قبل أيام قليلة، أطلق العربي القشاوي. رئيس إدارة التنفيذ والصيانة بهيئة حماية الشواطئ بوزارة الموارد المائية والري، تحذيرا جديدا بأن جزءًا كبيرًا من دلتا نهر النيل عرضة للغرق بسبب ارتفاع منسوب البحر المتوسط متأثرًا بالتغيرات المناخية.
الصدمة هنا ربما كان منبعها اقتراب الخطر. فقد أكد القشاوي خلال كلمته في الجلسة العامة باليوم الرابع لـ”أسبوع القاهرة للمياه”، أن المؤشرات تحيلنا إلى أن سطح البحر سيرتفع بفعل التغيرات المناخية خلال العقود القليلة المقبلة، ما سيتسبب في غرق مساحات واسعة من الأراضي المنخفضة عن مترين في دلتا نهر النيل في عدد من المحافظات. مشيرًا إلى أنه خلال العامين الماضيين شهدت السواحل المصرية في الإسكندرية والبحيرة ارتفاعا للأمواج بلغ 1.8 متر خلال النوات البحرية التي حدثت في فصل الشتاء وقد دخلت مياه البحر إلى العديد من المناطق.
حديث القشاوي ليس جديدًا. ولكنه أثير بشكل أكبر في الفترة الأخيرة، ففي شهر مايو الماضي. وجه الإعلامي سيد علي، سؤالًا للدكتور علاء النهري الباحث في المكتب الإقليمي لعلوم الفضاء بالولايات المتحدة الأمريكية. عن “حقيقة غرق الدلتا” خلال مداخلة تليفونية أجراها معه في برنامجه على فضائية “الحدث اليوم”.
السؤال جاء بلهجة رافضة للتصديق. متململة من تكرار الحديث عن غرق الدلتا. فالإعلامي سيد علي يسمع كما يقول ساخرًا، هذا الكلام “منذ 40 عامًا. وهو كلامًا يتجدد كل عامين أو ثلاثة”. لكن إجابة الدكتور علاء النهري جاءت واضحة وصادمة: “ليست دلتا النيل فقط، جميع الأراضي ذات المناسيب المنخفضة على مستوى العالم في إيطاليا واليابان وهولندا ودول الخليج وغيرها. مناطق معرضة للغرق، وهي حقيقة علمية مؤكدة.
يقاطع سيد علي، الدكتور علاء النهري للتحقق من موعد وقوع الكارثة. ليوضح النهري أن التوقعات كانت تشير إلى عام 2100. لكن نتيجة لزيادة الانبعاثات الحرارية للدول الصناعية الكبرى فإن هذه الكارثة ربما تقع في غضون ثلاثة أو أربعة عقود من الآن.
حديث قديم.. تحذيرات وتقارير دولية
الحديث عن غرق أجزاء من الأراضي المنخفضة في العالم بينها دلتا النيل في مصر جراء ارتفاع منسوب البحر المتوسط. نتيجة ذوبان الجليد “الأنهار الجليدية”. متأثرة بالتغيرات المناخية هو كلام قديم، تناولته مؤلفات العديد من العلماء من بينهم الجيولوجي المصري العظيم الدكتور رشدي سعيد، منذ سبعينيات القرن الماضي. وإن كان “سعيد” لم يتوقع قصر المدة نتيجة زيادة الانبعاثات الحرارية.
التحذيرات المستمرة من ارتفاع منسوب البحر المتوسط والاحتمال الوشيك بغرق المناطق الساحلية المنخفضة ودلتا الأنهار. تناولتها تقاريرً لعدة جهات دولية من بينها شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) والتي عملت لعشرين عامًا تحت مظلة الأمم المتحدة قبل أن تتحول لـ”شركة مستقلة غير ربحية”. تقدم خدمات إخبارية ومعلوماتية وبحثية حول حالات الطوارئ والكوارث البيئية. بحسب الوصف المنشور على موقعها الإليكتروني.
كما تحدثت تقاريرًا صادرة عن اللجنة الدولية لتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. والأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، ومنظمة المناخ المركزية، والبنك الدولي، عن تعرض ملايين البشر لخطر الفيضانات في المناطق الساحلية ودلتا الأنهار منتصف القرن الحالي نتيجة لتأثيرات التغيرات المناخية.
وتشير التقارير إلى أن البلاد ذات السواحل المنخفضة مثل إيران ودول الخليج. وتلك التي تتمتع بدلتا أنهار واسعة مثل مصر والعراق هي الأكثر عرضة للغرق.
