تأخذك مشاهد الصيادين، والشباك الملقاة في المياه، والمغازل، والمراكب العائدة إلى الشواطئ لعالم يموج بالمكافحين المسلحين بالصبر طلبًا للرزق. خلف الصيادون في مصر حكايات عن الكفاح والعرق. «قصة شقى» يعيشونها في مواجهة مخاطر مهنتهم، لسد احتياجات الحياة رغم ضيق الرزق.
تتكرر المشاهد في أبو قير بالإسكندرية، رشيد بدمياط، السويس، بورسعيد، شكشوك بالفيوم، منية المرشد بكفر الشيخ. عشرات القرى المنتشرة على السواحل والمحافظات بالصعيد ووجه بحري، وآلاف الصيادين العاملين بحرفة الصيد بالترع والمصارف الممتدة على طول نهر النيل.
يمثل الصيادون شريحة كبير من المجتمع المصري. إذ يبلغ تعدادهم 5 ملايين صياد، حسب التصريحات الرسمية لرئيس النقابة العامة للعاملين بالزراعة والرى المهندس عيد مرسال. وقد تراجعت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لهذه الفئة من المواطنين خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير. ذلك لعدة أسباب، منها ضعف إجراءات مواجهة الصيد الجائر والمخالف. فضلاً عن التعديات على البحيرات والشواطئ والمسطحات المائية. وأيضًا إلقاء المخلفات، وزيادة معدلات التلوث، التي تتسبب في تراجع نمو الأحياء البحرية، وضعف الثروة السمكية. وبالتالي ضعف الإنتاج وتدني مستوى دخل العاملين بهذه المهنة.
الصيادون يبحثون عن «بر أمان»
مؤخرًا، طرحت الدولة مبادرة «بر أمان» لمساعدة المتعسرين من العاملين بمهنة الصيد. وهي مبادرة تهدف إلى تعزيز قدراتهم الحرفية وتدريبهم. وتعني بصرف بِدَّل وقاية لهم ضد مخاطر العمل. إلى جانب تقديم بعض الآلات المساعدة بالعمل، ومنها الشِبَاك والقوارب الصغيرة.
ويتم تنفيذ مبادرة «بر أمان» على 4 مراحل. حيث تضم المرحلة الأولى بحيرة الريان بالفيوم. وتشمل أيضًا بحيرات أدكو ومريوط والمنزلة. ويستفيد منها ما يزيد علي 10704 صيادين يعملون بتلك البحيرات. أما المرحلة الثانية فتشمل بحيرات البرلس والمرة والتمساح. ويستفيد من هذه المرحلة 7416 صيادًا. في حين تركز المرحلة الثالثة على الصيادين بمناطق دسوق والقناطر وبنها ومنوف وكفر الزيات والزقازيق والمنصورة والقاهرة والجيزة وأبشواي وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج والأقصر وأسوان. ويستفيد من هذه المرحلة 18125 صيادًا. فيما تشمل المرحلة الرابعة بحيرتي ناصر والبردويل بجانب مناطق العريش وبئر العبد ورمانة ويستفيد منها 7707 صيادين.
لكن هذه الفئة الكبيرة ما تزال بحاجة للكثير من إجراءات تحسين أوضاعها الاقتصادية. خاصة فيما يتعلق بإجراءات حماية المسطحات المائية والحفاظ عليها، وتنمية الثروة السمكية. ومنها ما هو خاص بأوضاع الصيادين الاجتماعية، والتي تحتاج لنظام حماية اجتماعية ضد مخاطر المهنة، وحالات العجز وعدم القدرة على العمل، وبلوغ سن المعاش.
وقد دفعت هذه الأوضاع المتعسرة طائفة الصيادين إلى التعاون بين وزارة التضامن الاجتماعي وهيئة تنمية الثروة السمكية. وهو تعاون مدعوم بتمويل من صندوق «تحيا مصر» لحصر وتسجيل عمال الصيد في القطاع الرسمي وغير الرسمي. وذلك بغرض إنشاء قاعدة بيانات تفصيلية لجميع أصحاب المراكب الآلية والشراعية والقوارب الصغيرة والعاملين عليها. ما يمكن من مد صغار الصيادين بجميع سُبل الحماية لدمجهم في كيانات كبيرة، وضمهم للقطاع الرسمي.
