عرفت مصر موسيقى الجاز منذ زمن بعيد، واشتهرت في الخمسينات من القرن العشرين، وتحمّس لها المصريون بعد زيارة العازف الأسطوري لويس أرمسترونج إلى القاهرة. صار لها أساطيرها هنا، مثل صلاح رجب، ويحيى خليل، وفتحي سلامة. حتى أسس الموسيقي عمرو صلاح مهرجان القاهرة للجاز، والذي يشهد مركز التحرير الثقافي هذه الأيام دورته الثالثة عشرة.

ضمن ضيوف المهرجان فرقة Ensemble ICX، للجاز والتي جاءت بدعوة من السفارة الأمريكية بالقاهرة، وقدمت عرضًا حاز تفاعل وإعجاب شديد من جمهور المهرجان. لم يصدق أعضاء الفريق أنفسهم كل هذا الاحتفاء، وهذا ما قالوه في حديثهم لـ “مصر 360”. الذي ننشره في السطور المُقبلة.

 

حفل Ensemble ICX في مهرجان القاهرة للجاز

موسيقى الجاز

في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت موسيقى الجاز. ضفّر أنغامها الأفارقة القادمون إلى العام الجديد مُكبّلين في قيعان السفن، والذين بقوا كعبيد لدى الرجل الأبيض حتى الحرب الأهلية الأمريكية. يعود أصل التسمية إلى “السعادة الغامرة”، وهو مصطلح عاميّ أمريكي يعود إلى عام 1860.

خرج الجاز الذي يراه البعض الموسيقى الكلاسيكية الأمريكية، من عباءة موسيقى البلوز والراجتايم، ثم انتشر في بقية أرجاء العالم. وعُرِف بكونه قالبًا رئيسيًا من قوالب التعبير الموسيقي. ثم برز عبر أداء تميز بالتمايل في الإيقاع والأداء، وغناء النداء والاستجابة، وتعدد الإيقاع، والارتجال.

اعتمد هذا النوع من الموسيقى على آلات النفخ النحاسية، مثل الساكسفون والترومبيت والكورنو. وشمل تطور موسيقى الجاز فيما بعد إدخال آلات أخرى مثل التشيللو والبيانو والدرامز.

 

ثقافات متعددة

في بداية الحديث يلفت جون باورز، مؤسس الفريق، إلى تسمية الفريق ICX، اختصارًا لـ International Culture Exchange. يقول: “بعد سنوات من الحفلات والجولات الفنية، سواء في الولايات المتحدة أو العديد من الدول الأخرى. قابلت الكثير من الأصدقاء والجمهور الذين كانوا يرغبون في التعرف إلى موسيقى من ثقافات مختلفة.

وأضاف: “أؤمن بأن الموسيقى طريق سهل لإيصال مشاعر المواطنين من حول العالم، لذلك بحثت عن أفضل العازفين.  وبالفعل، قمنا بالعديد من الحفلات والجولات الفنية، وهذه المشاركة هي الجولة العالمية السادسة لنا معا كفريق”.

بدا أن عشق الموسيقى ومعرفتها منذ الصغر كجواز مرور للانضمام إلى الفريق. فكل من جريج تاردي، وتوم ريتشيسون، وماسيج كوفاشيفيتش، بدأوا العزف منذ سن صغيرة. يقول جريج: ” كرجل أسود من نيوأورليانز فإن هذا يعد جزء من ثقافتي أعرفه وأحترمه. هذا يعني لي الكثير أيضًا. كان والداي مغنيين، لذلك أعجبت بموسيقى البوب، بعدها ذهبت لصفوف تعليم الموسيقى. ولعبت الساكسفون لبعض من الوقت.

يقول: “في إحدى المرات سمعت لدى صديق واحدا من أعظم لاعبي الساكسفون في تاريخ موسيقى الجاز، عندها تغيرت حياتي وقررت عزف موسيقى الجاز. قلت إنني يجب أن أكون هكذا وأن أعزف هذه الموسيقى”.

 

أعضاء الفريق خلال اللقاء

توم وجيري

على عكس جريج الذي يُعّد ابنًا لموسيقى الجاز، جاء عشق الكرواتي ماسيج كوفاشيفيتش لها عبر أشهر كارتون في العالم “توم وجيري”، الذي عشقه في صغره.