المناطق المهددة في مصر ومساحتها
قبل يومين من حديث القشاوي. أكد وزير الموارد المائية والري محمد عبد العاطي. في كلمته خلال جلسة مناقشة مشروع التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي ودلتا النيل في ثاني أيام “أسبوع القاهرة للمياه”. أن من نتائج ارتفاع منسوب سطح البحر المتوسط جراء تأثيرات التغيرات المناخية، “غرق أكثر من ثلث الدلتا”.
ويشير تقرير “اللجنة الدولية للمناخ” بشأن احتمالات غرق المناطق الساحلية. ودلتا النيل نتيجة تأثير التغيرات المناخية، والصادر عام 2018 إلى أن 734 كيلو مترًا معرضة للغرق في دلتا النيل بمصر عام 2050، ومن الممكن أن تصل إلى 2660 كيلو مترًا عام 2100.
الإسكندرية هي أكثر المناطق الساحلية عرضة للغرق. إضافة لمحافظة بور سعيد، والمناطق الشاطئية برأس البر ودمياط، وكفر الشيخ. بينما تعد رشيد بحسب بعض التقارير أكثر المناطق خطورة في دلتا النيل.
نقص امتدادات المياه العذبة
الأحواض الجليدية العملاقة أو الأنهار الجليدية. بمثابة الخزانات الاستراتيجية عند منابع الأنهار. فهي خزانات عملاقة، تحتجز المياه التي تتساقط عليها في شكل ثلوج على ارتفاعات عالية في المواسم المطيرة ثم تطلقها مذابة في أحواض الأنهار.
يحكم الأنهار الجليدية نظام توازن دقيق. فكلما تساوت كمية الثلوج المتساقطة مع كمية المياه الذائبة، ضمنت الأنهار امدادات دائمة من المياه. لكن الارتفاع الكبير في درجات الحرارة سيؤدي إلى زيادة ذوبان الجليد. وبالتالي انهيار المخزون الاستراتيجي للأنهار، وهنا فإن الجفاف مقبل لا محالة فضلًا عن ما سيتسبب فيه غرق مساحات كبيرة من اليابسة محدثًا كارثة إنسانية سوف تلتهم مئات الملايين من البشر.
وفي مصر سوف يتسبب ارتفاع منسوب البحر المتوسط إلى تداخل مياه البحر مع المياه الجوفية. مسببا زيادة ملوحتها. بحسب وزير الموارد المائية والري، ما سيعني ضياع مخزون البلاد من المياه الجوفية.
تعرض السكان لخطر الغرق.. مصر الأعلى في المنطقة
يعيش أكثر من 680 مليون شخص في مناطق ساحلية منخفضة. ترتفع بضعة أمتار عن مستوى سطح البحر، وهي أعداد مرشحة للزيادة، حيث تتوقع تقارير صادرة عن اللجنة الدولية لتغير المناخ. وصولها إلى مليار شخص بحلول منتصف القرن الحالي. ما يعني أن ثلث هذا العدد على الأقل عرضة للموت غرقًا، بينما سيواجه الناجون مآسي التهجير.
وفي دلتا النيل في مصر التي يقطنها نحو 22% من السكان. تتوقع اللجنة الدولية لتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. أن يتعرض 4.1 مليون شخص من سكانها للغرق، بينما تبلغ النسبة في العراق 2.3 مليون شخص وفي المغرب 390 ألف شخص. وفي الأمارات 360 ألف شخص، وفي السعودية 200 ألف شخص، وهي توقعات تقول لجنة تغير المناخ، إنها بنيت على افتراض نجاح الجهود الدولية في خفض الانبعاثات الحرارية لمعدل متوسط.
تتوقع تقارير أكثر تشاءمًا للهيئة الحكومية الأمريكية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن شواطئ الإسكندرية ستغمرها المياه حتى لو لم يرتفع مستوى سطح البحر المتوسط سوى بمقدار نصف المتر. ما سيعني تهجير أكثر من 8 ملايين شخص من الإسكندرية ودلتا النيل منتصف القرن الحالي.
الزراعة والثروة السمكية.. كارثة تهدد الأمن الغذائي
فيما تتوقع التقارير الدولية. أن العالم سيفقد 1.8 مليون كيلو متر مربع، من اليابسة أغلبها أراض زراعية، نتيجة لارتفاع مستوى سطح البحر لأكثر من مترين. فإن كارثة كبرى تهدد الأمن الغذائي المصري، حيث تمثل دلتا النيل نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية في مصر والتي سوف تتعرض للغرق بحسب التوقعات.
