ظللت زمنًا أتساءل عن شعر المديح في الثقافة العربية، وكيف انتقل من كونه حاجة إنسانية طبيعية يفيض بها الشعر حين يستحسن الشاعر قيمة حقيقة أو موقفًا نبيلًا قام به أحد الناس، تماما كما مدح الشاعر الجاهلي “زُهير بن أبي سُلمى” العربيين الكريمين: “هرم بن سنان” و”الحارث بن عوف” بعد أن توسطا في إيقاف الحرب الدّامية (حرب داحس والغبراء) بين قبيلتيْ “عبس” وذبيان”.. كان ذلك فيض الشعر على ما قام به الرجلان من عمل أحلّ السلام في جزيرة العرب.
ولكن الأمر مع الإسلام اختلف تمامًا، بداية من حكم الأمويين ومن تلاهم؛ لقد بالغ الشعراء المسلمون في تصوير مديحهم على نحو جعل الحاكم مصدر النعيم إذا رضي، ومصدر العذاب إذا سخط، رغم أن الإسلام – في جوهره – دعوة هائلة للتحرر والمساواة وحث الناس على محاسبة الحاكم والنصح له وتقويمه إذا أخطأ أو حاد عن الطريق، حتى توعد أحد المسلمين رجلًا مثل عمر بن الخطاب بالتقويم بالسيف إن وجد فيه اعوجاجًا..!
لقد صار المديح – مع الدولة العربية الإسلامية- مؤسسة ذات تقاليد راسخة؛ فهي لا ترسم العلاقة بين المادح والممدوح فحسب، وإنما تضع المفهومات المحددة التي لا يجب أن يخرج الشاعر عنها: كالكرم والشجاعة والعلم والحكمة ونبل الأصل… وطبقًا لمستوى إجادة الشاعر ورضا الأمير عنه يكون العطاء. وكان على الشاعر – في كل مرّة – أن يبالغ في أوصاف ممدوحه كي يُسْمعه الجديد الذي لم يسبق له أن سمعه، كأن يصفه بالكرم ثم يجعل الكرم غيثًا ويجعل الغيث ينهمر من كف الممدوح، أو يصفه بالحزم وشدة البأس حتى إن الدهر يحتمي منه، على نحو ما يقول ابن سناء الملك في مدح توران شاه:
غَدَا بَأْسُه يَحْمي حِمَاه وَقَدْ غَدَا
بِهِ الدَّهْرُ مِنْهُ يَسْتَعِدُّ ويَحْتَمِي
فَلَوْ ذَكَرَتْه الطَّيْرُ أَوْ سَمَّتِ اسْمَه
لَمَا رَاعَها فِي جَوِّها بَأْسُ قَشْعَمِ (القشعم: النسر )
ولن يفيد هنا أن تسأل إذا كان الممدوح كذلك في الواقع أم لا، ولكن السؤال كيف ضُبطت القواعد ووضعت أسس (مؤسسة) المديح على هذا النحو؟ بل كيف رضي بها الشعراء الذين هم أسلاف عنترة بن شداد وعروة بن الورد وعمرو بن كلثوم؟ كيف وصلنا إلى شاعر يرجو ممدوحه ويناجيه ويجعله مصدر الإنعام، كما يقول السَرِيُّ الرَفَّاء (ت 362 ه):
أَلبَسْتَني نِعَمًا رَأيتُ بها الدُّجى
صُبْحاً وكنتُ أرى الصَّباحَ بَهيما
وكيف وحّد شاعر مثل ابن هانئ الأندلسي في الفعل بين الله تعالى والمعز لدين الله الفاطمي، حين مدحه قائلًا:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ
وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ
هذا الذي ترجى النجاةُ بحبِّهِ
و به يحطُّ الإصرُ والأوزار
يمكننا أن نتحدث عن أسباب مركبّة لهذا التُّحول في النسق الثقافي لشعرية المديح، ولكنني هنا أحب أن أتوقف معك إزاء مقدمة الدكتور “حسن حنفي” في كتابه “من العقيدة إلى الثورة”، لنرى أن نصوص المديح كانت تعمل في موازاة نسق ثقافي آخر هو “علم الأصول” وما يتصل به من أخلاقيات.. لم يكن “حنفي” يتحدث عن شعر المديح، وإنما عن تحولات العقيدة الإسلامية لدى الأصوليين: من التجريد إلى التعيين، ومن استقلال الفرد وحريته إلى منظومة هيراركية رأسية تراتبية يغدو فيها الممدوح ظلّ الإله أو بديلًا عنه في المنظور الحسّي، على نحوٍ يوحِّد بينهما في المنح والمنع، وبما يرهن شعوبًا بأكملها به.
