كان الربيع العربي سببًا في البحث حول حالة اللامساواة كمصدر لعدم الرضا الذي عبَّرت عنه الشعوب في حراكها المستمر. ومنها بحثت مؤسسات دولية وإقليمية في تلك المسألة على المستوى الوطني. لكنها اعترفت في الوقت نفسه بأنّ الاضطرابات ليست محكومة بهذا الوضع فقط.
مركز “مختبر اللامساواة في العالم” أصدر منذ فترة دراسته حول مستوى تفاوت الدخول والثروات بين شعوب الشرق الأوسط. وانطلق من فرضية أن تلك الحالة من اللامساواة، قد تكون سببًا رئيسًا في حالة السخط التي تنتشر بين تلك الشعوب.
وبحسب المركز، فإن الشرق الأوسط في العقود الأخيرة كان مسرحًا لأحداث مأساوية، حروب وغزوات وثورات؛ لإعادة رسم الخريطة السياسية الإقليمية. ما يجعل من الطبيعي أن نتساءل عما إذا كان هذا المستوى المرتفع من عدم الاستقرار السياسي مرتبط بالبنية المحددة ومستوى عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
لكنه لفت في الوقت نفسه إلى أن الأدلة المتوفرة حول عدم المساواة بالشرق الأوسط ومقارنتها بمناطق العالم الأخرى نادرة نسبيًا. وذلك نظرًا لغياب عوامل الشفافية، غير أنه يشيرإلى أن خطر اللامساواة قد يمتد من الوضع الوطني المحلي، إلى الإقليمي. ودلل على ذلك بغزو العراق للكويت.
وأظهرت الدراسة التي أجراها المختبر للمرة الأولى كل البيانات المتاحة عن الدخول والثروات في 15 بلداً بالمنطقة. بدءًا من مصر وصولاً إلى إيران، ومرورًا ببلدان الخليج وحتى تركيا. وقامت بدمج البيانات لتضع أرقامًا تقريبية تخص اللامساواة في المداخيل بالشرق الأوسط في الفترة من عام 1990 إلى 2016.
أرقام اللامساواة في الشرق الأوسط
كانت النتائج بمثابة ناقوس خطر، فعلى سبيل يمتلك 10% من أصحاب الدخل حوالي 64% من مجموع الدخل بالمنطقة. بينما تظهر الأرقام أن النسبة نفسها من الأفراد في أوروبا الغربية يملكون 37%، و47% في الولايات المتحدة. وعليه فإن الأرقام تنسب النسبة الأعلى من اللامساواة في العالم إلى منطقة الشرق الأوسط. وذلك بعكس الدراسات السابقة التي كانت لا تعول على هذا الأمر، وتقلل من حدوده.
الملاحظ أن نسبة الـ 10% التي تتصدّر قائمة الأشخاص الأكثر ثراءً في الدخل تفوق بـ6 أضعاف مجموع الدخل الخاص بـ50% من السكان الذين هم في أسفل هرم الدخل. ويظهر هذا التفاوت الضخم في الطبقة المتوسطة التي تقع في منتصف توزيع الدخول. وتبلغ حصتها أدنى بكثير من حصة الـ10% الأعلى، إذ إنها أقل بـ20 إلى 30%. وهذا بخلاف أوروبا أو الولايات المتحدة، حيث حصلت الطبقة الوسطى على حصّة من المداخيل أكبر من أو مساوية تقريباً للحصة التي حصلت عليها نسبة الـ10% الأكثر ثراءً خلال الفترة نفسها.
مقارنة مستويات الدخول
وفي أسفل الهرم يقبع ما يمثل نصف عدد أصحاب الدخول. والذين لا يحصلون سوى على 9% فقط من مجموع الدخول في الشرق الأوسط، مقارنةً بـ18% في أوروبا. أما مستويات أصحاب الدخل في أرجاء العالم، فكانت نسبة الـ10%، و1% اللتان تتصدران قائمة الدخول في الشرق الأوسط مشابهة عموماً للمستويات لدى نظرائها في البلدان ذات الدخول المرتفعة. مثل بلدان أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، تحصل نسبة الـ50% الأكثر فقراً على دخول أقل بكثير.
