أكثر من 504 سنة مرت على صيحة مارتن لوثر المصلح الألماني الذى أطلق غضبه في وجه الكنيسة الكاثوليكية. حيث علق قائمة بمطالبه الإصلاحية الـ 95 على باب كاتدرائية هناك دون أن يهدف إلى الاحتجاج أو الانفصال عن الكنيسة. ولكن الظروف كانت مهيأة لتأسيس حركة كنسية موازية فى تلك الفترة لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية. غير أن الحركة الإصلاحية تلك لم تتوقف عند حدود الدين بل امتدت لكافة جوانب المجتمع الأوروبي، فانطلقت بعدها الثورة الصناعية.

ملامح ثورة لوثر تتلخص في التصدي للممارسات الكاثوليكية بشأن بيع صكوك الغفران من الخطايا لأنها نعمة مجانية من الله تأتي الفرد عبر إيمانه بيسوع المخلص فليس هناك أي شروط لتلك النعمة، كذلك فإن لوثر رفض السلطة التعليمية للكنيسة الكاثوليكية والتي تمنح البابا والاكليروس الحق وحدهم في تفسير الكتاب المقدس. معتبرًا ان لكل مؤمن الحق في هذا التفسير طالما كان قادرا على ذلك.

ولم ينس لوثر في ثورته تلك التخلص من المصادر الأخرى للتشريع المسيحي مكتفيًا بالكتاب المقدس كمصدر أساسي ووحيد ثم امتدت إصلاحاته للجوانب الاجتماعية فسمح للقساوسة بالزواج.

بالإضافة إلى ذلك انتهى لوثر إلى إن الإيمان لا يتطلب الكثير من عذابات الجسد من صوم وصلاة، وبعدما أتم مبادئه تلك أسس كنيسته التي تحمل اسمين لكل منهما دلالته فمن ناحية هي الكنيسة البروتستانتية التي قامت على أكتاف الاحتجاج مشتقة من الفعل الإنجليزي protest بينما تطلق الكنيسة على نفسها في الشرق الكنيسة الإنجيلية رغبة منها في التمسك بالإنجيل كمصدر للتشريع المسيحي، وهو الاسم الذى لا يحب الكثير من أتباع الكنائس التقليدية إطلاقه عليهم باعتبار الإنجيل عامل مشترك وأساسي في إيمان كافة الطوائف المسيحية. بينما تطلق كلمة “البروتستانتية” بما تحمله في طياتها من معاني الاحتجاج على سلطة الكنيسة بالشكل الذى لا تحبذه العقلية الشرقية.

لماذا نجحت حركة مارتن لوثر وأخفق آخرون؟

لم يكن لوثر لينجح في مساعيه تلك دون دعم السلطة السياسية أي الأمير فريدريك الثالث الذى استطاع بسلطته السياسية حماية لوثر الخارجً عن قانون الإمبراطورية آنذاك، ووفر له الدعم اللازم. حيث أمر فريدريك الثالث بنقل لوثر تحت حماية فرسان ملثمين إلى قلعة فرتبرج.

وخلال تلك الإقامة تمكن لوثر من ترجمة العهد الجديد من اللاتينية إلى اللغة الألمانية، ووضع عددًا من الكتب الجدليّة، كان من ضمنها كتابًا تهجم فيه على ألبريشت رئيس أساقفة ماينز، كما ألف كتبًا أخرى في شرح مبدأ التبرير، وتفنيد لاهوت التبرير في الكنيسة الكاثوليكية، وشرح عدد من الكتابات اللاهوتية بعدما كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع ترجمته.

مارتن لوثر

تكللت ثورة لوثر بالنجاح لأنها عاشت في حماية السلطة السياسية إذ لا يمكن لحركات الإصلاح الديني أن تنجح دون أن تحميها السلطة من غضب العوام أو في ظل توافر ظروف سياسية واجتماعية محددة.

البروتستانتية والرأسمالية.. كيف ربط ماكس فيبر بين الدين والاقتصاد؟

في كتابه الشهير، الأخلاق الرأسمالية وروح البروتستانتية يربط عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بين البروتستانتية كمذهب ديني وبين الرأسمالية كمذهب اقتصادي. إذ يعتبر أن البروتستانتية مهدت الطريق لسيادة الرأسمالية الأوروبية بعدما ساهمت في دفع المجتمع نحو الثورة الصناعية.

ماكس فيبر في تحليله لذلك يذهب إلى أن البروتستانية تهتم بمباهج الحياة فهي التي حررت الجسد من عذاباته التي فرضت باسم الدين ومن ثم تحس اتباعها على العيش باستمتاع وإثارة على العكس من الكاثوليكية التي يراها عالم الاجتماع الشهير أكثر انفصالا عن العالم والحياة الدنيوية.