كان “حنفي” يتحدث عن انشغال الأصوليين بالتنزيه النظري لله سبحانه وتعالى. كانوا مشغولين – إلى أقصى حد – بما يصفه بـ”عُقْدة القبة السماوية” الحافظة للعالم من كل تشبيه وتجسيم.. حتى بات المسلم مشدودًا بالتودد إلى هذه القوة، وعاجزًا عن إدراك أسباب خسائره وتراجعه في الواقع المعيش، وكلما خاب أمله في الواقع انشغل أكثر بالتودد إليها والاعتذار منها والمبالغة في طلب رضاها.
كان طبيعيًا والحال كذلك أن ينشأ السلطان الديني الذي يمتد في الفضاء الحسّيّ المنظور بقدر ما يمتد في الفضاء النفسي المُتخيل، حتى تختفي المسافة بين الديني والسياسي، وتتنزل – في الوعي العام – القوة الإلهية في الحضور السلطاني الذي يغدو فردًا متفردًا في قراراته وفي وجهة نظره، حتى صارت مخالفته مخالفة لله، بقدر ما باتت طاعته طاعة لله.. إنه يمنع ويمنح، ويقرر ما يرى: “لا ينازعه أحد ولا يشاركه شريك، ولا يعارضه معارض ولا يقف بجواره نِدّ. يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء، لا معقب على قرارته وأوامره”. ( من العقيدة إلى الثورة ص9)
حاول “حسن حنفي” في مقدمته هذه – وما أكثر ما هُوجم بسببها – أن يفكك العلاقة بين التنزيه النظري أو العقدي لله سبحانه وموقع الإنسان في العالم ومسؤوليته عن فعله وطاقته، وتفكيك التصورات النفسية والذهنية بين التجريد الإلهي والتجسيد الإنساني في صورة الحاكم، ومن هنا كانت دعوته الفذة إلى أن تكوت البداية الفكرية والأصولية من الواقع: من إيمان الفرد المسلم بأن معرفة الحق والباطل لا يمكن الحصول عليها من قوة عليا على سبيل الهبة، وإنما من التأمل بفضل طاقة العقل في المعطيات الفكرية والواقعية.
فالرسالة المحمدية لم تكن خاتمة الرسالات إلا تقديرًا لمقام العقل الإنساني وقدرته على الفهم والتحليل والتفكير الحر المستقل، كان الختام في حد ذاته دعوة إلى المبادرة والمبادأة والمغامرة والكشف عن القوانين الكونية.. لقد كانت مفردة العقل واحدة من مفردات مشاريع الإصلاح النهضوي الأساسية على امتداد قرنين من الزمان، انشغل بها الأستاذ الإمام محمد عبده، كما انشغل بها فلاسفة المسلمين من قبل: الكندي وابن رشد .. ولكنها – لدى حنفي – أخذت بعدًا جديدًا أكثر عملية وثورية؛ إذ تلتصق بالواقع وتنطلق منه، إنها لا تسعى إلى التوفيق بين العقل والنقل على نحو ما اجتهد الفلاسفة وعلماء الكلام قديمًا طبقًا لحاجات عصرهم، وإنما تريد من العقل أن يباشر التأمل في الواقع ويستقرئ مجريات حوادثه، لتغدو خلاصته هي الخلاصة، وموقفه هو الموقف، لنغدو في التحليل الأخير إزاء العقل والواقع معًا، يقول “حسن حنفي” في وضوح وحزم”: ولا يمكن التسليم بشيء على أنه حق ما لم يُعرض على العقل ويثبت في الواقع أنه كذلك”. (ص10)
بقليل من التأمل يمكنك أن تتابع في مشروع “حسن حنفي” هذا الجهد في مراجعة هذا المسار الطويل من فكر النهضة والفلاسفة من قبلهم وموقفهم من العقل والعقلانية.. إنه ينتقد المسار الرأسي الذي يتنزل فيه كل شيء من أعلى إلى أسفل: تتنزل المصلحة من الحاكم إلى المحكوم، تمامًا كما تتنزل المعرفة من المفكرين والفلاسفة إلى الناس. كان حنفي يدفعنا دفعًا إلى مراجعة المسار ويحاول تفكيك أنساقه العميقة التي تلبّست بالعلوم الشرعية، لتكون المصلحة من الواقع، حيث يعيش الناس أفرادًا وجماعات، وتكتسب المعرفة قيمتها من قدرتها على تعديل الوضع كله، لترافق الناس حيث يضربون في مناكب الأرض.
