رغم أن مواد الدستور دعمت حق المواطن في المعرفة والوصول إلى المعلومة، وحق وسائل الإعلام في النشر دون قيود أو رقابة إلا في زمن الحرب والتعبئة العامة، إلا أن الممارسة الفعلية في مصر لا تعترف بتلك النصوص ولا تحترم أحكام القضاء المتواترة التي أكدت تلك الحقوق، حتى صار التعتيم والحجب والمنع قواعد بديلة عن العلانية والمكاشفة والشفافية.
وجاءت الطريقة التي تعاملت بها أجهزة الدولة المختلفة مع واقعة القبض على عدد من المسئولين بوزارة الصحة قبل أيام بتهم فساد، ثم نقل الوزيرة هالة زايد إلى المستشفى إثر تعرضها لأزمة قلبية، لتكون دليلا دامغا على أن سلطات الدولة المختلفة لا تقيم وزنا لا للمواطن ولا حقه الدستوري في المعرفة.
بعد تسرب خبر القبض على مسئولي «الصحة» وسقوط الوزيرة، حاول الصحفيون دون جدوى الوصول إلى قصة صحفية متماسكة لنقلها إلى الجمهور صاحب الحق الأصيل في معرفة ومتابعة ما يجرى داخل كواليس مؤسساته الحكومية.
وعلى مدى أكثر من 24 ساعة من تداول تلك الأنباء، تُرك الأمر للاجتهاد، ولم يصدر بيان من أي جهة رسمية يوضح للرأي العام ما جرى وهو ما ساعد على انتشار شائعات، فطالت الاتهامات المرسلة قيادات بالوزارة ثبت فيما بعد عدم صحتها، حتى صدر بيان من مكتب النائب العام في اليوم التالي يعلن أن النيابة العامة تولت التحقيقات مع مسؤولين بوزارة الصحة فيما هو منسوب إليهم.
بيان النائب العام الذي أهاب بالكافة الالتزام بما تعلنه النيابة العامة وحدها من معلومات حول الواقعة لم يقدم إجابات على التساؤلات التي طرحها المواطنون، ولم يغلق باب الشائعات والشكوك والتسريبات التي تم تداولها.
وبعد مرور 4 أيام على خبر القبض على مسئولين بالوزارة، صدر بيان مقتضب من مجلس الوزراء بتكليف الدكتور خالد عبد الغفار وزير التعليم العالي للقيام بأعمال وزيرة الصحة لحين شفائها، رغم تأكيد الطبيب المعالج للوزيرة أن حالتها مستقرة ومطمئنة من الناحية الطبية.
في عام 2017 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما اعتبر أن «كل تقييد على حق المواطنين وحق وسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومات الصحيحة والأخبار الصادقة دون سند من القانون وفي غير مبرر يستند إلى مصلحة عامة»، يُعد سيرا على غير مسار الدستور وإهدارا للحقوق التي صانها للمواطنين ووسائل الإعلام.
المحكمة قالت في حكمها أيضا: «إذا كانت مادة الإعلام صحيحة صادقة في أخبارها ومعلوماتها أدرك الرأي العام حقيقة ما يجري إدراكًا سليمًا أما إذا حُرمت وسائل الإعلام من الأخبار والمعلومات الصحيحة فإن ذلك ينعكس سلبًا على الرأي العام، وكل مساحة تخلو في وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تملأ بالأكاذيب والأضاليل».
الحكم الذي شدد على أن المواطن «حاكم رأيه وسيد معتقده، وهو أساس الديمقراطية التي تتجاوز المفهوم التقليدي لها المتمثل في المُشاركة في الانتخابات»، أكد أيضا أنه لن تتحقق مشاركة الأفراد في كل أمور الشأن العام بشكل فعال، إلا إذا كان المواطنون على بصيرة من الحقائق عما يحدث في وطنهم.
لم يكن هذا الحكم هو الأول من نوعه الذي تؤكد فيه المحاكم المصرية حق المواطن في المعرفة والحصول على المعلومة الصحيحة، فأحكام القضاء الإداري والمحكمة الدستورية تواترت على إرساء هذا المبدأ، استنادا إلى مواد الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر ونصوص الدساتير المتعاقبة التي شددت على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية».
وكما أقرت الدساتير مبدأ إتاحة السلطة التنفيذية المعلومات للمواطنين، جعلت من العلانية أيضا أصلا في أعمال السلطتين التشريعية والقضائية، بغرض إشراك المواطنين «أصحاب السيادة» في الشأن العام.
في الدول الديمقراطية التي تحترم حق شعوبها في المعرفة، والتي تتعامل مع مواطنيها باعتبارهم أصحاب السيادة والولاية الحقيقية، والتي تؤمن أنظمتها بأن الصحافة هي عين المواطن على سلطات الحكم الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، عندما تثار قضية من عينة ما جرى في وزارة الصحة في مصر، يصدر بيان من جهة رسمية يوضح للرأي العام أبعاد الواقعة وأطرافها وأسباب إحالتها إلى جهات التحقيق، وقد يعقد مؤتمر صحفي لمسئول ذي صلة للإجابة على أسئلة الصحفيين واستفساراتهم حول الواقعة.
لكن وبما أننا لا نعترف في بلادنا بسيادة المواطن ولا نقيم وزنا لحقه في المعرفة، فننحاز في مثل تلك القضايا إلى مبدأ التعتيم و«نكفي على الخبر مجور»، على ما يقول المثل الشعبي.
في المقابل، وفي مطلع أكتوبر الماضي، تناولت وسائل الإعلام الاسترالية واقعة تورطت فيها رئيسة وزراء ولاية نيو ساوث ويلز السيدة جلاديس بريجيكليان، وما أن أصدرت لجنة مكافحة الفساد في الولاية بيانا قالت فيه إنها تحقق فيما إذا كانت بريجيكليان قد لعبت دورا في سلوك «مثّل أو أسهم في الإضرار بالثقة العامة»، حتى أعلنت رئيسة وزراء الولاية استقالتها.