وفي هذا الشأن عزا تقرير لمركز “كارنيجي”، اللامساواة الشديدة في المنطقة إلى الفوارق الهائلة في الدخول بين البلدان الغنية بالنفط والبلدان ذات الأعداد الكبيرة من السكان. فعلى سبيل المثال، كانت دول الخليج تمثّل في العام 2016، نسبة 15% فقط من مجموع السكان في المنطقة. لكنها حصلت على نحو نصف مجموع الدخول الإقليمية.
وبحسب التقرير، فإن أغلب الظن أن مستوى عدم المساواة مرتفع في كل واحد من البلدان. حتى لو كان من الصعب حالياً الحصول على تقديرات دقيقة بسبب نقص البيانات، والبلد الوحيد في المنطقة الذي تتوافر أرقام موثوقة عن اللامساواة فيه هو لبنان.
اللامساواة ليست التفسير الوحيد
وبحسب تقرير اللامساواة: “لا يمكن الادعاء بأن هذا المستوى المرتفع من عدم المساواة هو التفسير الوحيد لعدم الاستقرار السياسي الإقليمي. فهناك عوامل أخرى، دينية وتاريخية وثقافية وسياسية، تلعب بالتأكيد دورًا مهمًا أيضًا. لكننا نعتقد أن عدم المساواة يمكن أن يكون جزءًا من التفسير. أو على الأقل أنه ينتمي إلى مجموعة من العوامل الخلفية التي تساهم في توليد الاضطرابات السياسية”.
دعوى الخصوصية
الخصوصية التاريخية والدينية كسبب للاضطراب من عدمه أمر قد يصل إلى حد القولبة والاستسهال من قبل الدراسات الغربية. وذلك في رأي الباحث والصحفي هشام جعفر، الذي يرى أن العقد الماضي أثبت أن المنطقة تتحرك كجزء من العالم. وأن شعوبها التي تتوق لقيم الحرية، والعدالة لا يمكن جعلها أسيرة لحالة تاريخية بعينها.
في الوقت نفسه، يرى جعفر أنّ اللامساواة ليست بالضرورة دافعًا للاحتجاجات؛ فقد تستمر لفترات طويلة دون تحرك شعبي حقيقي. وأن المسألة تتعلق بمجموعة من الظروف المتراكمة قد يتدخل في أحدها عامل اللامساواة.
الخصوصية التاريخية والدينية كسببٍ للاضطراب من عدمه أمر قد يصل إلى حد القولبة والاستسهال من قبل الدراسات الغربية
وحول مسببات الحراك، والاضطرابات، يوضح جعفر أن السر يكمن في الإنسان، وهو اللغز الذي لم تدركه الدوريات والأبحاث الإقليمية، والغربية. فقبل هذا العقد لم تتوقع أيّ من التقارير ما جرى ويجرى.
الإنسان صاحب القرار
“الإنسان السر” في رأي جعفر وهو الذي تتراكم عليه ظروف اجتماعية، واقتصادية مختلفة. لكنه يستشعر هذا الظلم في لحظة بعينها، فالفيصل دائمًا هو استشعار هذه المواطن، وقراره بالتحرك. لذلك فالمسألة ليست حسابية بقدر ما هي إنسانية.
كما أن عوامل العولمة، وثورة الاتصالات خلقت جيلاً من الشباب لا يعرف للحدود أو المسافات معنى، ليصبح الأمر بمثابة عدوى. قد تنتقل من شارع “وول ستريت” إلى بغداد أو القاهرة في وقت قصير.
