تحذير للفئران:

أيها الفأر/

لست وحدك الذي يؤكد أن استبصار المستقبل أمر عبثي/ ويقول إن أحسن الخطط التي وضعها فئران ورجال/ تنتهي في الغالب نهاية بائسة/ ولا تحقق لنا إلا الحزن والألم/ بدلا من الفرح المأمول

أنت أسعد مني أيها الفأر/

لا يشغلك إلا اللحظة/

بينما أنا…/

آآآآآه…/

أَنظر إلى الماضي فلا أرى إلا الكآبة

وأًتطلع إلى المستقبل.. فلا أستطيع أن أرى

لذلك أُخمّن، وأخاف

هكذا تحدث الشاعر الاسكتلندي العظيم روبرت برنز إلى فأر عابر يبحث عن طعامه، لاهيا عن كل شيء، بينما ينهمك برنز في قلق الفكر وتعب حرث الحقل

وهذا المدخل بمثابة تحذير للفئران من هذا المقال، لأنه لا يتضمن إلا الألم من الماضي، والقلق المستقبل

ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان:

هذا العنوان الفرعي يأتي بمناسبة قمة المناخ “COP26” فهو مستوحى من الشعار الشهير: “ما يحدث في القطب الشمالي لن يبقى في القطب الشمالي”، حيث يؤدي الاحترار إلى إذابة الثلوج وارتفاع منسوب البحار وإغراق مناطق كثيرة على اليابسة البعيدة.. والمثال في بعده السياسي يضعنا مباشرة وسط دوامة “الفوضى الخلاقة” التي تثيرها الإدارة الأمريكية.. فتشعل حرائق العالم بعود ثقاب صغير، بينما هي تخطط لسرقة الجميع في زحام الحرائق، ولهذا فإن أي قراءة لانقلاب السودان داخل حدوده، لن تكون إلا “قراءة فأر”، لا يستطيع أن ينظر إلى ماض ولا إلى مستقبل، لأنه ببساطة لا يهتم بشيء اسمه “التاريخ”، ولا يتعلم منه شيئاً.

احتجاجات 30 أكتوبر
احتجاجات 30 أكتوبر

ماذا يقول التاريخ؟.. وبماذا يفيدنا الماضي والمستقبل في موضوع السودان؟

أذكر أنني كتبت مقالا في مطلع عام 2014 عن “غابة تمشي”، وهو تعبير عن رؤية زرقاء اليمامة لأشجار تزحف نحو قبيلتها من مسافة بعيدة، ولما سخر منها “ضعاف الرؤية” (إذ لا توجد في الواقع غابة تمشي)، حلت الكارثة بالقبيلة، التي لم تندهش لرؤية الزرقاء وواصلت عيشها في استقرار العقل البليد، بينما الأعداء نجحوا في التغلب على ملكة الزرقاء في الرؤية عن بعد، بحمل فروع الأشجار والتحرك بها لخداع الكسالى اللاهين، وتقتضي كتابة هذا المقال العودة إلى فقرات كاملة من المقال القديم الذي كان يحذر من حصار مصر وسط حزام من النار، لأن الأعداء يزحفون متخفين في طريقهم للسلب والنهب من أعماق القارة السمراء!

في المقال القديم سألت مشيرا إلى التحركات الأمريكية نحو أفريقيا:

ما أسباب الاتفاق العسكري الذي وقعته واشنطن مع النيجر، لنشر طائرات استطلاع دون طيار؟

وما أسياب التعاون الأمريكي والإسرائيلي المتصاعد مع إثيوبيا تحت مظلة مكافحة الإرهاب؟

وإلى أين تؤدي الأوضاع الأمنية المتدهورة في ليبيا والسودان؟

وما الغرض المباشر من تأسيس قيادة أمريكية مستقلة للشأن الأفريقي (أفريكوم)؟

وإذا نظرنا إلى الجديد منذ 2014 وحتى الآن، يمكننا أن نضيف المزيد من الأسئلة بنفس القلق والتوجس والتحذير عن انقلاب السودان، ومن قبله حراك الجزائر، والانقلابات المتوالية في مالي وغينيا بيساو وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وتشاد وموريتانيا، بالإضافة إلى ما يحدث في الصومال وجيبوتي وأثيوبيا، وما يحدث أيضا في اليمن على الضفة المقابلة لباب المندب (وهو مفتاح مهم للطريق الأمريكي نحو أفريقيا)