يشير بحث قدمه اثنين من أساتذة كلية التخطيط الإقليمي والعمراني بجامعة القاهرة. إلى المؤتمر الدولي حول “الآثار المحتملة للتغيرات المناخية على القارة الإفريقية”. تحت عنوان “التغيرات المناخية وتأثيرها على الدلتاوات.. دراسة حالة (الدلتا المصريـــــة)” إلى أنه: “بتحليل استخدامات الأراضي في محافظات إقليم الدلتا يتضح أن الاستعمالات الزراعية تشغل المسطح الأكبر من استخدامات الأراضي حيث تشغل مساحة 2.2 مليون فدان بنسبة 75%. من إجمالي مساحة الإقليم وبنسبة 31 % من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية بالوجيهين البحري والقبلي”
ويتوقع العربي القشاوي. رئيس إدارة التنفيذ والصيانة بهيئة حماية الشواطئ بوزارة الموارد المائية والري. أن يهدد ارتفاع مستوى سطح البحر الكثير من الاستثمارات في ٦ بحيرات في شرق الدلتا وهي استثمارات وطنية تقدر بالمليارات، ويعتمد عليها مئات الآلاف من الصيادين في كسب عيشهم.
الإجراءات الوقائية للحد من آثار الكارثة
كشف وزير الري الدكتور محمد الدماطي. أن مصر حصلت من صندوق المناخ الأخضر على منحة قدرها 32 مليار دولار لمواجهة آثار التغيرات المناخية ومنها التهديدات التي تواجهها الدلتا المصرية، ويرى الدماطي أنه ليس مبلغًا كبيرًا، ولكنه أيضًا لا يمكن وصفه بالقليل.
وأشار العربي القشاوي. إلى أن الدولة أطلقت مشروع تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية بالساحل الشمالي ودلتا النيل وهو مشروع يهدف إلى إنشاء أنظمة حماية بطول ٦٩ كيلو متر بالأراضي المنخفضة في سواحل دلتا نهر النيل بخمسة محافظات هي “بورسعيد، دمياط، الدقهلية، كفر الشيخ، البحيرة”. إضافة لإقامة محطات إنذار مبكر على أعماق مختلفة داخل البحر المتوسط للحصول على البيانات المتعلقة بموجات العواصف والأمواج والظواهر الطبيعية المفاجئة.
وفي الإسكندرية تشير تقارير حكومية خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى تنفيذ عدة مشروعات لحماية الشواطئ من بينها الحاجز الغربي للميناء الشرقي، وزيادة عرض الشواطئ الرملية، بتكلفة 200 مليون جنيه، إضافة لحماية شاطئ الشاطبي. وترميم حاجز ولسان السلسلة، وتغذيات بالرمال بشواطئ استانلي وأبى قير والمندرة، وحماية شواطئ سيدي بشر وميامي.
وفي رأس البر ودمياط أعلنت الهيئة العامة لحماية الشواطئ بتنفيذ مشروعين بتكلفة 80 مليون جنيه، الأول حواجز الأمواج المنفصلة موازية لخط الشاطئ بتكلفة 30 مليون جنيه والثاني تنفيذ أعمال تدعيم جسم اللسان الذي يعتبر من أهم الأماكن السياحية بالمحافظة ونهايته البحرية.
وفي رشيد أقامت الدولة حائط رشيد البحري بطول 3500 متر شرق مصب فرع رشيد بمحافظة كفر الشيخ و1500 متر غرب المصب بمحافظة البحيرة.
مسؤولية دولية
الحد من آثار كارثة الارتفاع المتوقع في مستوى سطح البحر المتوسط. جراء التغيرات المناخية. التي أصبحنا بحسب التقارير الدولية على مقربة منها. يستلزم مشروعات ضخمة في البلدان ذات السواحل والدلتاوات المنخفضة. كما يستلزم وجود حلول بديلة لمصادر الغذاء التي سوف يدمرها غرق الأراضي الزراعية. ومصادر الثروة السمكية وغيرها من مصادر الغذاء. وهي مشروعات تحتاج لإمكانيات مالية وفنية تفوق قدرات الحكومات على المستوى الوطني. وتستوجب التزامًا دوليًا خاصة من جانب الدول والشركات الكبرى التي تسببت وتتسبب كل يوم في الهرولة نحو الكارثة.
إن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بتضافر أممي لمنظمات المجتمع المدني والقوى والتنظيمات الاجتماعية في كافة دول العالم خاصة الدول الغربية. بغرض التشهير بالسياسات الصناعية التي تزيد من الانبعاث الحراري، وفضح هذه السياسات، وكسب الجماهير على برنامج دولي شبيه بحركات مناهضة العولمة والتي ظهرت نهاية تسعينيات القرن الماضي في أمريكا الشمالية وأوروبا.