ها هو يشهد انهيار كل ما بناه، ها هو يرى نفسه وهو الخديو القوي، نصف الإله الغاشم، خاضعا لوصاية أجنبية، ليس فيما يتعلق بشؤون بلاده فحسب، بل كذلك في شؤونه الخاصة، بل وفي ذمته المالية الشخصية.

كان إسماعيل بالأمس يأمر فيطاع، يتصرف في كل شيء، وها هو اليوم يقبل ويخضع لكل شيء، لم تعد تسعفه إرادته الصلبة ولا ذكاؤه في مواجهة الدائنين الذين اتحدوا ضده، ففرضوا الرقابة على مالية الدولة، ثم فرضوا الرقابة على ماليته الخاصة، كل تصرفاته -كحاكم وكشخص- أصبحت خاصة للرقابة الأجنبية.

لقد أصبح أمر مصر بيد الأوروبيين، يجبون الضرائب، ويدفعون أقساط الديون، ويملكون حق الموافقة أو عدم الموافقة علي أي قروض جديدة.

لم يعد في إمكان إسماعيل أن يبني القصور الفخيمة، ولا أن يشيد دار أوبرا جديدة، ولا أي مظهريات لا جدوى منها للشعب وأولع بها إسماعيل على مدى ثلاثة عشر عاما من حكمه لمصر منذ 1863 – 1876، أي من أول عهده حتى عام 1876 وهو العام الذي تمكنت فيه القوي الأوربية من وضعه هو والبلد بكاملها تحت تصرفهم لضمان الجباية واستيفاء الديون بتأسيس “صندوق الدين العام” في الثاني من مايو 1876.

السطور السابقة وردت في الفصل الثالث من رسالة الدكتوراه التي تقدم بها الدكتور محمد حسين هيكل – 1888 – 1956م إلى جامعة السوربون في فرنسا عام 1912 وكان موضوعها “دين مصر العام”، الرسالة تعتبر شهادة علمية موثقة على قصة الاستدانة الكبرى في عهد الخديو إسماعيل الذي حكم مصر من 1863 إلى 1879 معزولا عن سلطته، بضغط أوروبي،  وبقرار عثماني، وليهدر شبه استقلال تمتعت به مصر في عهود من سبقوه من سلالة محمد علي،  وليضع مصر تحت قبضة الاحتلال المدني الأوروبي ثم الاحتلال العسكري الإنجليزي حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.

الدكتور محمد حسين هيكل
الدكتور محمد حسين هيكل

أردت من العودة إلى دكتوراه محمد حسين هيكل الإشارة إلى عدة أمور:

– أولها أن إسماعيل استلم حكم مصر وديونها المجمعة أحد عشر مليون جنيه استرليني وقفز بها إلى واحد وتسعين مليون جنيه استرليني .

– ثانيها أن خبرة القفز بالديون إلى مستويات غير مسبوقة تتكرر -بصورة ملحوظة- في السنوات من 2014 م وما بعدها .

– ثالثها أن نمط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في التجربتين متشابه ومتقارب من حيث:

أ – حجم السلطة الفردية المطلقة التي يتمتع بها شخص الحاكم في تقرير القروض وفي تقرير وجوه صرفها .

ب – نوع المشروعات التي يتم الإنفاق عليها والتي ربما تكون ذات أهمية لكنها ليست ذات أولوية .

ج – حجم التبعات التي تترتب على القروض من التزامات تتحمل أعباءها الأجيال اللاحقة .

د – ما يترتب على نمط التنمية من حرمان البلد من توظيف مواردها في وجوه استثمار أكثر نفعا لشعبها .

ه – تعثر الاستدانة القديمة وإضاعتها لاستقلال البلاد تلقي بظلالها على الاستدانة الجديدة بما يكفي ليكون القلق مبررا والخوف مشروعا والحذر واجبا .

و – استجابة النخبة المتعلمة والمثقفة وذات الاهتمام بالشؤون الوطنية تحتاج إلى استدعاء وتحاور حتى تلتئم الخبرات التاريخية القديم منها والجديد بما يزود الوعي العام بآليات الفهم اللازم كشرط أولي لمواجهة مخاطر الاستدانة وما تطرحه من تحديات على الأجيال الحاضر وما تطرحه من التزامات على الأجيال المقبلة في ضوء الكيفيات التي تعاملت بها الأجيال السابقة مع التحديات والمخاطر والالتزامات التي ترتبت على الحكم المطلق، والتنمية المظهرية بعيدا عن الأولويات الوطنية، ثم ما ترتب على هذا وذاك من إفلاس ثم تدخل أجنبي ثم احتلال عسكري 1882 – 1956 م.

ى – علاوة على كل ما سبق فإن شهادة أستاذ وأديب وعالم ومفكر ورجل دولة عظيم في وزن الدكتور محمد حسين هيكل تستمد قيمتها وجدارتها من عدة اعتبارات:

أولها – شخصية صاحبها نفسه كواحد من جيل المؤسسين العظماء للفكر المصري الحديث فقد جمع بين القانون والاقتصاد والأدب والتاريخ والصحافة والتراجم وأجاد فيها جميعا.

ثانيها – أنه من النادرين الذين جمعوا بين التدريس والمحاماة والصحافة والسياسة فعمل أستاذا ومحاميا ورئيس تحرير ورئيس حزب ورئيس لمجلس الشيوخ ووزيرا للمعارف عدة مرات.

