقيطها- بها. الرقص هناك له مرونة خاصة في التغلب على الحياة. هناك فلسفة مختبئة في بساطة أفعالهن. تشجعت هناك مع جسدي أكثر. صرت لا أخفيه ولا أخجل من أي تصرف خاص بطبيعتي البشرية أو الأنثوية. البساطة هناك لها فلسفة عميقة.

ومهما وصلت بساطتهن أبدا لا يتسامحن مع إحداهن تخطو من فوق موقد الطعام، ليس لأنه فعل خطر أبداً ليس المهم الخطر لكن هذا فيه جلب لعدم البركة إلى الأكل. ثم أنهن يجلسن منخفضات عن مستوى الطعام أو على الأقل في نفس المستوى لكن لا يوضع الطعام أبداً في مستوى أقل من الجالس للطعام هذا يحمل قلة تقدير للنعمة بل حتى إهانة لها. الشبشب المقلوب يتسارعن لعدله ولو كنا في طريقهن للجنة نفسها أو الجحيم، الشبشب لابد أن لا يظل مقلوباً أبداً لا أعذار لهذا. قطع أي أقمشة يجب أن -تتشاهد- عليها أولا يا إلا تجلب النحس للمكان وتؤذي الأرواح. ممنوع عمل -حلاوة أو نتف شعر الوجه والحواجب في الصيام- هو حرام يبطل الصيام!.  بالطبع هناك جن وأكثرهن -مركوبات أو مخاويات من جن عاشق بالطبع- كانت إحداهن تحكي لي بغموض مخيف وصوت مرتعش أنها لا تستطيع أن تصلي أبداً رغم رغبتها الشديدة لأن “اللى عليها” كافر يرفض صلاتها ويؤذيها بشدة. وقبل أن أرد -بصراحة كنت دائما استمع دون رد ليكملوا متشجعات بإيماءة رأسي- على كل لحقتني زميلتنا في وردت عليها قائلة عن نفسها: “اللى علي بقى مسلم لو مصلتش يضربني”!

طبعاً ممنوع حكي الأحلام السيئة وإن كان لا بد فالتستعيذ بالله من الشيطان وتبصق من أعلى كتفها اليسار أولا وتقص رؤياها على من تفسرها لها وحدها بصوت هامس في أذنها اليسرى. ومهما بدا الحلم سيئاً فعلا يستطعن بشكل سحري تحويله لأمل ولو واهم. لكنه دائما ينبغي أن يكون هناك أمل. 

بالطبع قص الشعر في الليالي القمرية وحدها من كل شهر عربي، هذا ما يجعله أجمل وأثقل. ولابد أيضا من -التشاهد- عليه أولا والشعر المقصوص لا يرمى أبدا في الحمام ولا في الزبالة يحتفظن به حتى يخرجوه في الزيارة.

الفراشة البيضاء حين تحوم حول إحداهن هي بلا شك علامة على اقتراب موعد زيارتها. -دلق القهوة كالعادة خير- لكن قراءة فنجان القهوة قد تكلفك كرامتك فهي ممنوعة تماما في السجن وفيها -تشريده- أي قضاء أيام تصل لأسبوعين في حمام عنبر مخالف، ممنوعة من كل شيء حتى من الأكل -إلا أكل السجن- ومن الحموم -إلا النصف السفلي في حالة الدورة الشهرية-.

هناك حياة كاملة في السجن. بمرارتها وحلوها. هناك احتفالات مستمرة بالحياة بكل ما فيها، في التفاصيل لا يكمن الشيطان وحده، بل تكمن الحقيقة والحياة والمعنى والقيمة، في التفاصيل يكمن الألم والمعاناة والشوق والمحبة واللطف، في التفاصيل لا يكمن الشيطان وحده بل يكمن الله. في التفاصيل يكمن الخير والشر. تكمن الحياة. هذا الاحتفال المستمر بالحياة في تفاصيل الحياة بالسجن رغم أنه مؤكد بلا احتفاء بالسجن. لكنه احتفال قائم كمقاومة سلمية للموت.

 

اقرأ أيضا:

المشهد الأول: الإيراد… الداخل مفقود والخارج فاقد شيئاً

 

المشهد الثاني.. حينما يصبح الموت نجاة من الحياة

 

المشهد الثالث.. رحلة إلى متاهة عقلية في الانفرادي