يقول: كنت مدمنًا لهذا الكارتون الرائع وظلّت موسيقاه ترن في أذني. بعد ذلك كبرت وبدأت في استكشاف الأمر ومعرفة موسيقى الجاز. وقتها كانت كرواتيا تُعاني من الحرب، وكان هناك من يأتون للمساعدة. من ضمن هؤلاء صديق إنجليزي جاء ليُعلّمنا الموسيقى. كان عمري آنذاك 12 عاما.  أتذكر ذلك كما لو كان بالأمس”.

تابع: “عندما رأيته يعزف موسيقى الجاز قلت لنفسي: أنا أريد أن أعرف كيف أفعل هذا. كان لدي هذا الشغف لأتعرف على موسيقى الجاز. بعدها تعرفت على آخرين قاموا بتقديمي إلى موسيقى الجاز، إن صح القول”.

 

العازف توم ريتشسون

الجاز المرح

بدأت موسيقى الجاز في نيو أورلينز أوائل العقد الثاني من القرن العشرين. وجمعت ما بين موسيقى مسيرات الفرقة النحاسية، والرقصات الرباعية الفرنسية، والبيجويني، والراجتايم، والبلوز مع الارتجال البوليفوني الجماعي.

وفي الثلاثينيات، برزت فرق “بيج باند السوينج” المنظم جيدًا والموجه للرقص، وجاز كانساس سيتي، والهارد- سوينجنج، والبلويزي، وجاز الارتجال، والجاز الغجري الذي اعتمد على موسيقى الفالس الموزيتي.

ظهرت البيبوب في الأربعينيات. وفيها تحولت موسيقى الجاز من موسيقى شعبية يمكن الرقص عليها إلى موسيقى أكثر تحديًا. تؤدَّى بإيقاعات أسرع، واستخدمت المزيد من الارتجال المعتمد على الأنغام. بينما نشأ الكول جاز قرب نهاية الأربعينيات، مقدمًا أصواتًا أكثر هدوء وسلاسة، وجملًا لحنية طويلة وخطية.

يروي توم ريتشسون عن عشقة للجاز “في المدرسة الثانوية استمعت إلى دايفيز يغني “الفلانتاين المرح”، كنت في الحفل وكان أمامي مباشرة في نيويورك. لم أكن أعرف ما هذا في ذلك الوقت. لم يكن يهم، بدا الأمر وكأنه قراءة رواية رائعة للمرة الأولى، وكأن شخص يخلق عالما كاملا جديدًا لم يكن عليك ان تفهمه لأنه خلق جديد. لعب مايلز لحن واحد وأسرني تماما بعدها”.

وتابع: “في الجامعة جاء صديق عمري مايكل باركنسون، والذي عرفني إلى أحد أعظم عازفي الساكسفون الذين عملوا إلى جانب دايفز. منذ ذلك الوقت وأنا منخرط في هذا الأمر، مع ذلك هناك ألبومين سمعتهما لا أقدر على نسيانهما أبدًا. استمعت إليهما مئات المرات، وفي كل مرة يأخذاني إلى العالم الساحر ذاته. بالنسبة لي هما كل ما يمثله موسيقى الجاز”.

 

العازف جريج تاردي

مزج الألحان

مع انتشار موسيقى الجاز في جميع أنحاء العالم. بدأت في التأثر بالثقافات الموسيقية الوطنية والإقليمية والمحلية، ما أدى إلى ظهور أساليب مختلفة.  يوّضح أفراد الفريق أن الأمر أشبه باللغة التي يتحدثها الجميع مثل الإنجليزية، وليس أشبه بمنافسة رياضية “فعندما تتعلم العزف فكأنك تتعلم كيف تحفظ الكلمات. وكل شخص يعبر بهذه اللغة على طريقته”.

هنا، يتدخل مؤسس المهرجان عمرو صلاح مُضيفًا: “هذا المهرجان والمعرض الذي يضمه ويضم مجموعة من أساطير موسيقى الجاز في العالم. هذه تجربة أخرى تختلف عن الموسيقى الكلاسيكية. طريقة أخرى للفن والحياة، هذا ما يدفع الحماس إلى عروقي، وما يجذب لها آلاف المعجبين في كل مكان في العالم”.

