يبدو أن شمال سوريا يتهيأ حاليًا ليكون مسرحًا لمواجهات مرتقبة، قد تشهد تغييرات عسكرية بخريطة أطراف النفوذ. ذلك أن المنطقة المتجهة للتصعيد تمثل المعادلة المعقدة لدى أطراف النفوذ هناك، كما أنها ترتبط بملفات أخرى ومساومات بين تركيا وروسيا وإيران.
حملت الأيام الماضية رسائل عديدة من هذه الأطراف الدولية، على خلفية تهديد تركيا بشن هجوم ضد الأكراد في منطقة عين العرب (كوباني)، في حال وقع سيكون الهجوم الرابع الذي تشنه تركيا لطرد “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، التي تعتبر تركيا امتدادًا لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنفه أنقرة “منظمة إرهابية”. وذلك بعد عملية “درع الفرات” في عام 2016، و”غصن الزيتون” في عام 2018، و”نبع السلام” في 2019.
مهد التوتر.. أكبر من مجرد قذيفة
فتيل الأزمة، يتعلق بأعمال ميدانية، لكن دوافع الهجوم التركي المحتمل أبعد من مجرد مقتل شرطيين تركيين في سوريا في هجوم اتهمت فيه الأكراد. كما أنها ردَّت على هذه العملية بقصف مواقع الوحدات الكردية عبر الحدود.
وبينما ليس جديدًا أن تشهد مناطق الإدارة التركية في ريف حلب مثل هذه الهجمات، لكن تزامن عدة هجمات وتتابعها، يشير إلى أن ثمة عملية استفزاز مقصودة، ردت عليها أنقرة بتصويت البرلمان على السماح بنشر قوات في سوريا والعراق لمدة عامين آخرين.
التصريحات المتواترة تشير إلى أنّ أن روسيا هي من تقف وراء الهجوم خاصة أن قصف القوات التركية خرج من منطقة تنتشر فيها القوات الروسية، بجوار قوات النظام السوري. وهو ما يفسر التصعيد السياسي بين أنقرة وموسكو من جهة، ويؤجج الخلاف بين تركيا وأمريكا من جهة أخرى، بينما تلك الأطراف مختلفين بالأساس إزاء مناطق النفوذ بشمال سوريا.
وبغض النظر عن الدوافع العديدة لتصعيد محتمل، يشكك البعض في إمكانية إقدام تركيا على تلك الخطوة، باعتبار أن أي هجوم تركي من شأنه أن يدفع الجيش السورى لتنفيذ هجوم واسع على إدلب بدعم روسي، كما أن أية عملية بهذا الحجم تحتاج تنسيقًا مسبقًا مع واشنطن وموسكو، وهو أمر شبه مستحيل من الناحية العملية.
موقف معقد
بيد أن التعقيد سيد الموقف، على وقع لهجة تركية شديدة الصرامة هذه المرة، عندما قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن الهجمات الأخيرة “القشة التي قصمت ظهر البعير”، وعلى الفور عززت بلاده قواتها المعززة أيضًا بالأسلحة بهدف السيطرة على مناطق تمركز القوات الكردية، على رأسها “عين العرب وتل رفعت”.
جاء تلويح أردوغان بعملية عسكرية عندما قال: “الهجوم الأخير على قواتنا (في منطقة عملية درع الفرات) والتحرشات التي تستهدف أراضينا بلغت حدًا لا يحتمل”، وتابع: “نفد صبرنا تجاه بعض المناطق التي تعد مصدرًا للهجمات (الإرهابية) من سوريا تجاه بلادنا”، مشيرًا: “عازمون على القضاء على التهديدات التي مصدرها من هناك (شمال سوريا) إما عبر القوى الفاعلة هناك أو بإمكاناتنا الخاصة”.
هدفان لتركيا
ترك إردوغان مساحة للعودة، تفسر هدفين للرئيس التركي وراء “التصعيد الكلامي” الأخير، الأول يتمثل في محاولة حشد دعم داخلي يساعد شعبيته المتدهورة، والثاني ورقة ضغط على الأطراف الأخرى لاسيما روسيا وأمريكا، وفي الوقت نفسه يضمن تحجيمًا ولو مؤقتًا للقوات الكردية في سوريا.