ويبلغ الصيادون المسجلون بقواعد بيانات الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي نحو 65 ألفًا و600 عامل، بنسبة تغطية تأمينية 81.4% فقط. في حين يصل عدد الجمعيات التعاونية لصائدي الأسماك والمسجلة لدى الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية إلى 101 جمعية. ومنها 88 جمعية للمصايد الطبيعية، و13 جمعية في مجال الاستزراع السمكي.
الصيادون ومافيا الصيد الجائر بالبرلس
لا يبالغ محمد عبد السلام ، صياد بقرية منية المرشد بمحافظة كفرالشيخ، حينما يقول: إن أوضاع الصيادين «تحت الصفر». إذ تلجأ الغالبية العظمي منهم إلى إخراج أطفالها من المدارس في سن مبكرة، لعدم القدرة على الإنفاق في التعليم. هؤلاء الصغار يتم الدفع بهم إلى سوق العمل بمهن أخرى، بحثًا عن الرزق الذى «عز» في مهنة الأباء الصيادين.
ويرى «محمد» أن «برأمان» وإن كانت بادرة جيدة من الدولة. لكنها لم تتطرق إلى جوهر المشكلة، حيث تعاني الغالبية العظمي من صغار الصيادين في مواجهة «مافيا الصيد الجائر والمخالف» ببحيرة البرلس. «مافيا الصيد هذه ترهبنا بالأسلحة الآلية إذا ما اقتربنا من مناطق نفوذها».
تقدم «محمد» وغيره كثيرون بعشرات الشكاوى لهيئة الثروة السمكية وشرطة المسطحات المائية. إلا أن ذلك لم يجد في مواجهة مافيا الصيد الجائر من الهاربين من الأحكام القضائية، على حد قوله. فهم مهرة في الهروب من الحملات الأمنية وسط «هيش» البحيرة. وقد نجحوا في تكوين عصابات تجرف الزريعة التي تلقيها وزارة الزراعة في المياه، والتي يبيعونها بعد تجفيفها أعلافًا حيوانية.
«نطالب بتعديل قانون التعاونيات وإعادة تفعيلها»؛ يتحدث «محمد» عن القانون الذي كان مفعلاً في فترة الستينيات والسبعينيات. وهو القانون الذي كان يوفر المعدات اللازمة للصيد بأسعار مناسبة وينظم عمليات صيد الأسماك ونوعيتها وأحجامها معينة. فضلاً عن تقنين عمليات شراء الإنتاء من الصيادين، بما كان يوفر لهم هوامش ربح جيدة، تكفيهم لإعالة أسرهم.
«هنجيب منين».. المياه ضنت عن العطاء
تعاني عشرات الأسر من فقد العائل أثناء العمل. وفي حال عدم العثور على جثته ترفض الدولة استخراج شهادة وفاة. ما يعطل أسرة كاملة عن ممارسة حياتها بشكل رسمي وطبيعي أو استخراج إعلان وراثة أو الحصول على معاش تكافل وكرامة. ذلك بسبب عدم إثبات حالة الوفاة والبقاء تحت بند مفقود.
شيخ الطائفة بمحافظة كفرالشيخ، عادل مسلوع، يصف الصيد بمهنة «اليد المفتوحة»، التي جارت على أبنائها. وهو يتحدث عن هجرة آلاف الصيادين إلى مهن أخرى، وهروب البعض تسللاً في قوارب إلى دول أوروبية كاليونان، هربًا من القيود التي فرضت على «مهنة تجلب الفقر بعد أن ضنت المياه عن العطاء»، على حد قوله.
وفق مسلوع -صاحب الـ 61 عامًا- فإن دخل الصياد في الرحلة الواحدة خلال أسبوع لا يتجاوز 100 جنيه في أحسن الأحوال. وذلك بمتوسط من 60 إلى 70 جنيهًا. لذلك لا يخرج ورفاقه للصيد إلا مرة واحدة في الشهر. «فقط السيارة التي تنقلنا من محل سكننا بمركز منية المرشد إلى منطقة اسمها ألهوك للصيد تكلفنا 100 جنيه في الذهاب ومثلها في الرجوع، إضافة لمصاريف الأكل والشرب.. هنجيب منين».
