ظل الدعم على السلع الغذائية مدعاة للجدل بين عموم الفقراء والأنظمة السياسية في مصر على مدار عقود. فمن تقديم الدعم على أكثر من 18 سلعة خلال حقبة السبعينيات، إلى 3 سلع فقط في مطلع التسعينيات، يبقى الدعم الغذائي حائط الصد الأخير لحماية محدودي الدخل من براثن العوز.
وعلى الرغم من التغيرات التي طرأت على النظم الاقتصادية المصرية، صمد الزيت والخبز والسكر كسلع أساسية في مواجهة منظومة السوق المفتوح التي تعيش مصر تحت مظلته منذ سنوات. لكن في الفترة الأخيرة كان لسياسات الحكومة المصرية قرار مغاير مس بشكل مباشر أسعار الزيت بشكل متكرر. فضلاً عن الأحاديث المتكررة بشأن رغيف العيش.
خلال الإعلان الأخير للحكومة، ظل الخبز على حاله في تأجيل للزيادة المتوقعة في سعره. بينما تحركت الأسعار فيما يخص الزيت بنسبة بلغت 4 جنيهات مرة واحدة. ما اعتبره البعض استمرارًا للسياسات الحكومية المتسارعة نحو إنهاء الدعم على السلع الغذائية، بمباركة من صندوق النقد الدولي.
هذه الزيادة لم تكن الأولى من نوعها، فبعد زيادة اللتر 4 جنيهات مع مطلع يونيو الماضي، أعلنت وزارة التموين عن زيادة مثيلة. وهو أمر أفقد كثير من الأسر ثقتها في استمرارية الدعم التمويني. بل في قدرتها على الحياة الكريمة، في ظل موجة التضخم التي طالت مختلف السلع الغذائية.
«كنت بتسند عليه كل شهر، دلوقتي هصوم أنا وولادي لأننا فعلاً مش هنلاقي ناكل». بهذه الصدمة بدأت السيدة الأربعينية «أم محمود» شكواها من تكرار ارتفاع أسعار السلع. خاصة المقررات التموينية التي تعتمد عليها بشكل أساسي.
«أم محمود» تعول ثلاثة من الأبناء، تعمل على تعليمهم في مراحل مختلفة منها الجامعي والثانوي. لذا فإن حصتها التموينية سند تعتمد عليه لتتمكن من مجابهة الحياة مع دخل لا يتجاوز الـ 1500 جنيه قيمة معاش تتقاضاه عن والدها. «بدفع لشقة المعيشة 800 جنيه ولا يتبقى لنا للطعام والإنفاق على الدراسة سوى 700 جنيه.. طاسة البطاطس بتسد جوعنا برضه».
الزيت مقابل الخبز.. «تحايل»
يعتبر الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني قرار رفع سعر الزيت وتأجيل الخبز بمثابة «تحايل». ويوضح ذلك فيقول: الارتفاع أمر يؤثر على «ساندوتش الطعمية» البسيط الذي يسد رمق الفقراء؛ هذه الوجبة الأساسية لكثيرين. ويرى أن أفضل توصيف لما يحدث حاليًا هو «تآكل دخول محدودي الدخل»؛ النتيجة الطبيعية لتضخم الأسعار، ورفع منظومة الدعم.
«راح زمن الخير»، كما تصف الأم الأربعينية «أم محمود» مآلات الحال الآن. والخمسون جنيهًا التي كانت تملأ حقيبة التموين بمختلف السلع لم تعد لها قيمة في ظل المنظومة الجديدة.والـ 200 جنيه أو الحصص المخصصة «ليست نعمة كما كنا نعتقد». هذه القيمة حاليًا لن توفر لـ«أم محمود» احتياجاتها من الزيت وحده. فما بالك بغيره من السلع، بعد أن وصلت قيمة زجاجة الزيت إلى 25 جنيهًا. لم تعد تسد حصة التموين سوى احتياجات أسبوع واحد فقط.
تطبيق النظام النقدي بديلاً عن العيني كان سابقًا لقرار تعويم الجنيه المصري، وموجات الغلاء والتضخم التي صاحبت هذا القرار.
