بينما تستعد الولايات المتحدة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، تضع طهران الأساس لسياسة خارجية حازمة جديدة، وتخطط لـ «صراع ديكة» محتمل قبل نهاية نوفمبر في فيينا. وهو أمر يعززه اعتقاد القيادة المحافظة الجديدة أن واشنطن خدعت الجمهورية الإسلامية في 2015. فيما بات من الضروري الآن التركيز على بناء نفوذ اقتصادي وعسكري ضد الخصم القديم. وحتى يسهل عليها إفراغ أي خطة عمل شاملة مشتركة جديدة من الضغوط المستقبلية.
الموقف النووي الجديد لإيران
وفق مقال نشرته «فورين أفيرز» للباحث محمد آيات الله طبر، زميل معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس، فإنه رغم استعداد إيران للمشاركة في المفاوضات، يبقى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لا يشكل ركيزة أساسية لسياستها الخارجية. ففي عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، طورت طهران موقفًا نوويًا جديدًا يتمحور حول مبدأين. أولهما: تعزيز قدرة إيران على الانتقام السريع من الولايات المتحدة، في حال تراجعت عن اتفاقياتها. وثانيهما فصل الثروات الاقتصادية الإيرانية عن خطة العمل الشاملة. ولم يكون ذلك إلا ببناء دولة تعتمد على نفسها، واقتصاد يركز على آسيا.
وترى الجمهورية الإسلامية عدم تناسق في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة. إذ أن التزامات إيران بالحد من أنشطتها النووية لها معايير فنية واضحة. كما يمكن التحقق من هذه الالتزامات من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومع ذلك، لا توجد صيغة تحدد الفوائد الاقتصادية التي ستحصل عليها إيران مقابل تخفيف العقوبات.
وعلى الرغم من أن طهران تواجه إعادة فرض سريعة للعقوبات إذا انسحبت من الاتفاق، فإن واشنطن لم تواجه أي عقوبة جدية عندما لم تلتزم بنهاية الصفقة. ونتيجة لذلك، تخشى إيران من أن تفقد نفوذها النووي دون الحصول على الفوائد الموعودة، إذا عادت للامتثال الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة.
الثقة الإيرانية الغائبة عن الالتزام الأمريكي بالاتفاق
هذا بالضبط ما حدث في عام 2015، عندما تم الإعلان عن الصفقة. قلصت إيران بسرعة برنامجها النووي وفقًا للاتفاقية، وشحنت 98% من اليورانيوم المخصب إلى الخارج. كما قبلت تعزيز مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن، لا تزال الشركات والمؤسسات المالية الدولية بعيدة إلى حد كبير عن السوق الإيرانية، بسبب عدم اليقين بشأن ما إذا كانت العقوبات قد رفعت بشكل دائم. وهو وضع تخشى إيران أن تعانيه مجددًا إذا ما عادت للامتثال الكامل ببنود الاتفاق. ومن ثم دعوة المزيد من الضغط الذي يلي تخليها عن ورقة المساومة النووية الخاصة بها.
قادة طهران المحافظون يشعرون بالإحباط من تحقيق فوائد يُفترض أن تُمنح لبلادهم من خلال خطة العمل المشتركة الشاملة
يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم على استعداد لمناقشة سُبل معالجة المخاوف الإيرانية. لكنهم لا يستطيعون ضمان عدم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية مرة أخرى بعد مغادرة الرئيس جو بايدن منصبه. ويبدو أن القادة البريطانيين والفرنسيين والألمان حاولوا تهدئة هذه المخاوف أيضًا. وذلك بالوقوف وراء الاتفاقية في بيان صدر مؤخرًا في قمة مجموعة العشرين. حيث ألزموا أنفسهم بدعم التزام بايدن بالحفاظ على الامتثال الكامل للاتفاقية «طالما أن إيران تفعل نفس الشيء».
