ينتهي أول تقدير استخباراتي أمريكي عن التغير المناخي (٢٠٢١) إلى ثلاث نتائج جيوسياسية تتعلق بالمستقبل (٢٠٤٠):
١- فمن المرجح أن تزداد التوترات الجيوسياسية حيث تتجادل البلدان بشكل متزايد حول كيفية تسريع التخفيضات في صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي ستكون مطلوبة لتحقيق أهداف اتفاقية باريس، وسيتركز النقاش حول من يتحمل مسؤولية أكبر للعمل والتمويل -ومدى السرعة- وستتنافس البلدان للسيطرة على الموارد والتقنيات الجديدة اللازمة لانتقال الطاقة النظيفة.
٢-من المرجح أن تؤدي الآثار المادية المتزايدة لتغير المناخ إلى تفاقم بؤر التوتر الجيوسياسي عبر الحدود حيث تتخذ الدول خطوات لتأمين مصالحها، فمع ارتفاع درجات الحرارة وظهور تأثيرات أكثر تطرفًا، هناك خطر متزايد من الصراع على المياه والهجرة، لا سيما بعد عام 2030. ومن المرجح أيضًا أن تؤدي هذه الضغوط المناخية إلى حدوث تدفقات جديدة من الهجرة، مع توقع زيادة 143 مليون مهاجر بسبب المناخ بحلول عام 2050 عبر أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا.
٣- تشير التوقعات العلمية إلى أن تكثيف الآثار المادية لتغير المناخ حتى عام 2040 وما بعده سيكون محسوسًا بشكل أكثر حدة في البلدان النامية، والتي نقدر أنها أيضًا الأقل قدرة على التكيف مع مثل هذه التغييرات، وستزيد هذه الآثار المادية من احتمال عدم الاستقرار وربما الصراع الداخلي في هذه البلدان.
أما بالنسبة للشرق الأوسط فإن التقرير يتوقع أن من شأن الانخفاض في عائدات الوقود الأحفوري (الغاز والنفط) أن يزيد من إجهاد دول المنطقة التي يُتوقع أن تواجه تأثيرات مناخية أكثر حدة -مثل درجات الحرارة المرتفعة جدًا والجفاف الممتد- لأنه سيقلل من الموارد المتاحة اللازمة للتكيف أو بناء بنية تحتية أكثر مرونة.
ستشكل سياسات إزالة الكربون والتقنيات المرتبطة به ملامح العالم في المستقبل، وسيؤثر التحول العالمي للطاقة على توزيع القوة، والعلاقات بين الدول، ومخاطر النزاعات، والدوافع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لعدم الاستقرار الجيوسياسي، كما سيساهم هذا الانتقال في تحول مجتمعات الشرق الاوسط في العقود القادمة، خاصة إن إزالة الكربون عن اقتصاداتها أمر ملح لأن المنطقة ستكون واحدة من أكثر المناطق تأثرا على كوكب الأرض بعواقب تغير المناخ. سيتأثر أمن المنطقة وازدهارها بشدة بالاحترار العالمي حيث تواجه المنطقة بالفعل مخاطر مناخية شديدة الترابط، وسيكون للسرعة في تنفيذ استراتيجيات التحول في مجال الطاقة تأثير على عدد من الأسئلة الحساسة لمستقبل المنطقة: التنويع الاقتصادي، والتنمية الصناعية، وسوق العمل، وتعرضها لتهديدات تغير المناخ. سيؤثر تحول الطاقة أيضًا على مكانة المنطقة في العالم؛ المكانة الدولية للدول، وسياساتها الخارجية، والطموحات الإقليمية. في الوقت نفسه، تعد الإمكانات غير المستغلة للطاقة المتجددة في الشرق الأوسط وأسواقها المحلية في قلب السياسات التجارية للأطراف المعنية الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين.
الجغرافيا السياسية للتحول المناخي
لا يمكن أن تحدث الجهود المبذولة لتسهيل التحول المناخي العالمي في فراغ، وبالتالي ستحتاج إلى استيعاب التطورات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا وتحل محلها، وهناك ثلاث طرق يمكن من خلالها للدول أن تكتسب نفوذًا في التحول العالمي الجاري إلى صفر كربون:
الأول أن تكون هي مصدر للطاقة المتجددة نفسها، حيث من المتوقع أن تزدهر دول مثل أستراليا والشرق الأوسط، التي تتلقى كميات كبيرة من ضوء الشمس والتي يمكن تسخيرها للطاقة الشمسية، ويرتبط بذلك الأنظمة والتقنيات، مما يحد من مستويات التأثير الجيوسياسي المباشر الذي تمتلكه الحكومات الوطنية من خلال ملكية موارد الطاقة المتجددة.