ثالثها – صحيح أن دراسته للدكتوراه “دين مصر العام” كتبت بالفرنسية ولم يتم نقلها إلى العربية إلا في تسعينيات القرن العشرين لكن تظل كتابتها في عام 1912 مؤشرا مهما ليس فقط على حيوية النخبة في النصف الأول من القرن العشرين، ولكنها كذلك مؤشر على عمق التكوين العلمي، مثلما هي مؤشر على مناخ الحرية في النصف الأول من القرن العشرين، وهو مالم يتيسر مثيل له في النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين، بل تضيق هوامش الحريات الأكاديمية والصحفية بمرور الزمن.

رابعها: أن الدراسة صدرت في ظل الحكام من سلالة محمد علي، فلا هي داهنتهم ولا جاملتهم ولا وضعت سلطتهم في الحسبان بما يؤثر على موضوعيتها وعلميتها، ثم الحكام من سلالة محمد على لم يمارسوا سلطتهم بما يمنع الدراسة أو يحجبها، رغم ما فيها من إدانة صريحة لنماذج التنمية والنهضة المصطنعة ليس فقط في عهد إسماعيل بل كذلك في عهد محمد علي .

الذي يجمع بين محمد علي وحفيده إسماعيل، أو بين إسماعيل وجده محمد علي، هو التفكير الإمبراطوري أو الحلم الإمبراطوري، مع اثنين من الفوارق الضخمة: ذكاء ودهاء ومكر واحتيال واحتياط عن الجد لم يتوفر مثله عند الحفيد، ثم اختلاف في الظرف التاريخي، فقد كان شرط الاستدانة في عهد محمد علي أن يحصل على موافقة من السلطان العثماني، وكان عند سلاطين آل عثمان من الشك والريبة في نوايا محمد علي ما يكفيهم لعدم الموافقة. هذا الشرط سقط في عهد إسماعيل بما أنفقه على السلاطين من هدايا وعلى بطانتهم من رشاوى، فحصل على حق الاقتراض، مثلما حصل على لقب خديو، مثلما جعل وراثة العرش في أكبر أنجاله شخصيا بعدما كانت للأكبر من سلالة محمد علي .

والأهم من هذا وذاك، أن الحفيد والجد لم ترد على خاطر ولا عقل ولا بال ولا ضمير أي منهما فكرة الرحمة بالشعب أو مراعاة الحد الأدنى من مقومات الحياة، كلاهما كان كل ما يشغله أن يبدو في أعين الأوربيين أوروبيا حتى لو أكل الشعب طينا.

– ماذا كان محمد علي يفعل حين يحتاج إلى قروض؟

– كان يلجأ إلى الاقتراض الداخلي الإجباري، كان يحسب قيمة ما يحتاجه من الأموال، ثم يقسمه إلى أنصبة، ثم يفرض على كبار التجار والأثرياء تقديم هذه الأنصبة، سواء كانت لديهم القدرة أو لم تكن، كان الجباة يفاجئون التجار والأثرياء في بيوتهم، وفي أيديهم أوامر الحاكم، ومن لا يدفع يُساق الى السجن، ثم يبقى في السجن حتى يدفع، وإذا لم تكف موارد التجار والأثرياء كان الجباة يذهبون إلى القرى لإجبارها على إقراض الحاكم قسرا وقهرا وجبرا، أفلس الكثيرون من التجار والأثرياء، وهرب الكثيرون من أهل القرى من بيوتهم وأراضيهم، ويقول هيكل “وهناك ما يدعو للاعتقاد بأن هذه الأساليب نفسها كانت تتبع كلما احتاج محمد علي إلى المال، لم يكن أمام الباشا وطموحاته العريضة من خيار إلا ذلك، بل ربما رأى ذلك ضروريا لخير البلاد، كانت الفكرة المسيطرة عليه هي أن يستزرع الحضارة الأوروبية في مصر، لكن هذا الحلم الجميل لم يطل مع الأسف، فأوروبا لا تحتمل رؤية هذا المشهد الرائع -يقصد الحضارة الغربية- في بلد غير أوروبي، فاتحدت وسحقت مصر ومحمد علي مرتين، الأولى في معركة نفارين، والثانية في اتفاقية لندن.

محمد على باشا
محمد على باشا

تملكت هذه الفكرة -استزراع الحضارة الأوروبية في مصر- حفيده إسماعيل، وقد اقترنت بها فكرة أخرى وهي الحصول على استقلال مصر كاملا عن السلطنة العثمانية، وكان يعرف أن من المستحيل تحقيق ذلك بالقوة المسلحة، لذا صمم على الحصول على الاستقلال خطوة خطوة بتقديم الهدايا والرشاوى والتنازلات، ووجد الطريق الى الاقتراض مفتوحا، فسارع إليه، وظل يعدو فيه إلى النهاية، وحتى يتمكن من سداد القروض كان لابد أن يلجأ الى الضرائب.

يشبه هيكل الخديو إسماعيل فيما يستدينه من قروض أجنبيه وما يفرضه من ضرائب محلية، بالملك الفرنسي لويس الرابع عشر 1638 – 1715 م، وذلك من زاوية أن كلا الحاكمين كان “يمتص دماء رعاياه دون تمييز ويعتصرهم إلى أقصى حد مستطاع”.

***

نواصل عرض شهادة هيكل على ضرائب وديون إسماعيل في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.