وكان يرى أن ذلك كله مرهون بالعقل العلمي الذي يمكنه الفهم والاستباط والبحث في العلل لتسيير الحياة أو مصالح الناس. كان حنفي يتحدث عن منظومة هيرارركية مركبة يجب تفكيكها، على نحو يجعل الإنسان الغاية والمركز والفاعل الحقيقي، فالواقع الذي نعيشه، وقد طال بأكثر مما يجب، “لن يتغير بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين التي يتحول فيها الوعي الفردي إلى معبر عن وعي الجماعة.. فالجماهير هم الدرع الواقي، لا يوجد صمام أمان إلا في وعي الإنسان بذاته”. (ص11)
التحرر والمسؤولية هما جوهر الفكرة إذن، وهي دعوة لا علاقة لها بالمثالية أو بالحالة الطقوسية التي اختزلت فيها المعرفة واستغرقت وجدان المسلم، وإنما هي دعوة إلى وضع الجماعة المسلمة أمام مرآة المنطق والعقل، حيث تتيقن أن ما هي فيه ليس قضاء الله أو قدره، ولا توجد غاية دينية فضلًا عن أن تكون تعبدية من ورائه؛ إذ لا يمكن أن يكون الغنيّ عن العالمين مسؤولًا عن فقرنا، ولا يمكن للعادل أن يكون مسؤولًا عن ظلمنا.. فما نحن فيه هو اختيارنا الذي يجب علينا تغييره بأنفسنا. و”إذا كانَ حقُّ اللهِ على العبيدِ هو تحقيقَ الرسالةِ والدعوةِ المبلَّغة، وهو كونُ الإنسانِ خليفةَ اللهِ في الأرض، فإنَّ حقَّ العبيدِ على اللهِ هو حقُّهم في استردادِ وعيِهم المتحجِّرِ خارجًا عنهم وأمانتِهم على الرسالةِ وتحقيقِها في العالَم”.
كان “حنفي” يدعونا إلى تغيير المواقع وإعادة تشكيل العلاقة بين الله وجماهير المسلمين، لتغدو النعم (قليلة أو كثيرة) مكاسب الذات التي حصلت عليها بجدها وكفاحها، فالحقوق ليست منّة ولا تكرُّمًا من أحد، ولا يجب أن ترضى الجماعة بالقليل، هذا الرضا فيه استكانة يجب أن نتخلص منها، فــ” حالنا لا يتطلب حمدًا ولا ثناء على أحد، بل يقتضي رفضًا واعتراضًا، مطالبة وثورة”. (ص12)
كان “حسن حنفي” يريد توجيه طاقة الدعاء من طلب الاستجداء من السماء إلى مقارعة الواقع، والإيمان بالمسؤولية وقدرتها على تغييره، فالإنسان المعاصر يمتلك نفسًا يشوبها القلق والسخط، وهو يئن تحت ظروف واقعه التي فرضت عليه ألوانًا من العجز والحرمان. والواقع لن يتغير بالرضا عنه، ولن يتغير برفع الأكف إلى السماء. ونصرة المظلوم لن تتحقق بالبكاء عليه.. الدعاء – على نحو ما يمارسه المسلمون اليوم- حيلة العاجز، وتجسيد لأمانيه ورغباته، ولن يتغير الواقع لأننا ندعو على الظالمين أو المحتلين، ولكنه سوف يتغير حين نؤمن بقدرتنا على تغييره، وأخذنا بأسباب ذلك.