هؤلاء الشباب، بحسب جعفر، يملكون الكثير من الدوافع والقيم التي تتجاوز المسألة الاقتصادية وحدها على الرغم من أهميتها البالغة الأثر. وهو ما ظهر في شعاراتهم مثل الحرية، والعدالة، أو حتى طرح مسألة الثقة في المؤسسات المنظمة لعمل الدولة.
وفي المسألة الاقتصادية، يلفت جعفر إلى مستويات الفساد المرتفعة التي تتسبب في الكثير من السخط، والغضب، وتطرح سؤال التغيير كحل.
اللامساواة ليست العامل الوحيد في تحرك الشعوب، غير أنها أحد المسببات. في الوقت نفسه يفضل سلامة إطلاق مصطلح التمييز على ما يجرى بديلاً عن مصطلح اللامساواة
أما الخبير الاقتصادي الدكتور رائد سلامة، فيرى أن حديث الخصوصية الدينية التاريخية تحديدًا خطاب صدّرته الجماعات المتطرفة وليس الغرب. وذلك كنوعٍ من استباق وجلب الرهبة على أي محاولات للبحث في المسألة الشرقية، أو التدخل فيها. ولفت إلى أن المنطقة جزء من عالم يحترم التنوع، ولا يجب أن تكون المعايير الإنسانية المتعارف عليها عرضة للاختيار. أو الرفض بدعوى الخصوصية.
ولكنه اتفق مع جعفر في أنَّ اللامساواة ليست العامل الوحيد في تحرك الشعوب، غير أنها أحد المسببات. في الوقت نفسه يفضل سلامة إطلاق مصطلح التمييز على ما يجرى بديلاً عن مصطلح اللامساواة.
تمييز وليس عدم مساواة
يعتقد سلامة أنّ التمييز على أساس الجنس والعرق والدين هو المظلة الكبرى التي انطوت تحتها اللامساواة، أو التي تسببت فيها. ومنها نستطيع أن نقول إن المسألة الاقتصادية إحدى الأدوات التي يتم من خلالها ممارسة هذا التمييز.
يلفت سلامة أيضًا إلى أن التمييز في مجتمعاتنا ضارب في الجذور بفعل الموروث الشعبي، الذي يتماهى مع الفكر الماضوي. وهو ما يجعل أثره بالغ السوء، كما أن إغفاله في مسألة اللامساواة يجعل أي تحليل جدي لملامح المنطقة قاصرًا.
من جانب آخر، عزا سلامة عدم استقرار المنطقة إلى أدوات الاستعمار الذي لم يخرج بعد من المنطقة. ويستغل موارده أسوأ استغلال عن طريق وسائله الجديدة، التي منها صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال.
كما أن رجاله وحلفاءه الحاكمين والمتحكمين في المنطقة أيضًا يساهمون في تنفيذ رغباته. فالاستعمار لم ينته بعد، وآثاره لازالت تسيطر على المشهد، وتمنعنا من تحقيق الاستقرار المأمول. وإلى الاستعمار ورجاله أرجع سلامة الاضطرابات بين دول الإقليم.
الخليج وسياسة إرضاء المواطن
يفسر سلامة أيضًا قلة القلاقل والاحتجاجات في دول الخليج، رغم التفاوت الظاهر في الدخول على المستوى الداخلي، بسياسة يتبعها حكامه. وهي منح المواطن الحد الأدنى من الحياة الإنسانية، وأساسياتها التي تتمثل في التعليم، والصحة وخلافه، بعكس دول شمال المتوسط، على سبيل المثال.
ومع ذلك؛ يتنبأ سلامة بعدم استمرار هذا الاستقرار الهشّ طويلاً، خاصة بعد الخسائر في حرب اليمن على سبيل المثال. أو أزمة كورونا التي أثرت على البعض، مما دعا بعض هذه الدول لتحميل مواطنيها عبئًا ضريبيًا لم يعتادوا عليه. ولكن سلامة يعوّل على أسعار النفط الآخذة في الارتفاع لإنقاذ الموقف، وتأجيل الاضطراب المتوقع.