“معلش مش هتكون معانا” جملة ترددت كثيرًا على آذان الشاب الثلاثيني إياد المصري. خلال رحلة البحث عن وظيفة بدأها بعد الخروج من الحبس منذ 4 سنوات. إياد ليس الوحيد في مجتمعات ترفض إعطاء السجين السابق “فرصة للحياة”، فتتحول حياة الشباب إلى كابوس. ويدفعون إزاءها ضريبتين: الأولى خلف أسوار الحبس، والثانية في سجن المجتمع الواسع. حين تلاحقه “جريمة” أنه افترش ذات يوم أرضية السجن، فيتبدل الدعم المفترض إلى أذىً، ليس فقط نفسيًا ولكن ماديًا.

فرصة الحياة الغائبة

أمام مقطع غنائي أذيع قبل أيام بعنوان “فرصة للحياة” للترويج لمركز التأهيل والإصلاح بوادي النطرون، حدّق الشاب إياد في المشاهد. ثم تذكر: كم مرة سُكّرت الأبواب في وجهه؟ عندما أراد أن يستعيد نفسه بعد الزج به في قضية سياسية. ثم تساءل: أيّ حياة التي تمنحنا فرصتها.

شريط من الذكريات تنهمر في ذهن إياد، سردٌ مؤذي للسنوات التي أعقبت خروجه من السجن، يتذكر حين رفضته إحدى الشركات. يقول إياد إن الشركات الخاصة لن تقوم بتعيين شخص ملقب بـ”سجين سابق”. لكنه قرر ذات مرة أن يرفض الاستسلام ومع المحاولات نجح في الحصول على فرصة عمل، وباشر مهمته، وبعد أيام يسلّم “الفيش والتشبيه” للإدارة. هنا يتحول المشهد، وليتم إبلاغه بالاستغناء عن خدماته.

لا يقف الضرر عند السجين نفسه، لكنه بات عبئًا على عائلته أيضًا، فصحيفته الجنائية تلاحق الجميع. يواصل إياد في حزن: “بيتم رفض أفراد عائلتي الراغبين في الالتحاق بالكليات العسكرية، وسبب ذلك تلقيت اللوم من الأسرة”.

الإفراج عن سجناء
الإفراج عن سجناء

إعادة الدمج.. إطار حكومي شكلي

لم تهتم التشريعات المصرية اهتماما بالسجين بعد خروجه من مكان الحبس، لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع. باستثناء تحركات خجولة، أهمها صدور قرار عن رئيس مجلس الوزراء رقم 2904 لسنة 2010 بإنشاء “مجلس المشاركة المجتمعية لدعم المسجونين والمفرج عنهم وأسرهم”. واجتمع المجلس عام 2018، واتخذ عددًا من القرارات، تضمنت تدعيم وزارة الصحة لقطاع السجون بأطباء في مختلف التخصصات. والتنسيق مع الاتحاد العام للجمعيات الأهلية لتوفير أجهزة تعويضية لنزلاء السجون، وإنشاء دور رعاية للمفرج عنهم الذين انقطعت صلتهم بذويهم.

كان من المفترض أن يصدر المجلس توصيات بالأغلبية المطلقة لتفعيل مسارات التعاون والتنسيق مع الأجهزة الحكومية المختلفة والسجون في مجالات التدريب والتوعية والثقافة والتأهيل المهني والإنتاج للمسجونين والمفرج عنهم وأسرهم. وفق ورقة بحثية للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن مهمة المجلس المفترضة تطوير مجالات التعاون بما يتناسب والسياسة العقابية الحديثة. واقتراح سبل التعاون مع الهيئات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وتنسيق جهودها وأنشطتها لصالح المسجونين والمفرج عنهم وأسرهم. وكذلك إعداد الدراسات والبحوث العلمية والتطبيقية المتعلقة بالسجناء والمفرج عنهم بالتنسيق مع المؤسسات العلمية واستثمار جهود المنظمات الدولية بهذا المجال.