امتدت تحليلات ماكس فيبر من لوثر إلى الجيل التالي من المصلحين حيث ذكر أن الإيمان الكامل عند كالفن ينتج عن الثقة الكاملة بالنفس في حين يربط لوثر الإيمان بالتوبة ومن ثم ينتهي فيبر إلى أن الإيمان هنا يرتبط بالعمل فكلما اتصف صاحب العمل بالأخلاق والإيمان القوي والثقة في نفسه وإمكاناتها زادت علاقته ومعرفته بالله وبالتالي فإن البروتستانتية تمنح أصحابها شعور يقيني بالرضا من خلال العمل وتواجه القلق الديني بينما الكاثوليكية تجعل المغفرة في يد الكهنة فقط أي أن الله يفصل بين الأعمال الدينية والحياة الاجتماعية، ومن ثم لا يدفع الإيمان الكاثوليكي العمل ولا يسهم في النزوح نحو الفكر الرأسمالي.

الإصلاح والتنوير.. لماذا نجحت أوروبا وفشل التنوير الشرقي؟

بعد ما يقرب من قرن من صيحة مارتن لوثر. سقطت أوروبا في فخ الحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت ومن ثم جاء دور الفلاسفة مرة أخرى في القرن الثامن عشر، أي بعد نحو ثلاثة قرون من الإصلاح البروتستانتي.

ولقد تبنى الفيلسوف الألماني كانت نظرية محكمة لفهم التنوير، فالمصطلح يعني تحرير الإنسان من وضعية دونية ذهنياً، وضع الإنسان نفسه فيها في شكل طوعي. ومعنى ذلك ان الإنسان قد قيّد نفسه بنفسه وقد اقنع ذاته بأنه عاجز عن استخدام مقدرته على الفهم من دون أن يدله أحد على ذلك. ويشير كانط أن ما يقف خلف هذا الإحساس بالعجز إنما هو افتقار الإنسان إلى الشجاعة والمقدرة على اتخاذ القرار. «إن الكسل والجبن هما ما يجعل الناس، الناضجين عقلياً حتى وإن لم يدركوا ذلك، تفوكوحت قيادة اوصياء عليهم درسوا وتدرّبوا لكي يمارسوا هذه الوصاية».

في حين يعتبر المفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو إن التنوير كان مرحلة تاريخية إذ يجري في مقال شهير له محاكمة للتنوير الذى قاده كانط حيث يرى إنه في مجمله يقيد من فكرة الثورة بسبب ارتباط الفيلسوف الألماني بالحاكم فريدريك العظيم.

فوكو

جراء تلك السجالات الفلسفية والتاريخية، فإن مشاريع التنوير الشرقية، قد فشلت بامتياز وعلى مدار عقود منذ أن بدأت محاولاتها الأولى بمدرسة النهضة الإسلامية الحديثة التي قادها الأفغاني ومحمد عبده في القرن التاسع عشر وما تلاها من محاولات فردية متكررة من الفلاسفة المصريين والعرب لم ترق إلى التنوير بمفهومه الفلسفي الأوروبي الذى يحاكمه جلال أمين في كتابه التنوير الزائف وهو يشن حملة شعواء على محاولات الشرق تعريب المصطلح ونقل التجربة الشرقية.

إذ يرى أن تلك البنية الغربية في التفكير لا تناسب الشرق ولا الإسلام بينما نسى المفكر الراحل إن الظروف التاريخية التي صاحبت مرحلتي الإصلاح والتنوير الأوروبي تطلبت قدرا من الشجاعة وتنقية التراث الديني لا يحبذه أمين في تصوراته تلك.

ولا يمكن لمشروع تنوير شرقي أن يقوم دون أن يرتبط بالظروف السياسية ففي حين تغيب الديمقراطية بمعناها السياسي العام وحتى داخل المؤسسات الدينية فلا يمكننا الحديث عن مشروع تنوير حقيقي في ظل تمسك المؤسسات الدينية بالتراث وعدم استجابتها للدعوات المتكررة سواء من السلطة السياسية أو من المفكرين المستقلين.

وحتى الكنائس التي نتجت عن الثورة الإصلاحية تلك ودخلت مصر كبعثات تبشيرية قد تأثرت بالتراث الشرقي في ممارساتها وبنيتها وأصبح الحديث عن ضرورة إصلاح ودمقرطة كافة المؤسسات الدينية وكأنه دربًا من الخيال.