يصعب على مشاهدي فيلم “ريش” من قارئي الأدب ألا يتذكروا رواية فرانز كافكا القصيرة والعبقرية “المسخ”، والتي اشتهرت أيضا باسم “التحول”، حين يستيقظ الموظف البسيط والبائع المتجول “جريجور سامسا” ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة، وكما نرى في فيلم “ريش” بعد أكثر من مئة عام من صدور رواية كافكا، فإن الأمنيات والمحاولات تفشل في إعادة الرجل المتحول – إلى دجاجة في الفيلم وإلى حشرة في الرواية – إلى حالته البشرية، فيصير التكيّف مع الوضع الجديد والاستسلام لحقيقة فقدان عائل البيت، هو الأمر الواقع.
ويتفق العملان أيضا، رواية كافكا وفيلم عمر الزهيري، في حالة الارتياح التي يبعثها موت الرجل المتحول، إن الموت مأساة للرجل نفسه لكنه فرصة جديدة تمنحها الحياة للأسرة التي كان يعولها، للتخلص من العبء – بل والاشمئزاز – الذي يسببه وجود “مسخ” غير بشري في البيت، مسخ يحتل غرفة في منزل الرواية وفراش الزوجية في الفيلم، تلك السعادة وهذا الارتياح الذي يبدو على عائلة مسخ كافكا في رحلتها الصباحية في القطار بعد التخلص من المسخ، وكذلك على الأم – في فيلم ريش- التي تتمكن أخيرا من الجلوس بصحبة أطفالها لمشاهدة التلفاز ، تمثل المعنى النهائي لعملية المسخ: نزع طابع الضحية والتعاطف مع الممسوخ لأنه يصبح عبئا يصعب تحمله، سواء كان رجلا ذكوريا تقليديا يلغي شخصية زوجته ويغلق على “مصروف البيت” في علبة من الصفيح، كما هو الأب في فيلم “ريش”، أو حتى لو كان شابا فقيرا وموظفا مجتهدا محبا لعائلته راعيا لشقيقته كما في رواية “كافكا”.
يمكن أن نلاحظ في الفيلم تأثيرات عدة من الرواية التي ندر ألا يتأثر بها مبدع – أديب أو فنان – طوال القرن العشرين، لكن تلك التأثيرات، والتشابهات لا تأتي فحسب من التأثر الأدبي، بل كذلك من طبيعة الأعمال التي تنتهج الفانتازيا من باب “التحولات”، سواء كنا نتحدث عن ملاحم شعرية في التراث اليوناني/ الروماني، ألف ليلة وليلة في التراث العربي، أو حتى الأدب الحديث كـ “أنف” جوجول و”ثدي” فيليب روث، فإن بحثنا بين كل ذلك عن أهم التمايزات بين مسخ كافكا ودجاجة عمر الزهيري، فهي قد تكمن في أننا نكاد نقرأ الرواية من خلال عيني المتحول نفسه، الشاب جريجور، من خلال احساسه بالصدمة أولا، بعدم التصديق، وصولا إلى اليأس، بينما يبدو تلخيص فيلم الزهيري على أنه “قصة رجل تحول إلى دجاجة” تلخيصا غير دقيق، لأن الفيلم في الواقع هو قصة الزوجة، قصة معاناتها مع الرجل المتحول، وحياتها بعد تحوّله.
إن الممسوخ في فيلم “ريش” ليس بطلا للعمل على أي نحو، إنه أحد مفرداته فحسب، حتى أننا لا نعرف له اسما على عكس المتحول في رواية كافكا، لكن فيلم الزهيري يخلو على أية حال، وبصفة عامة من أسماء الشخصيات، بما فيها البطلة الحقيقية للفيلم، الزوجة التي لعبت دورها دميانة نصار، والتي رغم “بطولتها” تكاد تكون أقل الشخصيات تحدثا، بل أقلها تقديما لتعبيرات الوجه، إنها في حقيقة الأمـر، هي “الممسوخة” الحقيقية، بالقهر في حياة زوجها البشرية، ثم بقهر آخر بعد فقدان العائل واضطرارها للخروج لمواجهة الحياة، لإطعام أطفالها، وسدّ الديون التي تركها الزوج، وعلى الرغم من أن العبء صار يبدو مضاعفا، إلا أن أخذها بزمام أمورها في غياب زوج كان يسد عنها إمكانات الحياة، يجعلها للمرة الأولى “تتصرف”، وتبادر بفعل ما لم تكن تتخيل أنها يمكن أن تفعله، بكل العنف الذي تلقته بصمت عبر السنوات.