المجلس معني أيضًا بدعم قدرات وتنمية مهارات موظفي السجون في مهمة تأهيل النزلاء، والارتقاء بسياسات التعليم والخدمات الاجتماعية والنفسية بالسجون. على أن يكون ذلك بالتنسيق مع الجهات المعنية تأكيدًا للدور التكاملي لأجهزة الدولة في هذا المجال. ودعم السجون بالإمكانيات المادية والتقنية بما يكفل استمرار تطويرها وتوفير مصادر التمويل اللازمة لذلك. واقتراح البرامج التي تكفل اندماج المسجون تدريجيًّا في المجتمع من خلال برامج تمهيدية للإفراج يبدأ تنظيميًّا داخل السجن أو عقب الإفراج عنه.

كما تتضمن مشاركة المفرج عنهم الذين سبق استفادتهم من برامج التأهيل بالسجون في تأهيل السجناء اجتماعيًّا وثقافيّا ومهنيّا. وتغيير نظرة المجتمع إلى المفرج عنهم من خلال إرساء وترسيخ ثقافة مجتمعية تهدف إلى الدعوة لرعاية أسر نزلاء السجون أثناء تنفيذ العقوبة. والعمل على توفير فرص عمل للمفرج عنهم.

القطاع الخاص: “نخشى منهم”

ريم فوزي مديرة الموارد البشرية بإحدى الشركات الخاصة تُشير إلى أنه في حال تقدَّم شاب للعمل حاملاً فيش وتشبيه يتضمن “سوابق” فلن تتم الموافقة عليه، حتى إن كان حاصلاً على شهادة خبرة. تقول ريم: “أخشي على الشركة منه، وأعلم أن ذلك ظلم وإغلاق على حياة شخص، ولكن لن يقوم أحد بتلك المخاطرة”.

وتنص القاعدة 81 من قواعد نيلسون مانديلا على ضرورة وجود إدارات حكومية أو خاصة تُساعد المفرج عنهم للاندماج في المجتمع. وأن تسعى هذه الإدارات والهيئات إلى جعلهم يحصلون على وثائق وأوراق الهوية الضرورية التي يحتاجون إليها.

كما يجب على تلك الهيئات أن تسعى إلى مساعدة المفرج عنهم للحصول على المسكن والعمل المناسبين. وتوفير سبل العيش لهم بعد إطلاق سراحهم مباشرة. ويجب أن يكون متاحًا للمسؤولين عن عملية اندماج المفرج عنهم إمكانية دخول السجن والالتقاء بالسجناء. ويجب أن يستشاروا بشأن مستقبل السجين منذ بداية تنفيذ عقوبته. ويستحسن أن تكون أنشطة الهيئات المذكورة مركزة أو منسقة بقدر الإمكان حتى ينتفع بجهودها على أفضل وجه.

زينب تفقد الأمل والعمل

لم تجد زينب فتحي فرصة لاستعادة حياتها التي انقلبت رأسًا على عقب. عندما خرجت من السجن ووجدت عملها السابق قد رفض عودتها، حيث كانت تعمل إدارية بشركة خاصة. وهو الأمر الذي كانت تظن أنه سيكون مصدر الاستشفاء لها من تبعات السجن، ولكنها تفاجئت بغلق الباب في وجهها.

خرجت الفتاة العشرينية من السجن لتكتشف أن خطيبها لا ينوى الاستمرار معها، يقول لها: “مش هينفع نكمل أنا نفسي أدخل ابني كلية عسكرية وأنتِ هاتكوني عائقًا”. جاءت تلك الكلمات المستقبلية في نظر زينب تفسيرًا واضحًا لعدم تقبل المجتمع لها. فقررت البحث عن بلد آخر لتبدأ من جديد.