والثاني من خلال التحكم في المواد الخام المستخدمة في إنتاج الطاقة المتجددة مثل النيكل والجرافيت والليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة. هناك تركيزات عالية من هذه الموارد في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وربما القطب الشمالي.
الطريقة الرئيسية الثالثة التي يمكن للدول من خلالها اكتساب نفوذ في التحول إلى صافي الصفر هي من خلال قيادة الابتكار التكنولوجي الذي سيقود التحول نحو الطاقة المتجددة، وتمكينها من الاستفادة من ميزة المحرك الأول. ويشمل ذلك القيادة في تحسين الجدوى المالية من إنتاج الطاقة المتجددة مثل الهيدروجين، وكذلك وضع المعايير وتصميم أشكال جديدة للإنتاج.
في سياق المحددات الثلاثة السابقة يمكن الحديث عن عدد من التوجهات الجيوسياسية الجارية الآن والتي ستأخذ مداها في المستقبل المنظور :
١- الصراع على قيادة التحول المناخي حيث يُنظر إلى القيادة المناخية على أنها تمنح مزايا القوة الناعمة، والفشل في اتخاذ إجراء يهدد بتقويض العلاقات – لا سيما بين العالمين المتقدم والنامي. علاوة على ذلك، فإن تصورات التحول المناخي كأجندة ليبرالية غربية تحد من استعداد المنافسين الاستراتيجيين لاتخاذ إجراءات مناخية، فحيثما يُنظر إلى إجراءات تغير المناخ على أنها جزء من الأجندة الليبرالية الغربية، تظل الصين وروسيا مترددتين في تقديم تنازلات بشأن تغير المناخ (يلاحظ غياب رئيسي للدولتين عن قمة جلاسجو-اسكتلندا)، خوفًا من أن يُنظر إليهما على أنهما يخسران ورقة مساومة جيوسياسية محتملة؛ فاهتمام الصين المتزايد بصورتها الدولية بشأن تغير المناخ لا يمتد بالضرورة إلى التعاون الموضوعي مع الغرب بشأن التحول المناخي، كما أنها حريصة على إظهار قيادتها الخاصة خارج الالتزامات التي يقودها الغرب، وبينما يسعى الغرب إلى تأكيد نفسه على أنه طليعة العمل المناخي، فإن تحقيق التزامات ملموسة حول تغير المناخ سيتطلب أيضًا محادثات صعبة بين الحلفاء الراسخين حول مسؤوليات كل منهم حول تغير المناخ.
٢-من القوة العظمي مستقبلا؟ فالسباق على من سيكون ضمن القوى العظمي في المستقبل يتوقف على الكيفية التي سيولد بها التحول المناخي فائزين وخاسرين.
ستجني الصين، التي تسيطر على نسبة كبيرة من كل من التكنولوجيا والموارد اللازمة لإنتاج الطاقة المتجددة المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية من التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، مما يسرع صعودها كمصدر مهيمن وقوة عظمى عالمية، وعلى الرغم من سجلها المحلي السيئ فيما يتعلق بانبعاثات الكربون (تمثل الأولى عالميا بنسبة ٣٠٪ من انبعاثات الكربون)، فقد انتهزت الفرصة لقيادة إنتاج الطاقة المتجددة وتهيمن بالفعل على قطاعات كبيرة من السوق في صناعة الطاقة الشمسية: تتحكم الصين في 64٪ من مادة البولي سيليكون العالمية اللازمة لصنع السبائك والرقائق الشمسية المستخدمة في الألواح الشمسية. ونتيجة لذلك، تسيطر على ما يقرب من 100٪ من سوق السبائك والرقائق الشمسية، و80٪ من سوق تصنيع الخلايا الشمسية، وهيمنتها في كل مرحلة من مراحل عملية الإنتاج تعني أن الصين تنتج حاليًا ثلاثة أرباع الطاقة الشمسية في العالم.
٣-تراجع في مفهوم السيادة
لم تكن مفاهيم السيادة ثابتة أو مطلقة أبدًا: فهي موضع نزاع مستمر والتفاوض بشأنها وتكييفها، والاعتقاد بأن السيادة تنطوي على التزامات وكذلك امتيازات أصبح الآن مقبولًا على نطاق واسع.. لذا، فالطبيعة العالمية لتغير المناخ التي لا تُظهر أي احترام للحدود الدولية، تتطلب تعاونًا وثيقًا بين الدول وإعطاء الأولوية للجماعية على الاحتياجات المحلية العاجلة، وتنحية الديناميكيات الجيوسياسية الأوسع جانبًا لإيجاد حلول مشتركة لتحد مشترك. تغير المناخ لا يحترم الحدود الوطنية، ولا يمكن لدولة تعمل بمفردها منع الاحترار العالمي داخل حدودها أو خارجها، ومن ثم فإنه يمثل أيضًا مشكلة عمل جماعي واضحة ومميزة.