يُضيف: “هو تفاعل إنساني أكثر منه مجرد موسيقى نتجت عن هذا التفاعل. لذا، أشعر بالفخر عندما أجد نفسي فعلت شيئا من أجل موسيقى الجاز”.

يلفت جريج إلى أن الإضافة لألحان الجاز من ثقافة أخرى لا تأتي دون معرفة هذه الثقافة جيدًا “لا يمكنني عزف الموسيقى المصرية طالما لم أعرفها، فإذا أمسكت بالساكسفون الآن وقمت بعزف لحن ما وقلت لك إنه مصري، فسوف تقول لي يجب أن تعرف الموسيقى المصرية حتى تستطيع أن تعرفها وتضيف إليها. هذا هو الحال نفسه بالنسبة إلى موسيقى الجاز”.

 

الكثير من الموسيقى

شهدت الخمسينيات ظهور الجاز الحر. الذي اكتشف العزف بدون المقياس المنتظم، والإيقاع، والتكوينات التقليدية. وفي منتصف الخمسينيات، ظهر الهارد بوب، والذي أدخل تأثيرات من موسيقى الريذم أند بلوز، وموسيقى الغوسبل، والبلوز، خاصة في العزف على الساكسفون والبيانو.

ونشأ الجاز الوضعي أواخر الخمسينيات، واستخدم السلم الموسيقي ليكون أساسًا للتكوين الموسيقي والارتجال. ظهر الجاز فيوجن في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، جامعًا بين ارتجال الجاز وإيقاعات موسيقى الروك وآلات الإليكتريك الموسيقية، والأصوات عالية التضخيم على المسرح.

وفي أوائل الثمانينيات، نجح شكل تجاري من الجاز فيوجن يسمى السموث جاز، واستحوذ على نسبة كبيرة من البث الإذاعي. ويذخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بالأساليب والأنواع الأخرى، مثل الجاز اللاتيني والجاز الأفرو- كوبي.

جريج يؤكد أن موسيقى الجاز جاءت من تجربة الأفرو أمريكيين في الماضي “عندما جاؤوا إلى العالم الجديد كعبيد، جاءت معهم ثقافتهم التي اضافت إليها تلك الفترة أشياء أخرى. فخرجت موسيقاهم بهذا الشكل، وانقسمت إلى موسيقى للأفراح، وموسيقى للشوارع، وغيرها من الفروع التي يبقى أصلها واحد”.

يشير ابن نيو أورليانز إلى أن موسيقى الجاز بعد ذلك اتخذت شكلا أكاديميًا، وبدأ تعليمها في المدارس والأماكن الخاصة “ونتيجة لذلك شرع عشرات الطلاب في تعلم موسيقى الجاز عبر المدارس، ولكن في بعض الأحيان هذه البرامج لم يركزوا على الموسيقى الاصلية، بل يهتموا بتكتيكات الموسيقى، لكنهم لم يرجعوا إلى الأسماء القديمة مثل لويس أرمسترونج وغيره”.

 

العزف حتى الموت

لا يتخيل أي من هؤلاء العازفين في ICX،، أن يفعل شيئًا آخر بخلاف الموسيقى. فكما أوضح عمرو صلاح أنه ترك الصيدلة من أجل الموسيقى، أشار الباقون في حديثهم إلى أن لحظة وفاتهم هي التي يُمكن أن يكفوا فيها عن العزف.

يقول جون باورز: أنا عجوز أمامك كما ترى ولا زلت أعزف. الكثير منا سوف يعزفون حتى يموتوا”.

وأضاف ريتشسون: “أنا لدي مشكلة في الرئة، وطبيبي نصحني أن أستمر في العزف طيلة الوقت”.

أما جريج، فأوضح أن الموسيقى نوع من التواصل “ربما أجد نفسي في سن لم أعد أقدر على بعض الأشياء. ربما في الخمسين سيكون عزفي أبطأ مما كان في العشرين، لكن هذا لا يعني أنه لم يعد لدي شيء لأقدمه”.