الزيت 5 أضعاف.. والدعم إلى الزوال
يبدو أننا على طريق التخلص نهائيًا من منظومة الدعم، استجابة لتعليمات صندوق النقد، الذي لطالما طلب إعادة هيكلة الدعم، لتخفيض عجز الميزانية، وفق ما يشير الباحث الميرغني.
في الخلفية، يستعد بدال التموين ماجد نادي وجميع زملائه لما وصفه بـ«المعركة» المنتظرة فور تطبيق الزيادة الجديدة. يضطر «نادي» حاليًا لتسجيل لقاءات وزير التموين عند إعلانه عن زيادة جديدة بأسعار السلع. «أُسمع القرار للمستهلكين على لسان الوزير أثناء الصرف لأتجنب نقاشات الزبائن.. أنا لست أكثر من وسيط ولا علاقة لي برفع السعر».
في كثير من الأحيان، يكون على «نادي» وزملائه طباعة القرارات الرسمية المرسلة للبدالين بشأن تغيير سعر السلعة ويلصقونها في أماكن متفرقة مصحوبة بتسعيرة كل سلعة.
بالنسبة لـ«نادي» كان سعر زجاجة الزيت في 2015، مضافًا إليها هامش ربح البدال التمويني يقدر بنحو 5 جنيهات. بينما اليوم وبعد مرور 6 سنوات فقط، أصبح السعر 25 جنيهًا للتر. وفي ذلك تبخر تام للدعم ينتظره المواطن بحلول 2023. «هذا السعر لا يتناسب مع فرق الجودة بين زيت التموين والزيت الحر»؛ يقول «نادي».
على المستوى الرسمي، كشف وزير التموين والتجارة الداخلية، الدكتور علي المصيلحي، أسباب ارتفاع أسعار الزيت وفي مقدمتها ارتفاع السعر العالمي. وقد علل ذلك بأن جائحة كورونا فرضت على العالم فترات متتالية من الإغلاق. وهو أمر أدى بالتبعية لانخفاض معدل العمل، وكذلك الاستهلاك. ومع بدء التعافي في فبراير من العام الجاري زاد حجم الطلب عن المعروض، فارتفعت أسعار المواد البترولية. كما ارتفعت بعد ذلك أغلب السلع الغذائية، وفق المعلن دوليًا، على حد قول الوزير.
الزيت واحد من السلع التي ارتفعت بمعدل فاق التوقعات منذ فبراير وحتى الربع الثالث من العام الجاري. فقد سجل نحو 1430 دولارًا للطن، بعد أن كان مستقرًا عند 916 جنيها للطن، بحسب وزير التموين. وتستورد مصر نحو 70 ألف طن في المتوسط شهريًا، ما يعني أن سعر اللتر الحالي يقترب من السعر العادي غير المدعوم.
الدعم كضرورة
تقدر قيمة الدعم التمويني في موازنة العام المالي 2021-2022 بنحو 87 مليار جنيه، منها 36 مليار للسلع، و51 مليار لرغيف الخبز. وقد تحملت الدولة فروق الأسعار من فبراير حتى أكتوبر، بنحو 1.7 مليار جنيه، بحسب ما كشفه وزير التموين بطرق غير مباشرة ممثلة في تقييم المخزون ومتوسطة العام.
في ورقته البحثية «سياسات الدعم قبل وبعد ثورة 25 يناير»، يقول الباحث الاقتصادي وائل جمال إن استمرار الدعم بعيوبه ظل ضروريًا بسبب دوره المحوري في حماية الفقراء.
ويقول تقرير البنك الدولي إن دعم الغذاء مكن 9 %من المصريين من الصمود فوق خط الفقر في عامي 2008/2009. رغم أنه يشكل نسبة ضئيلة من استهلاك الفرد. فبدون دعم الغذاء والخبز تحديدًا كانت نسبة الفقر سترتفع بزيادة تبلغ 10%، بحسب التقرير
وتقول ورقة بحثية لـــ د. أمنية حلمي، صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية في نوفمبر 2006 أنه على الرغم من اتسام الدعم «بانخفاض الكفاءة الاقتصادية». إلا أنه «يحقق فوائد عديدة، منها تخفيض الفقر، وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية للمواطنين». وهي كلها لحمايتهم من سوء التغذية، ومن ثم تحقيق الاستقرار السياسي.