كانت دعوة “حسن حنفي” هي ضرورة التمييز بين الصلاة والعلم، أو بين الشعائر والتحليلات العلمية للواقع، ويردد دائمًا قوله: “البحث العلمي ليس صلاة، والنظر العقلي ليس دعاء”، لا يمكننا حل إشكالاتنا دون نظر في الواقع أو دون معرفية علمية ممنهجة…
حاول حنفي – بإصرار وصبر – أن يحرر مفهوم الاعتقاد من التحجر وارتهان قدرته بالغيب.. وألا تتشخص الدعوة في الرسول وألا يطول نظرنا في المبلغ ونغفل عن الرسالة، كان يرى أننا بذلك نعمل على “تجسيد” للرسالة، ونخلط بينها وبين الرسول، وهذا ما يجب أن نتخلص منه، كان الرسول قدوة بالفعل، ولكن القدوة لا تعني التبعية لشخص والثناء عليه. القدوة – في منظور حنفي – تجربة تاريخية، يمكن أن نستفيد منها في واقعنا، ولا يجب أن تتوقف عند شخص بعينه، لا يجب أن يرتد التاريخ إلى نقطة ما في الماضي، ولا يجب أن تكون القدوة موضوعًا للمديح والتبتل في رحابها، وإنما: كيف تتحول الفكرة إلى واقع معيش..؟!
يمكن الحديث عن مآسٍ كثيرة للواقع الإسلامي، ولعلّ أبرزها مأساتنا مع تشخيص الأفكار وصناعة الرموز، ونحن – إذ نفعل ذلك – نرهن واقعنا بماضينا، ونغفل عن الشرط التاريخي لكل خطاب، ونوحّد الخطاب بقائله، بحيث يستعصي أي خطاب على المراجعة، وهنا نجد أنفسنا خارج حركة التاريخ؛ فنسير إلى الأمام وعقولنا هناك في الماضي.. وهكذا يحدث الخلط مثلًا بين أفكار الأساتذة والأساتذة أنفسهم، تمامًا كما نخلط بين النبي محمد والرسالة أو بين النبي والنبوة أو بين الغاية والوسيلة، ومدح الوسيلة وإغفال الغاية…!
لقد كان هذا كله مما يجب مراجعته، بحيث نقلب التصورات ونميز الغايات عن الوسائل، ومما يأسى له أن واقعنا المتراجع قد دعّم هذا النظر على امتداد قرون طويلة، فتراجعت قدرتنا على فهم الأمور، وتصور الحقائق، وكان البديل دائمًا هو استبدال ذلك كله في الأشخاص أو ما يُطلق عليه “حنفي”: عبادة الأشخاص.
ولأن أنساق الثقافة تتشابك مع بعضها، فقد كان فن المديح أحد تجليات هذه النظرة، وأضاءت كتابات حسن حنفي من حيث لا تحتسب هذه البنية النسقية الهيراركية التي تسحق الفرد لصالح الممدوح البعيد المتعالي الذي لا يسأله أحد عمّا يفعل.. لقد وجد هذا الجذر “الأصولي” تجليه في الفن الشعري، كان المديح عزفًا على “علم الأصول” بقدر ما كان هذا وذاك تنويعًا على غياب الفرد المسلم واتكاليته ويقينه بهذا التواكل.
وبشكل عام، لم يكن التفكيك والتقويض غاية حنفي، لقد فكك ليعيد تركيب العلوم الإسلامية على نحو جديد انطلاقًا من تحديات العصر، بداية من علم “أصول الفقه” في كتابه “من النص إلى الواقع”، ثم علم أصول الدين في كتابه: “من العقيدة إلى الثورة”، ثم علوم الحكمة في كتابه: “من النقل إلى الإبداع”، ثم في علوم التصوف في كتابه: “من الفناء إلى البقاء”، ثم في العلوم النقلية الخمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه في: “من النقل إلى العقل”.
وهذا – كما ترى – مشروع ضخم في غاياته وطموحه، وفي منجزه الذي تركه صاحبه، وهو منجز يحتاج إلى نقاش موسّع، وهذا ما يوجبه علينا: الدين والعلم والوطن.