لجنة مكافحة الفساد أشارت في بيانها إلى أنها ستُجرى مزيدًا من الاستجوابات العامة في إطار تحقيقها الذي ورد فيه أن بريجيكليان كانت يومًا ما على علاقة سرية مع نائب في برلمان الولاية وهو محور تحقيق الفساد.
بريجيكليان لم تنتظر نتائج التحقيق ولم تصب بـ«بوعكة صحية» ليتم نقلها إلى المستشفى، بل قررت مواجهة الجمهور الذي وثق فيها وانتخبها، وعقدت مؤتمرا صحفيا لتعلن فيها موقفها من بيان اللجنة.
رئيسة الوزراء قالت في المؤتمر الصحفي إن القضايا موضع التحقيق «أمور قديمة»، لكنها شعرت أنه يتعين عليها الاستقالة نظرًا لطول الفترة الزمنية المرجح أن يستغرقها التحقيق.
وفي وقت لاحق استدعت اللجنة المستقلة لمكافحة الفساد رئيسة الوزراء المستقيلة للاستماع إليها بشأن الانتهاكات المحتملة للثقة العامة، ونظرت اللجنة فيما إذا كانت بريجيكليان قد انتهكت القانون من خلال عدم الكشف عن علاقتها الشخصية السرية مع النائب السابق داريل ماجواير، وحققت أيضا فيما إذا كانت رئيسة الوزراء قد ساعدت في تمويل مشروعين في الدائرة الانتخابية للنائب ماجواير عام 2018 بقيمة ملايين الدولارات.
حاولت بريجيكليان إقناع اللجنة أن تستمع إلى تفاصيل علاقتها بالنائب على انفراد بسبب «الإذلال والضرر الذي قد يسببه الدليل العلني»، إلا أن اللجنة رفضت وأصرت على علانية جلسة الاستماع.
لا تزال التحقيقات جارية مع رئيسة الوزراء المستقيلة وصديقها النائب البرلماني، ويتابع الرأي العام الاسترالي ما يجري في تحقيقات لجنة مكافحة الفساد بشكل دوري، ولم يصدر عن أي جهة أيا كان موقعها في السلطة بيان يحظر النشر، لأن في استراليا والدول المتقدمة النشر والعلانية هما الأصل ورقابة المجتمع لأداء السلطات حق يمارسه الشعب من خلال إعلامه الحر الذي ينقل له ما يجري ويدور.
أما في واقعة وزارة صحة مصر فلم يصلنا سوى بعض التسريبات التي تحدثت عن فساد ورشاوى تتصل بأعمال في الوزارة تورط فيها بعض المسئولين الكبار القريبين من الوزيرة، فيما تضاربت المعلومات حول مصير السيدة هالة زياد وهل سيتم إبعادها بشكل «لائق»، في التعديل الوزاري المرتقب كما أعلن أحد الإعلاميين قبل يومين، أم أنها ستخضع للتحقيقات الجارية؟
قضية وزارة الصحة وغيرها من قضايا الرأي العام التي يُغيب فيها المواطن عن عمد ويحرم من حقه في المعرفة فتحت الباب مجددا للحديث عن ضرورة إصدار قانون ديمقراطي لتداول المعلومات كما نصت مواد الدستور، يضع تصرفات سلطات الدولة الثلاث تحت رقابة الشعب، فالأصل في المعلومات والبيانات هو الإتاحة والعلانية، والسرية هي الاستثناء، فيجب أن تصدر القوانين والقرارات لتعزز وتدعم الحريات والحقوق، وليس لفرض مزيد من القيود على حرية الصحافة والإعلام في ممارسة دورها في إخبار المواطن وإعلامه بما يجري ويدور.
فرض قيود على وصول الجمهور إلى المعلومة الصحيحة والإصرار على وضع رقابة صارمة على وسائل الإعلام يحرم الشعب من حقه في مساءلة سلطاته وحساب المسئولين العموميين على أدائهم، وهو ما يفقد هذا الجمهور الثقة في أداء السلطة التي تصر على تغييبه وإخراجه من معادلة الحكم كشريك ومراقب ومحاسب.
حالة التعتيم المستمرة على كل أو معظم شئون الدولة ومؤسساتها، وفرض إعلام الصوت الواحد والرأي الوحد والموقف الواحد على المواطنين سيفقد الشعب الثقة ليس في أي إنجاز يتحقق بالفعل بل في نوايا وسياسات «الجمهورية الجديدة» التي تسوقها السلطة على منابرها الإعلامية.
من المعايير الأساسية التي وضعتها منظمة الشفافية الدولية لقياس مدى انتشار الفساد في أي دولة حرية الصحافة، فكلما «تراجعت مستويات حرية الصحافة كلما تزايدت معدلات الفساد»، فلا يمكن لأي دولة أن تحقق استقرارا سياسيا أو نموا اقتصاديا بدون صحافة حرة تتدفق فيها المعلومات إلى الجمهور بلا قيود أو رقابة.
وإذا أردت دولة ما أن تتمتع بتفوق اقتصادي وسياسي وأن يكون لها ثقل إقليمي ودولي، فعليها أولا أن تحترم مبادئ المكاشفة والشفافية والمحاسبة، وأن تُخضع من خلال القوانين واللوائح مؤسساتها الحكومية لمراقبة وسائل الإعلام مما يمكن الصحافة أن تكون بحق سلطة رابعة تمارس دورها في مساءلة ومحاسبة المسؤولين نيابة عن الشعب.