تتطلب الأزمة البيئية العالمية فن حكم جديد مبني على الاقتراح القائل بأن كل مخاوف الدولة الأخرى -من الأمن القومي إلى النمو الاقتصادي- تعتمد على محيط حيوي صحي ومستقر. هذا الإطار الذي تم تنشيطه لن يتخلى عن المفهوم الأساسي للمصلحة الوطنية ولكنه يوسعها ليشمل الأمن البيئي والمحافظة عليها.
٤-استمرار تعميق التفاوتات: فالدول الأكثر ثراءً مثل تلك المصدرة للنفط، وتلك التي تمتلك القدرات لقيادة التحول الاقتصادي نحو التكنولوجيا الخضراء، من المرجح أن تستفيد مالياً وتتجنب أي تكاليف اجتماعية، وفي حين سوف يضفي التحول نحو الطاقة المتجددة الطابع الديمقراطي على أنظمة الطاقة، فإنه سيفرض أعباء لا داعي لها على الدول النامية الفقيرة التي إما تعتمد على الصادرات التقليدية و/ أو تفتقر إلى الموارد للاستثمار الكامل في التحول المناخي.
من المرجح أن يؤدي التحول المناخي إلى تعميق العديد من التفاوتات الجيوسياسية الحالية، حيث من المحتمل أن تتخلف الدول غير القادرة على الاستثمار في وقت مبكر في التحول المناخي، كما أن الفشل في توفير مستويات التمويل المتعلق بالمناخ التي تحتاجها الدول النامية لدعم انتقالها وأمنها سيخلق فرصًا للمنافسين الاستراتيجيين لتشكيل خطوط تحالف جديدة بين القوي الكبرى وبين العالم النامي. بعبارة أخرى، فإن إدارة التحول المناخي عالميا هو أحد أسس التحالفات المستقبلية حين بات ضروريا للحفاظ على التحالفات الدولية وبنائها وإبراز تأثير القوي الكبرى عالميا.
٥- فرص متجددة: يمكن أن يفتح التحول في مجال الطاقة فرصًا جديدة للنمو الاقتصادي المستدام والتكامل الإقليمي، وإنشاء روابط جديدة والعمل كموجه أساسي للتحول السياسي.
يمكن للبنية التحتية للطاقة بين بلدان شمال أفريقيا وشركائها في أوروبا وجنوب الصحراء، على سبيل المثال، نقل الهيدروجين الأخضر أو الكهرباء المنتجة من خلال مصادر متجددة، أن تعزز التحول الاقتصادي الأخضر في النظم الفرعية الإقليمية المختلفة – مع انتشار إيجابي من حيث التنويع الاقتصادي، وفرص العمل والحوار السياسي والتكامل الإقليمي. وعلى المدى الطويل، سيكون المحرك الأساسي للتخلص من الكربون هو الخطوات العملاقة نحو الابتكار التكنولوجي في مجال إنتاج الطاقة المتجددة والقدرات التخزينية.
٦- وأخيرا فإن التغير المناخي يعيد تعريف المقصود بالأمن القومي لأنه يمثل “مضاعف للتهديدات” حين يؤدي إلى تفاقم التحديات واتساعها، فهو تهديد مركزي ووجودي للبشرية ككل وينتج عنه العديد من التهديدات الأمنية الاخرى، والأخطر أن العالم ربما قد نجح في توصيف المشكل المناخي وتطوراته المستقبلية ولكنه عاجز -حتى الآن- عن توليد استجابة عالمية ورسم سياسات وخلق أدوات تسمح بمواجهة التهديدات المركبة والمتسعة والتي يمكن أن تحدث في مناطق عدة في وقت واحد.
إن “المخيف الأكثر رعباً” هو أن أجزاء من الكوكب ستكون غير صالحة للسكن بسبب الحرارة أو ارتفاع مستوى سطح البحر في العقود القادمة، وأن العديد من المناطق المعرضة للخطر للغاية في العالم غير مجهزة للاستعداد لهذه المخاطر أو إدارتها .
يدرك الجميع التهديد البيئي لارتفاع درجات الحرارة. لكن البحث في التقدير الاستخباراتي بشأن المناخ -سابق الذكر- يكشف “ما نفكر فيه جميعًا ولكننا لم نتصرف بعد بشكل فعال”، كما يقول أحد أهم الاستراتيجيين.