قبل أن ننهي الأمثلة، علينا ألا ننسى انقسام السودان بمباركة مصرية أمريكية، وعلينا ألا ننسى حرب دارفور التي أنجبت قائدا انقلابيا مغوارا مثل “دقلو”، وعلينا ألا ننسى أيضا جماعات العنف في نيجيريا، ونفكر في احتمالية تصنيعها لترهيب التوسع التجاري الصيني والروسي، وبعد ذلك يمكننا أن نبتعد مؤقتا عن التفاصيل وننظر نظرة عامة إلى خريطة مصر ونسأل (في إخلاص واهتمام ودهشة) عن أسباب دائرة العنف الغامض التي صارت تحيط بمصر من كل جانب:

في الغرب تحولت ليبيا إلى “خرابة سلاح” تمرح فيها فئران الإرهاب (فاقدة الوعي والتاريخ)، وتتمركز بالتوازي (أو التنسيق) معها ميليشات مسلحة (بوعي استعماري استنزافي جديد)، وتعمل فيها أيضا مافيا التهريب والتخريب، وفي الجنوب الغربي نسأل عن اتفاق النيجر، ومصير الوجود العسكري الفرنسي في مالي وأفريقيا الوسطى، ثم نتذكر التقسيم المخطط للسودان وبؤرة “القتل المصنوع” في دارفور، واستخدام ذلك ذريعة لحشد قوى دولية وأجهزة استخبارات وتخزين أسلحة، وتمهيد وضع لوجستي يُيَسِّر التدخل العسكري، أو إشهار الردع ضد أي دولة في المنطقة

وإذا استكملنا الدائرة باتجاه الجنوب الشرقي سنرى بوضوح طبيعة المشهد في الصومال، ونتوقف أمام بروز الدور الإثيوبي وتوظيفه لصالح الاستراتيجية الأمريكية، حيث حاربت إثيوبيا بالوكالة لصالح أمريكا، وصارت دولة محورية في القرن الأفريقي، وهو أمر يسهل أن نتعرف عليه من خلال دراسات نشرتها بكل صراحة مراكز أبحاث أمريكية ربطت بين ما يحدث في أفريقيا من مظاهر مسلحة وصراعات وانقلابات وبين المعلن من الاستراتيجية الأمريكية، التي تجاهر باستخدام دول وقيادات أفريقية كرؤوس جسور للهيمنة وإعادة استحلاب ثروات القارة السمراء، في كل المجالات وليس في الطاقة فقط….

ولنقرأ معاً:

في 17 مايو 2001  أعلنت أمريكا عن ضرورة خوض الصراع على مصادر النفط الأفريقي، وذلك من خلال تقرير للمجموعة الوطنية لتطوير سياسة الطاقة، أشار إلى تزايد احتياجات النفط داخل أمريكا بنسبة 60% حتى عام 2020، ونصح بزيادة الواردات من دول الخليج العربي، وفتح منافذ جديدة في أفريقيا، خاصة نيجيريا وأنجولا وغينيا، كما أشار إلى المكسيك وفنزويلا، وبحر قزوين، وبالتزامن مع نشر التقرير كشف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) حجم الارتفاع الكبير في الاحتياطي النفطي لأفريقيا، وذكر أن دول جنوب الصحراء أصبحت تنتج مقدار ما تنتجه إيران وفنزويلا والمكسيك مجتمعة، وبالتالي لابد من اهتمام أمريكا بالتدخل في هذه الدول لتأمين وجودها، والحد من النفوذ الصيني الجديد والنفوذ الفرانكفوني القديم الذي يعطي لفرنسا ميزة تاريخية للتدخل في 20 دولة أفريقية كانت تحتلها من قبل، ولذلك خططت واشنطن لرفع وارداتها النفطية من أفريقيا إلى 25% في عام 2015 ثم قررت تسريع خطتها قبل أن تهيمن الصين على أفريقيا، وهو التحدي الأخطر الذي يظهر في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ومنهم الجنرال ستيفن تاونسند (قائد أفريكوم) الذي حذر قياداتها قبل شهور قليلة من عزم الصين إنشاء ميناء بحري كبير قادر على استضافة غواصات أو حاملات طائرات على الساحل الغربي لأفريقيا، وقامت بمباحثات من أجل ذلك مع دول تمتد من موريتانيا في الشمال إلى جنوب ناميبيا، وطالب بالتدخل لمنع مثل هذه الخطوة المهمة جدا في البعد العسكري للصراع.