ما يستحق الدعم

بلغ عدد السجون الجديدة التي صدرت قرارات بإنشائها بعد ثورة يناير، 35 سجنًا لتضاف لـ43  سجنًا رئيسيًا كانت تعمل قبل ثورة يناير. ليصبح عدد السجون الأساسية نحو 78 سجنًا. وفقا لرصد الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.

تقدر الشبكة العربية عدد السجناء والمحبوسين احتياطيا والمحتجزين في مصر حتى بداية مارس 2021 بنحو 120 ألف سجين. بينهم نحو 65 ألف سجين ومحبوس سياسي، وحوالي 54 سجين ومحبوس جنائي، ونحو ألف محتجز لم نتوصل لمعرفة أسباب احتجازهم. كما بلغ عدد السجناء المحكوم عليهم إجمالا نحو 82 ألف سجين، وعدد المحبوسين احتياطيا 37 ألف محبوس.

محام: الأزمة الرئيسية لا تكمن في بناء سجون جديدة، بل في سببين. وهما عدم تنفيذ اللوائح والقوانين الخاصة بالمساجين، وعدم دعم السجين بعد خروجه، خاصة في ظل تكبد أسرته مصاريف باهظة

يقول المحامي ياسر سعد إن الأزمة الرئيسية لا تكمن في بناء سجون جديدة، بل في سببين. وهما عدم تنفيذ اللوائح والقوانين الخاصة بالمساجين، وعدم دعم السجين بعد خروجه، خاصة في ظل تكبد أسرته مصاريف باهظة. ولفت إلى أن السجين يخرج من محسبه على أزمات اجتماعية واقتصادية، و”هذا ما يستحق الدعم”.

وأشار سعد إلى أنه من المهم ألا يتعامل مع السجين بشكل مهين أو تلفيق التهم للمدافعين عن حقوق الإنسان. وتابع: “لدينا ترسانة تشريعات تنتهك حقوق المواطنين، وعدم تطبيق اللوائح والقوانين الخاصة بالتعامل مع المساجين وحقوقهم. وذلك أهم من بناء السجون بشكل لائق”.

التعليم والتطوير في الإعلام

“هنعلموا إزاي يفيد نفسه وإزاي يفيد الناس”. بصوت ناعم يلقي الفنان مدحت صالح والفنانة مي فاروق كلمات الأغنية “فرصة للحياة”. والتي تشير لمستقبل كل سجين سيتم احتجازه داخل مركز التأهيل والإصلاح الجنائي بوادي النطرون، بتعليمه حرفًا المختلفة؛ لكي يفيد نفسه والمجتمع.

وبالانتقال إلى الواقع، يقول المحامي محمد عصمت، إن أغلب المحتجزين لم يتم تعليمهم أية حرفه داخل السجن. فالأمر يتوقف على مدى قدرة أهله في جلب زيارات له، فمن لا يستطيع يقوم بالعمل داخل السجن للحصول على مبالغ رمزية تقدره على العيش داخل السجن. وأشار عصمت إلى أن أغلب المحتجزين الجنائيين لم يتم تأهيلهم أو تغيير سلوكهم، ومن يخرج يعود إلى نفس طبيعة الإجرام. باعتبار أن السجن كان “فاصل ونواصل”، وفق قوله.

“اكتفينا صور”

“اكتفينا من الصور نريد التطبيق على أرض الواقع” يقول جورج إسحاق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان. ويضيف: “نريد أن نرى السجين يتعامل معاملة جيدة، يحصل على كل حقوقه داخل السجن من تريض وحقه في العلاج. ليس لدينا استعداد هذه المرة لمشاهدة الصور”.

ويضيف: “عانينا في كل القصص التي تتعلق بالسجون والتي يتم فيها التعامل بصورة سيئة. ولذلك نطالب بضرورة تدريب الضباط على الطريقة الجديدة في التعامل، بأن يكون بآدمية مع كل سجين. بجانب توفير ودعم كل من فقد عمله ليس فقط بتأهيله بحرفة، ولكن بتوفير مصدر دخل”.