هنا تريد تركيا من واشنطن وموسكو الوفاء بوعدهما الذي طالما رددته أنقرة، والذي يتمثل في إجبار الأكراد (قسد) على الانسحاب إلى مسافة 30 كيلومترًا على الأقل من الحدود التركية. وهو الانسحاب الذي يمثل هدفًا استراتيجيًا للأتراك على الأقل في الوقت الحالي. خاصة أنها تعلم مدى تعقيد مسألة الأكراد في علاقتها بواشنطن.
ويمكن أن تكون هذ تلك التحركات والتصريحات مجرد ضغوط روسية متزامنة بهدف إجبار تركيا على قبول شروط موسكو. وهنا سيكون أمام أنقرة إمّا المغامرة في ملف ملغّم من الاتجاهين أو التراجع أمام الضغط السوري.
دوافع التصعيد التركي المحتمل
ورغم ذلك يبدو أن ثمة دوافع حقيقة أمام التحرك التركي الأخير، أو التصعيد المحتمل، يجعل من حماس تركيا نحو شمال سوريا مقدم على عدة ملفات أخرى منخرطة فيها بالمنطقة.
ضغط روسي واختبار لتركيا
اختيار تركيا تنفيذ هجوم بشمال سوري، سيكون مدعوما بقلة حيلة أظهرتها تركيا مؤخرًا أمام استفزازات روسيا، وبالتالي فإن صمت أنقرة تجاه هذه الحركات الروسية يعني “هزيمة تكتيكية” وستدفع موسكو لممارسة مزيد من الضغوط لإفقادها مناطق نفوذ، خاصة بعد فشل قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسين التركي والروسي في 29 سبتمبر عن أي تقدم يذكر بالنسبة للطموحات التركية.
اقرأ أيضًا| “بي بي سي”: تركيا وروسيا تسعيان لاستنساخ صفقتهما بسوريا في ليبيا
ولا تزال روسيا مصممة على خروج تركيا من بعض النقاط العسكرية في الشمال في إدلب، ومؤخرًا ضغطت موسكو على تركيا من خلال 3 غارات جوية استهدفت محيط القاعدة العسكرية التركية في منطقة التويس بمحيط مارع في ريف حلب الشمالي، فور تهديد الرئيس التركي بالرد على الهجمات العسكرية المتوالية على قواته، في إشارة روسية قوية على محدودية الخيارات أمام تركيا.
تفكيك الدعم عن قوات “قسد”
المؤشرات تشي بأن تركيا تريد تنفيذ هجوم واسع يستهدف مناطق قوات “قسد” في تل رفعت ومنبج في حلب إلى جانب عين عيسى وتل تمر بريف الحسكة والمالكية، وذلك عبر تجهيز حزام أمني يزيد قوامه على 35 ألف مسلح، إلى جانب تعزيز وحدات المراقبة التركية تجاه الجبهات المضادة باستخدام الطائرات التركية غير المأهولة.
وتتركز أهمية منطقة تل رفعت كهدف بالنسبة للقوات التركية كونها نقطة اتصال مركزية بين مناطق سيطرة الوحدات الكردية، ولم تستطع السيطرة عليها خلال العمليات العسكرية التركية السابقة، كما أنها نقطة رئيسية في شن الهجمات العسكرية تجاه القوات التركية.
الضغط على واشنطن
تمثل علاقة واشنطن بالقوات الكردية في سوريا، واحدة من أبرز ملفات الخلاف مع تركيا. لذلك فإن تركيا تعي جيدًا أن أي مكاسب في شمال سوريا يعني مزيدا من الضغط على الإدارة الأمريكية المصممة على موقفها إزاء النطاق التركي هناك.
سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن واضحة إزاء السياسة التركية في سوريا، وهو ما اتضح من بيان أصدره في 7 أكتوبر بيان يندد باستمرارية الهجمات العسكرية في سوريا، وكونها تشكل خطرًا على المدنيين، وتهدد السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وكذلك الأمن القومي للولايات المتحدة، مؤكدًا: “الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية لشن هجوم عسكري على شمال شرقي سوريا، تقوّض الحملة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.. لهذا السبب، يجب أن تستمر حالة الطوارئ الوطنية المعلنة في الأمر التنفيذي (13894) فيما يتعلق بالوضع في سوريا”.
تقرأ أيضًا| القصف التركي شمالي سوريا.. لماذا يقف أردوغان على أطرافه قبل وصول بايدن؟
بعدها مباشرة تصاعدت التوترات بين واشنطن وأنقرة، مما دفع الأخيرة لاتهام أمريكا بمسئولية الهجمات التي شنت على القوات التركية في سوريا مؤخرًا، حيث أعلن وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو، إن “واشنطن تمدّ المقاتلين بالأسلحة”، كما هاجم أردوغان ممثل بايدن لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “بريت ماكغورك”، معلنا: “إنه حامي حمى الإرهاب والإرهابيين”، في إشارة إلى الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني.
عينٌ على إدلب
“لا تراجع عن إدلب” بهذه الكلمات أكدت الإدارة التركية مؤخرًا عدم تنازلها عن المكاسب التي حققتها على الساحة السورية. حيث تمثل سوريا بالنسبة لأردوغان نقطة انطلاق نحو توسيع نفوذه، وبالتالي استكمال هذا المشروع بحاجة لتعزيز الوجود ومنع عمليات الابتزاز. وحاولت أنقرة ترسيخ وجودها في سوريا من خلال الحضور العسكري، بالإضافة إلى نشر سلسلة من المراكز الثقافية التركية لتغيير هوية المناطق التي تقع تحت سيطرتها.
وتحت ذريعة ملاحقة الإرهابيين وحماية جنودها في مناطق تمركزها، تروج تركيا لتقدمها العسكري. ومن أجل ذلك، أعدت خطة شاملة من خلال تعزيز القوات بزيادة عدد الجنود، وأنواع مختلفة من الأسلحة تشمل دبابات ومدرعات ومعدات لوجستية، لرفع الجاهزية العسكرية على محاور الاشتباك.
إنقاذ شعبية أردوغان
إظهار القوة التركية في مقابل الاستفزاز الروسي والأمريكي، بات الورقة الوحيدة لإنقاذ شعبية إردوغان المتداعية. وذلك في ظل ضغط العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا، وكذلك التدهور الاقتصادي وتراجع قيمة الليرة. وبالتالي ثمة رغبة في تحقيق مكاسب شعبية للتمهيد لبقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة.
تحرك عربي مقلق لتركيا
عودة سوريا للمظلة العربية بنظامها الحالي، يعني توجيه ضربة قاسمة للنظام التركي، الذي استثمر كثيرًا في الشقاق العربي لبشار الأسد. وتعكس بعض المؤشرات خلال الفترة الأخيرة إمكانية عودة سوريا إلى المظلة العربية. حيث صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، بأنّ سوريا “قد تعود إلى الجامعة خلال القمة المقبلة في حالة حدوث توافق عربي على مشروع القرار”. وذلك نتيجة تحركات عربية من جانب عدد من الدول على رأسها الجزائر والعراق والأردن.
الخطوات العربية الأخيرة تشير إلى مراجعة الموقف المتخذ حيال الملف السوري. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله طوق عن استكمال تعزيز جهود التعاون الاقتصادي مع الحكومة السورية في ظل جهود خطة إعادة إعمار سوريا. كذلك تم تضمين دمشق في اتفاقية تمرير الغاز والكهرباء من مصر والأردن عبر أراضيها في سبتمبر.
اقرأ أيضًا| من أجل عودة دمشق ومصالح التجار.. الإمارات تجدد رغبتها في عودة سوريا للجامعة العربية
كما جاء التأييد المصري لعودة سوريا إلى المنظومة العربية أثناء لقاء وزير الخارجية سامح شكري بنظيره السوري فيصل المقداد في سبتمبر للمرة الأولى. كذلك افتتحت الإمارات والبحرين سفارتيهما في دمشق في ديسمبر 2018. وتعهدت الكويت بإعادة فتح سفارتها في دمشق. وشاركت الأردن بالدور الأكبر في جهود إعادة سوريا، حيث أعدت خطة بمشاركة إقليمية لاستعادة السيادة والوحدة في الأراضي السورية. كما كانت من الدول الأولى التي بادرت بفتح سفارتها في دمشق.