مسلوع: المسطحات مش قادرة على حمايتنا
ويرجع مسلوع ضيق الرزق ببحيرة المنزلة إلى كثرة التعديات بالصيد الجائر والمخالف بالكهرباء، واستخدام اللنشات الكبيرة في بحيرة مفترض لها أنها محمية طبيعية، ممنوع استخدام اللنشات في الصيد بها بل المراكب الشراعية والتجديف للصيادين المرخصين.
وكما فعل محمد عبدالسلام ورفاقه فعل شيخ طائفة الصيادين بكفرالشيخ عادل مسلوع. وتقدم بشكوى رسمية من مافيا الذريعة. لكن رئيس المسطحات المائية بكفرالشيخ محمد غالي، قال لهم أمام المحافظ: «إحنا ما بننزلش البحيرة علشان البنزين غالي وشرطة المسطحات لا تعمل ليلاً»، على حد قول مسلوع.
مسلوع ومثله كثيرون منهم السيد محمد حسونة، البالغ 65 عامًا، يطالبون بضمهم لمنظومة التأمين الاجتماعي، لإعانتهم على أزمات مهنتهم. كما يشتكون رفض تجديد رخصهم السنوية لتعثرهم عن سداد مبالغ التأمين. «هيئة التأمينات رفعت مبلغ التأمين من 40 جنيهًا في الشهر إلى 100 جنيه. و90% من الصيادين تعثروا عن الدفع والمسطحات المائية رفضت تجديد الرخص السنوية قبل دفع السنوات المتراكمة. وهناك صيادين متراكم عليهم بالستة سنوات وتم رفض تقسيط المبلغ»؛ يقول «السيد»
نقابة العاملين بالزراعة: نسعى لضم 5 ملايين صياد لمظلة التأمين
من جانبه، كشف المهندس عيد مرسال رئيس النقابة العامة للعاملين بالزراعة والري، في تصريحات لـ «مصر 360»، أن النقابة تعمل حاليًا لوضع برنامج لضم 5 ملايين صياد تحت مظلة التأمين الاجتماعي. وأشار إلى خطة لربط هؤلاء الصيادين بالنقابة. وذلك من خلال إعادة تنظيم صفوفهم بشكل رسمي عن طريق القائد العمالي المعروف لديهم بشيخ الطائفة في كل منطقة. وأيضًا بالتواصل مع وزارة التضامن الاجتماعي. إلى جانب دفع اشتراكات المتعسرين في دفع السنوات المتأخرة من التأمينات.
لفت مرسال كذلك إلى تأسيس صندوق لدعم الكوارث بالنقابة لتحسين أوضاع الصيادين التي تدهورت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. وقد أوضح أن تمويل هذا الصندوق يعتمد على عائد السفن المخالفة التي تحرر هيئة المسطحات المائية محاضر لها. مضيفًا أن كل أموال التعويضات في هذه القضايا والبالغة ملايين الجنيهات لصالح الصندوق، ستغطي المتعسرين وتؤمن تعويضات الكوارث والغرق وحالات العجز والمرض لصالح صغار الصيادين.
وفيما يتعلق بسن معاش الصياد، قال مرسال إن النقابة تقدمت بمذكرة إلى مجلس النواب لمناقشة خفض سن المعاش للصيادين إلى 55 عامًا أو بحد أقصى 60 عامًا. ذلك لمراعاة مخاطر المهنة التي لا تمكنهم من مواصلة العمل في هذه السن المرتفعة.
رحلة الموت.. دروب أجبر عليها الصيادون
حالة العوز والجور التي يعيشها الصيادون في القرى الممتدة على البحر المتوسط، في دمياط، وكفرالشيخ، والإسكندرية، والدقهلية، دفعت مئات الشباب للهروب إلى سواحل إيطاليا واليونان بقواربهم بحثًا عن صيد يصعب في مناطق عملهم.