وساعد دعم الخبز البلدي على إبقاء نحو 730 ألف نسمة فوق خط الفقر. كما وفر دعم السلع الغذائية الأساسية حوالي 40 %من احتياجات محدودي الدخل من السعرات الحرارية، كما توضح الورقة.
تجميد قرار رفع الخبز.. لا توقيفه
في قصة الخبز، توقع وزير التموين والتجارة الداخلية الدكتور علي المصيلحي أن تستغرق عملية الوقوف على قرار حاسم بشأن رغيف الخبز فترة تتراوح من 3 لـ 5 سنوات. بعد إنجاز الدراسات التي تستهدف رفع كفاءة الدعم. ومن بينها التوجه للدعم النقدي المشروط أو على مراحل.
وأقرب الاحتمالات في تقديره أن ذلك لن يحدث في الوقت الراهن. وأن النتيجة ستكون الدعم النقدي المشروط؛ «أي أن المواطن سيحصل على النقود بشرط شراء الخبز بها».
وبالتواصل مع المنسق العالمي لوزارة التموين والتجارة الداخلية، هانى العراقي، للتعقيب على احتمالية الربط بين وقف رفع سعر رغيف الخبز وقرار زيادة أسعار زيت التموين، قال: «مفيش الكلام ده».
رفع الدعم «تارجت»
أما الباحث وائل جمال، فيرى أن الصورة أوسع من ذلك، وأن العمل على تخفيض الدعم سواء عبر الزيت أو الخبز هو بمثابة «تارجت»، سيتم تحقيقه أيًا كانت السلعة التي سيقع عليها الدور، وفقًا للمخطط الحكومي السياسي.
هذا «التارجت» في رأي جمال هو جزء من السياسات النيوليبرالية «السوق المفتوحة»، التي تأتي تحت شعار تخفيض عجز الميزانية، وطالما جاءت على حساب الفقراء.
يؤكد جمال أن تلك السياسات لا ترجع إلى تفكير تقني اقتصادي محض، وإنما هي اختيار سياسي اجتماعي، مدللاً على ذلك بأن أكبر نسبة تقليص للدعم جرى منذ اتباع تلك الإجراءات كان من نصيب السلع الغذائية، في مقابل تعزيز الدعم الخاص برجال الأعمال، كحالة الدعم على الصادرات، أو حتى التفاوض على فرض الضرائب على أرباح البورصة.
ووفق جمال، فإن ما يجرى على الأرض بخصوص الخبز وعدم تحريك أسعاره، أمر مؤقت، والهدف النهائي هو استبدال المنظومة كاملة ببرامج نقدية مثل حياة كريمة وغيرها، بدعوى استهداف الفقراء. وهو الحل الذي يأتي على هوى صندوق البنك، ويسهل قروضه المشروطة.
لكن للحقيقة، فإن هذا الاستهداف ليس بالضرورة حلاً ناجعًا في مواجهة الفقر، ففضلاً عن ميزانيته الأقل، فإن معدلات التضخم تتسبب في تآكله، ولا توجد ضمانة بوصول الغذاء إلى الأسر، كما أنه عملية بيروقراطية ضخمة ذات تكلفة إضافية عالية، يتحملها بالنهاية جمهور الفقراء، وفقًا لجمال.
وفي ظل معدلات للتضخم وصلت إلى 6%، ونسب فقر بنسبة 28.5% يقف دعم الفرد تموينيًا عند مبلغ خمسين جنيه، كما أن الوزارة لا تنتوي إضافة أي مواليد جديدة بحسب التصريحات الرسمية، ليصبح إعادة النظر في منظومة الدعم عامة والغذائي منه ضرورة تمكن ملايين المصريين من مواجهة العوز.
كتبت: أسماء زيدان – أسماء فتحي