وتبعث هذه الخطوات دلالات خطيرة بالنسبة للطموحات التركية التي استغلت الفراغ العربي في المسألة السورية. ومن المرجح أن تعمل هذه التحركات على تقليص الدور التركي بالتزامن مع العودة السورية إلى الجامعة العربية.
تحديات رادعة
لكن إزاء هذه التحركات، ثمة تحديات تحول دون إتمام تركيا مخططها التصعيدي. باعتبار أن أي تهور يستفز خصومها يعني مزيدًا من الخسائر. وهو ما يشير إلى أن ما يدور يمكن اعتباره نذر حرب تلوّح بها الأطراف للضغط على الخصوم.
العقاب الأمريكي
لا يمكن تصور أن تمر عملية عسكرية لتركيا مرة أخرى أمام أعين واشنطن دون رد. وإذا ما توقعنا ردًا أمريكيًا في ظل أزمات تحيط بتركيا، على عدة مستويات وملفات، فهذا يعني أنها ستفكر ألف مرة قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة. لذلك يعتبر الموقف الأمريكي الحاد تجاه أردوغان باعثًا رئيسيًا لتركيا في إعادة التفكير في أي هجوم عسكري ضد قوات سورية الديمقراطية المدعومة واشنطن.
أوراق العقاب الأمريكية متعددة؛ فعلى سبيل المثال تعهد بايدن بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن. وكذلك الضغط فور عقد الصفقة التركية الروسية إس-400، وهو ما دفع الولايات المتحدة لإلغاء تسليم تركيا المقاتلة الأمريكية من طراز F-35. إلى جانب التفاهمات التي تربط الولايات المتحدة وروسيا فيما يخص القوات العسكرية في سوريا.
الرد الأوروبي
لن تسمح دول أوروبا بعمليات عسكرية تركية جديدة في صمت. وعقب العملية التركية الأخيرة “نبع السلام”، أدان الاتحاد الأوروبي التصرفات التركية. حيث قال إن هذه الهجمات لها تأثير مباشر على أمن الدول الأوروبية فيما يتعلق بملفي الهجرة والإرهاب. ومؤخرا دعا حزب العمال الكردستاني الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لوقف التهديدات التركية. ويعتبر الاتحاد الأوروبي الوجود العسكري في سوريا بمثابة احتلال. فيما طالب البرلمان الأوروبي تركيا مرارًا بالانسحاب من الأراضي السورية، بما قد يضع تركيا تحت وطأة مزيد من العقوبات.
موقف المعارضة التركية
يواجه أردوغان ضغطًا شديدًا من جانب المعارضة. حيث صوّت حزب الشعب الجمهوري برفض قرار تمديد العمليات التركية في سوريا والعراق. من أجل وقف استنزاف الجنود في حروب لا طائل منها. بالإضافة إلى الانتقادات الشعبية فيما يخص مماطلة الإدارة التركية في نقل اللاجئين السوريين إلى المنطقة العازلة المحددة بطول 145 كيلومترا وعمق 30 كيلومترا شرقي الفرات. بما يشكك في مصداقية النظام أمام الرأي العام.
ملفات إقليمية
يد تركيا مغلولة بملفات أخرى إقليمية متحكمة فيها روسيا والولايات المتحدة. فمع موسكو لا يقتصر الخلاف التركي على الملف السوري فقط، بل في ملفات عديدة، من بينها ملفي القرم وليبيا. والأخيرة تمثل مصدر إزعاج كبيرا لتركيا في حال أرادت روسيا إفساد الدور التركي هناك. فضلا عن تداخل الملفات الإقليمية لاسيما بأذربيجان التي تشهد حضورا إيرانيا رئيسيا.