ويعترف تاونسند بنجاح التفوق الصيني في الشرق، نظرا لتواجدهم المتمركز في قاعدة داخل جيبوتي، لذلك يخططون لقاعدة مماثلة في الغرب على ساحل الأطلسي..

تصريحات تاونسند المعلنة تتحدث بلغة الحرب والصراع العسكري، وتحذر من التفوق الصيني، لذلك حثت واشنطن خطاها على طريق المرور نحو أفريقيا، وهو ما يبدو في محاولات ترتيب الوضع الليبي على الكتالوج الأمريكي، واستعادة العلاقات الدافئة مع الجزائر بعد سنوات من البرود الدبلوماسي والسياسي، انتهت بخروج بو تفليقة من المشهد وزيارة وزير الدفاع الأمريكي الأسبق للجزائر، لترتيب العلاقات بعد سنوات طويلة من الجمود وعدم زيارة مسؤول أمريكي كبير للجزائر، وكذلك ظهر التنافس العسكري البحري الأمريكي مع الروس والصينيين في مينائي سواكن وبور سودان، ولهذا الصراع مظاهر تبدو طريفة في بعض الأحيان رغم نواياها الاستنزافية الشريرة، ففي مارس الماضي بعد شهور من إطاحة البشير (في انقلاب على الانقلاب) وقفت فرقة موسيقى عسكرية سودانية في بورتسودان تعزف أمام 300  جندي من مشاة البحرية الأمريكية يقفون في وضع الانتباه على متن المدمرة ونستون تشرشل التي رست في الميناء لأول مرة منذ 30 عاما، وقد جاء لحن “يا حبيبى تعالى” بعد يوم واحد من استقبال الميناء نفسه للفرقاطة الروسية ” الأميرال جريجوروفيتش”، وقبلها كانت السودان قد وقعت اتفاقية مع قطر وتركيا لإعادة تأهيل ميناء سواكن، وهي الاتفاقية التي جرفتها اطاحة البشير لصالح وجود أمريكي ظاهر في الإعلام وفي الاجتماعات وفي دفء العلاقات التي أدت إلى رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في نهايات العام الماضي، بعد موافقة الخرطوم على إقامة روابط عسكرية (على بياض) كما يظهر من تصريحات وزيارات تاونسند وفيلتمان وغيرهم.

النفط الأفريقي
النفط الأفريقي

ذبابة ملك الرعب

لو مش فاهم حاجة يبقى انت كده تمام، يعني دخلت دوامة الفوضى الخلاقة، وأصبحت جاهزا لتذوق الطبخة الأمريكية التي اقترحها مايكل ليدين وأشعل بوش تحتها النيران، فالضبابية والتشعب والتناقض بين التصريحات والسياسات، من العوامل الرئيسية في صناعة الفوضى الخلاقة، وهناك عامل آخر تتميز به أمريكا وهو صناعة تحولات كبيرة من بذور صغيرة، ولتخفيف ثقل الموضوع أحكي لكم حكاية ذات مغزى عن ملك أدب الرعب والجريمة الشهير إدجار آلان بو، فقد كان يتردد في تحريك يده لهش ذبابة تقف على وجهه، ولما سئل مرة قال: إن حركة اليد في الهواء يمكنها مع استمرار الزمن أن تتسبب في التأثير على المناخ وزيادة الرياح والأعاصير، وهذا هو جوهر نظرية “تأثير الفراشة” التي علّمت أمريكا أن غرس البذور الصغيرة يؤدي حتما إلى أشجار ضخمة مع مرور الزمن، لكن هذا يقتضي تشويش أنظار الآخرين عن البذور حتى لا يستولون عليها أو يدوسونها بأقدامهم، وهو الأمر الذي ألهم شياطين واشنطن لتأسيس إدارة للتشويش والتضليل الإعلامي ترتبط بسياسة غرس بذور الفوضى في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم..