هل تستسجيب إيران لضغوط الخطة «ب»؟
في واشنطن، يدعو البعض إلى تفعيل «خطة ب» للتدابير الاقتصادية القسرية والتهديد باستخدام القوة إذا رفضت طهران العودة إلى الامتثال الكامل للاتفاق النووي. ويبرر هذا الرأي ما يواجهه الرئيس الإيراني من مشاكل اقتصادية هائلة في الداخل، مع عواقب محتملة للانفجار على النظام. ما يمثل ضغطًا على الإدارة الإثرانية لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. بداعي أنها قد تخفف من الصعوبات الاقتصادية المحلية التي تعانيها الجمهورية الإسلامية.
لكن، من غير المرجح أن تستسلم إيران لمثل هذا الإكراه، وفق تقرير «فورين أفيرز»، الذي يرى كاتبه أن قادة طهران المحافظون يشعرون بالإحباط من تحقيق فوائد يُفترض أن تُمنح لبلادهم من خلال خطة العمل المشتركة الشاملة. وهم يسعون الآن إلى رعاية اقتصاد مقاوم للعقوبات. وذلك من خلال تعزيز صناعات إيران المحلية، وإقامة علاقات جديدة مع القوى الصاعدة في آسيا.
رئيسي مقتنع أيضًا بأن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بإبقاء إيران محاصرة، حتى لو تم إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. وبالتالي فهو يركز على تضخيم النفوذ العسكري والاقتصادي لإيران، لحماية ليس فقط الجمهورية الإسلامية ولكن الأمة الفارسية الشيعية الأوسع. وفي الحقيقة، فإنه على الرغم من زخم الحديث حول الخطة (ب) ضد إيران في واشنطن، ترى الجمهورية الإسلامية أن الخطة (ب) في الواقع هي الخطة (أ) منذ البداية.
محاور المقاومة الإيرانية في الشرق الأوسط
رسميًا، صُنفت عقوبات عهد ترامب بأنها قيود مفروضة بسبب سجل إيران السيئ في مجال حقوق الإنسان، ودعمها «للكيانات الإرهابية» من أجل منع الإدارة القادمة من الانضمام إلى الاتفاقية. وبالتالي، فإن المبدأ الأول لسياسة إيران الخارجية الآن هو توليد النفوذ والحفاظ عليه لمنع واشنطن من التراجع عن أي صفقة مقبلة. وذلك تفاديًا للتسبب مرة أخرى في صدمة اقتصادية تغرق ملايين الإيرانيين في الفقر.
وتشير الجمهورية الإسلامية بالفعل إلى استعدادها للرد الفوري على أي ضغط أو تخريب أو هجوم. على سبيل المثال، خفضت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية احتجاجًا على رفض المنظمة إدانة الاغتيال الأخير للعالم النووي محسن فخري زاده، والتخريب ضد المنشآت الخاضعة للمراقبة الإيرانية. وكلاهما يُزعم أن إسرائيل قامت به.
تركز إيران أيضًا على دعم حلفائها وعملائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فقبل ثلاثة أشهر من اغتياله على يد الولايات المتحدة، ذكر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي، أنه أنشأ ستة جيوش أيديولوجية وشعبية هائلة في جميع أنحاء الشرق الأوسط لحماية إيران من أي هجمات من قبل خصومها.
ووفقًا لقائد بارز في الحرس الثوري الإيراني كشف مؤخرًا عن تصريح سليماني، فإن هذه القوات تشمل حزب الله اللبناني – حركة حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني – الحوثيين اليمنيين – القوات السورية الموالية لإيران – قوات الحشد الشعبي العراقية. وهي معًا تشكل ما تسميه طهران «محور المقاومة». إذ أن إيران تتوقع مزيدًا من الضغط من الولايات المتحدة، مع أو بدون اتفاق، وهذه التحركات تشير إلى عزمها على الاستمرار في المسار.
فصل الاقتصاد عن نتائج مفاوضات النووي
المبدأ الثاني للإدارة الإيرانية هو فصل اقتصاد البلاد عن مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. فعلى الرغم من أن سلفه كان يأمل في استخدام خطة العمل الشاملة المشتركة كوسيلة لفتح سوق إيران الواسع أمام الشركات الغربية. إلا أن فريق رئيسي مصمم على عزل إيران من آثار العقوبات. وذلك من خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا وجيرانها.