وقد فقدت قرية «برج مغيزل» وحدها 53 شابًا ورجلاً تغيبوا منذ عام 2004. بعد أرادوا الخروج من سجن الفقر فضاعوا فى البحر، تاركين خلفهم أسرًا تعاني حالات العوز.
يقول عبد الفتاح مصطفى الشهاوي، من قرية الملاوح التابعة لمركز مطوبس، إن شقيقه (محمد – 30 سنة) كان أحد الضحايا الـ 53 الذين حاولوا العبور إلى اليونان للعمل بالصيد عن طريق قرية مسطروه المجاورة للبحر الأبيض المتوسط.
«محمد» منذ سفره لا تعلم أسرته أن كان حيًا أم ميتًا. وقد ترك زوجته وأربعة من أبنائه يعيشون مرارات انتظار مصير مجهول لعائلهم. بينما ترفض الدولة الاعتراف بموته رسميًا وتعتبره مفقودًا لحين عودته.
ومثل أسرة «محمد» تنتظر تهاني ضيف الله -والدة باسم محروس عريف- عودة صعبة المنال لابنها الذي فقدته في إحدى رحلات الصيد. «أنتظر ولدي يوميًا بالشارع من الصباح حتى المساء منذ 3 أعوام لأنه عائلي الوحيد، وكان ينفق علينا.
تحدث «مرسال» لـ«مصر 360»، عن أزمة الصيادين المهاجرين إلى اليونان بطرق غير مشروعة. حيث أكد أن النقابة العامة للعاملين بالزراعة والري أبرمت اتفاقية مع اتحاد صائدي اليونان وأصحاب المراكب، لتمرير العمال المصريين إليها والعمل في الصيد بطريقة رسمية بعد تدريبهم وتأهيلهم للحد من هذه الظاهرة.
المراحل الأربعة لـ «بر آمان»
وفي مايو الماضي، أطلقت نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي مبادرة «بر أمان». وصرحت حينها بأن العمالة غير المنتجة صعدت إلى رأس أولويات واهتمامات الدولة.
كما تحدثت الوزيرة عن أهم المشكلات التي تواجه العاملين بهذا القطاع وطرق علاجها. فألمحت إلى توقف نشاط الصيد جزئيًا في بعض الأشهر خلال العام. إلى جانب ارتفاع تكاليف التأمين الاجتماعي بالنسبة لصغار الصيادين. وكذلك ارتفاع تكلفة مستلزمات الصيد. فضلاً عن تلوث البحيرات الداخلية نتيجة صرف المصبات الزراعية في البحيرات. وأيضًا المعاناة من الصيد الجائر من خلال الصعق بالكهرباء، ما يؤدي إلي موت الذريعة. وبالتالي خفض المحصول السمكي في المصايد الطبيعية. وأخيرًا مخاطر غرق المراكب الصغيرة لصغر حجم المركب بالنسبة لطول عمق البحيرة نتيجة عمليات التوسيع وتعميق البحيرة.
وقد أكدت الوزيرة أن وزارتها اتخذت عددًا من الإجراءات لتحسين الحماية الاجتماعية لعمال الصيد. وذلك بما يشمل توفير التأمين على أصحاب المراكب الآلية، وفقًا لأحكام قانون التأمينات الاجتماعية. وذلك تحت بند فئة أصحاب أعمال. حيث يسدد صاحب المركب 21% من دخل الاشتراك. ويغطي هذا التأمين مخاطر الشيخوخة والعجز والوفاة.
وأشارت الوزيرة إلى التأمين على صغار عمال الصيد كعمالة غير منتظمة. حيث يسدد الصياد نحو 9% من الحد الأدنى في مقابل تحمل الخزانة حصة صاحب العمل 12%. مع تضمين الفئات الدنيا من الصيادين ببرنامج تكافل وكرامة، والتأمين الصحي على الفئات الأفقر من الصيادين على نفقة الدولة. إلى جانب ميكنة استمارة تسجيل عمال الصيد، والانتهاء من ربط مكاتب المصايد شبكيًا بقاعدة بيانات وزارة التضامن الاجتماعي. وتوفير أجهزة حاسب آلي وكابلات الشبكة والكهرباء لتجهيز 44 مكتب مصايد.