أريد من هذا الاستطراد أن أخبرك بأن عدم فهمك لظواهر ما تحيط بك، لا يعبر بالضرورة عن غباء أو فساد في القضية التي تنظر إليها، لكنه ينتج عن التشويش المتعمد الموجه ضدك، وهذا “التشويش” هو البذرة التي تثمر “عدم اليقين” وعدم تقدير المواقف على حقيقتها، و”التشويش” كما يقول علماء الفوضى، هو كل ما يربك ويعطل رؤيتنا للشيء الذي نحاول فهمه وتقييمه وقياسه، سواء كان انقلاب السودان، أو فستان رانيا يوسف، أو إلغاء الطوارئ في مصر، أو تقييم فيلم “ريش”..

وبسبب كثرة التشويش في المرحلة، فليس من المعقول أن نتمكن من فهم حقيقة ما يحدث حولنا، لأن الإعلام صار يستخدم للتشويش والإرباك والتعمية والتضليل، بدرجة أكبر من استخدامه في التوضيح والتوعية والتوصيل، لذلك أجد صعوبة في شرح قضية معقدة كهذه في جلسة واحدة، الأفضل أن أرمي بذوري وأطرح إشارات لعدد من النقاط الأساسية، مع إمكانية العودة في مقالات تالية لتفصيل النقاط التي يفيدنا فهمها وتشبيكها مع غيرها من العوامل، لنستطيع التعرف بواقعية على ما نريد، وهو بالنسبة لي مثلاً، ليس تقييم ما يحدث في السودان، أو علاقة حمدوك بحميدتي، والثورة بالانقلاب، لكنني مهتم أكثر بكل ما يخص مصلحة مصر وأمنها القومي، ومحاولة استخلاص أفضل طريقة للتعامل السليم والقرارات الصحيحة برغم الفوضى التي تشعلها واشنطن باحترافية هندسية، تتم إدارتها عن بعد ومن غير تورط مباشر مثلما حدث في العراق وافغانستان وقبلهما فيتنام…

لقد انتهت هذه التدخلات المكلفة، وبدأت الاستراتيجية الأمريكية في تنفيذ مخططاتها بأسلوب جديد، يمكن أن نفهمه من خلال هذا المثال السينمائي:

صاروخ ليمونيه

عدد من عناصر المخابرات المركزية يجلسون داخل قاعة كبيرة في لينجلي بولاية فيرجينيا (على بعد 14 ألف كيلومتر من مصر)، وأمامهم أجهزة اتصال وعلى الجدران شاشات كبيرة تعرض طائرة بلا طيار تحلق في سماء جيبوتي، وبعد ثوانٍ يضغظ أحدهم على زر صغير فينطلق صاروخ ضد هدف في مأرب باليمن، وبعد دقائق يأتي اتصال من الجانب الآخر يؤكد مقتل ستة مسلحين “يُحتمل” انتماؤهم لتنظيم القاعدة، ويختتم المتصل معلومته بأن إصابة الهدف “كانت مباشرة تماما” فيتبادل الجالسون أمام الشاشات التحية والأنخاب

هذه الضربة التي قتلت المستهدفين في اليمن انطلقت من قاعدة «ليمونييه» في جيبوتي، وهي القاعدة التي تتخذها أمريكا مركزا لإدارة كل شؤونها ومستهدافاتها في أفريقيا.

وإذا تذكرنا أن هذه الضربة تكررت بتكنولوجيا أدق في اغتيال قاسم سليماني والعالم النووي محسن فخر زاده، فإن هذا يعني أنها لم تكن مشهدا في فيلم سينمائي أمريكي، بل يعني أنها أسلوب جديد للهجوم والحرب عن بُعد.

وإذا تذكرنا أيضا  ما حدث في الخليج بعد ظهور النفط، يمكننا أن نستنتج ماذا يحدث الآن، وماذا سيحدث غدا في أفريقيا، ويمكننا أن نربط بين الاستغلال الاقتصادي للقارة وبين التواجد العسكري لتأمين هذا الاستغلال، وإدارة النزاعات المسلحة بالأسلوب الجديد الذي يسميه خبراء الاستراتيجية “التدخل من الخلف” ويسميه العسكريون “الحرب بأيدي الغير”، واسميه أنا “تفكيك الأوطان باستخدام الفئران”

وفي المقالات المقبلة نواصل كشف المزيد من جوانب القضية