وقد أعلنت الحكومة الجديدة أنها تخصص 40% من أنشطتها في السياسة الخارجية للدبلوماسية الاقتصادية والتجارة الخارجية. وهو خروج عن إدارة روحاني، التي وصفها المحافظون الحاكمون بأنها حولت وزارة الخارجية إلى وزارة خطة العمل الشاملة المشتركة.
أيضًا، تلتزم إدارة رئيسي بتعزيز قدرة الصناعات المحلية في البلاد. ويعتقد فريق الرئيس من المستشارين الاقتصاديين الشباب نسبيًا أنه استجابة للعقوبات، صعد رجال الأعمال الإيرانيون لتصنيع سلع عالية الجودة للأسواق المحلية. وهنا يبرز القلق من أنه إذا تم رفع العقوبات، قد تدفع الشركات الدولية الكبرى مرة أخرى المصنعين المحليين إلى التوقف عن العمل.
في مرسوم صدر مؤخرًا، حظر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي استيراد الأجهزة المنزلية من كوريا الجنوبية.
الاستفادة من نفوذ الحرس الثوري
بالإضافة إلى التحرك نحو اقتصاد مكتفٍ ذاتيًا، تتطلع إيران الآن إلى ممارسة نفوذ اقتصادي أكبر في الشرق الأوسط. لا سيما في تلك البلدان التي تتمتع فيها بالفعل بنفوذ سياسي.
سابقًا، نظرت إدارة روحاني إلى الأنشطة الإقليمية للحرس الثوري الإيراني على أنها لا تتماشى تمامًا مع المصالح الوطنية لإيران. لكن الإدارة الجديدة مصممة على إثبات أن القوة الإقليمية للحرس الثوري الإيراني توفر فوائد سياسية واقتصادية ملموسة. وتسعى الحكومة إلى الاستفادة من هذا النفوذ للحرس الثوري الإيراني من خلال «إضفاء الطابع المؤسسي على إنجازات محور المقاومة» في العراق ولبنان وسوريا وخارجها.
وعلى سبيل المثال، فقد ردت إيران على أزمة الطاقة المستمرة في لبنان، بإرسال عدة شحنات من منتجات الوقود عبر سوريا لتوزيعها عبر حليفها حزب الله. بالإضافة إلى الوعود بتقديم المزيد من الشحنات. كما اقترح وزير الخارجية أمير عبد اللهيان بناء محطتين لتوليد الكهرباء في لبنان في غضون 18 شهرًا. والتقى بالرئيس السوري بشار الأسد لمناقشة دور إيران في إعادة البناء الاقتصادي للدولة التي مزقتها الحرب.
ومع كل التحركات الجديدة في الشرق الأوسط، فإن إيران أكدت أن المحور الاقتصادي الجديد لإيران لا يعني «أننا ننحي الغرب جانبًا». وأشار وزير خارجيتها إلى اجتماعاته الأخيرة مع 18 وزير خارجية أوروبيًا خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن هذا لا ينفي أن إيران تربط مصيرها الاقتصادي بآسيا والشرق الأوسط، وفق تقرير «فورين أفيرز».
ختامًا، تستند استراتيجية الإدارة الإيرانية الجديدة على افتراض أساسي حول علاقة إيران بالولايات المتحدة. وهو أن الولايات المتحدة مصممة على إبقاء إيران تحت ضغط اقتصادي وعسكري. وبالتالي، حتى لو كان هناك اتفاق نووي، ستبحث واشنطن بلا شك عن طرق أخرى لإضعاف إيران وعزلها.
وفيما يزعم المسؤولون الإيرانيون أنهم على استعداد لمناقشة أي قضية شريطة أن توافق الولايات المتحدة على الانخراط في قضية واحدة في كل مرة. إلا أنهم لا يتوقعون أي استعداد من قبل واشنطن لقبول اتفاق من شأنه تعزيز الجمهورية الإسلامية. لذا فإن استراتيجية طهران هي مقاومة النفوذ الأمريكي في كل منعطف والرد على الإكراه بالإكراه. حتى في الوقت الذي تستعد فيه لاستئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، فإنها تمهد الطريق لجميع الاحتمالات. بما في ذلك الصراع مع الولايات المتحدة.