قضية الخلاف بين الإصلاحيين والثوار أعمق من تاريخ تجارب الثورات العربية، فكثيرا ما شهد العالم خلافات بين رؤيتين للتغيير: أحدهما تنطلق من أفكار ثورية تدعوا للتغيير الجذري للنظام القائم، والثانية تدعو للإصلاح ليس فقط النظام للقائم إنما دفع المجتمع نحو تبني تغيير إصلاحي متدرج يفضي في النهاية إلى بناء نظام جديد.
صحيح إنه مع ثورة تونس ثم ثورة يناير في مصر، وثورة يونيو في السودان أخذت المفردات الثورية مساحة كبيرة من التأثير وسيطرت في بعض الفترات على المجال السياسي وعلى شعارات قطاع واسع من الناس حتى تحولت إلى عبأ يعيق أي تغيير حقيقي لانفصال شعاراتها عن الواقع المعاش.
ومع ذلك هل يمكن قبول مصطلح “الثورات الإصلاحية”؟ وهل هناك ثورة يمكن أن تكون “إصلاحية” لأنها يفترض أن تكون بحكم التعريف عمل جذري يهدم نظام قديم ويؤسس لآخر “ثوري” جديد؟
والحقيقة إنه لن يكتب لأي ثورة أو انتفاضة شعبية معاصرة النجاح إلا لو تبنت مشروعا إصلاحيا ولا أمل في نجاح أي ثورة شعبية إذا تبنت شرعية ثورية تحصن القائمين عليها باسم الثورة وتواجه خصومها ومؤيديها (إذا خرجوا عن الخط الرسمي) باسم الثورة، وتبني منظومة كاملة لقهر الناس وقمعهم باسم الثورة.
صحيح أن العالم شهد تجارب لأربع ثورات كبرى في التاريخ الإنساني الحديث يمكن وصفها أنها بنيت نظامها الجديد على أسس ثورية وهي الثورة الفرنسية (1789) والثورة الشيوعية في روسيا (1917) وفي الصين (1949) وأخيرا الثورة الإيرانية (1979) وحملت صفات لم تعرفها كل تجارب التغيير التي شهدها العالم في النصف قرن الأخير عبر انتفاضات أو ثورات شعبية، وتجعل تبني آليات عمل هذه الثورات أو بريقها على واقع مخالف تماما تعيشه المجتمعات الآن عنصر أساسي من عناصر فشلها.
والحقيقة أن هناك أربع متغيرات رئيسية تجعل شرط نجاح أي ثورة معاصرة مرتبط بنجاعة خياراتها الإصلاحية وهي:
المتغير الأول يتعلق بالنظريات الثورية، نعم توجد نظريات ثورية كثير منها خرج من الماركسية والمدارس الشيوعية، ألهمت مئات الآلاف من البشر لتأسيس تنظيمات ثورية كان هدفها إسقاط النظم المستبدة، وتخليص المجتمع من مظالم كثيرة وبناء نظام جديد يتم هندسته وفق عقيدة ثورية.
والحقيقة أن تجارب التنظيمات الثورية في السلطة لم تبن تجربة ديمقراطية واحدة، بل في كثير من التجارب أسست لنظم فشلت في التنمية الاقتصادية والسياسية على السواء، صحيح أن بلد كالصين مثل استثناء واضح من هذه التجارب حيث نجح التنظيم الثوري الشيوعي أن يؤسس ليس فقط لدولة متقدمة إنما قوة عظمي حتى لو غاب عنها الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية، أما باقي التجارب فقد عرفت إخفاقات هائلة، والتجارب المعاصرة التي نجحت تبنيت على أسس مختلفة تماما.
المتغير الثاني هو رهن الفعل الثوري المكتمل بإسقاط الدولة ومؤسساتها، بهدف بناء دولة جديدة ثورية، نعم حدث ذلك في روسيا والصين وبدرجة كبيرة في إيران ولكنه لم يحدث في كل تجارب التغيير الناجحة في النصف قرن الأخير من اليونان واسبابنا والبرتغال مرورا بأوروبا الشرقية وانتهاء بالديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية، فلا توجد تجربة حققت أي نجاح بإسقاط مؤسسات الدولة، ولنا في تجربه ليبيا “أسوة غير حسنة”، فنظام القذافي الثوري (بقي 42 عاما في السلطة) يتحمل المسؤولية في بناء مؤسسات دولة أيديولوجية وثورية ومجرد امتداد للنظام القائم، ولذا حين أسقطت الثورة في فبراير 2011 النظام سقطت معه الدولة ولازالت ليبيا تعاني من ويلات هذا الوضع حتى الآن.
يقينا سقوط الدولة كارثة وتقديسها على حساب الشعب كارثة أكبر، ومهمة أي ثورة أو انتفاضة تغيير حقيقية هي إصلاح مؤسسات الدولة بمشاركه العاملين فيها وتطمينهم بأن الإصلاح لا يستهدفهم إنما هو لصالحهم كما هو لصالح باقي افراد الشعب، وهو ليس فعل انتقامي كما يفعل البعض مع الجيش في السودان، أو كما فعل البعض الآخر في مصر مع الشرطة.
أما المتغير الثالث هو في التعامل مع الثورة باعتبارها وسيلة وحدثا استثنائيا، فهي ليست هدفا ولا غاية إنما هي وسيلة لتحقيق هدف آخر هو تقدم ونهضة المجتمع، وأن تجارب النظم السياسية التي قالت إنها تؤسس نظام ثوري كانت مجرد ستار لتكريس نظم استبدادية تحت مسمي الشرعية الثورية والقرارات الثورية والحفاظ على الثورة من أعدائها.
والحقيقة أن المجتمعات التي لم يشعر قادة الثورات فيها أن على رأسهم ريشة لأنهم “ثوار” وأسسوا لنظم ديمقراطية فاعله وكفئة هي التي نجحت، في حين أن تجارب الفشل الذريع هي التي أسست لشرعية ثورية ومحاكم ثورية وإجراءات استثنائية، فهناك فارق جذري بين قوى وتيارات تؤمن بقيم ومبادئ الثورة في العدل والديمقراطية والتقدم، وبين قوى وتيارات توظف الثورة حسب الطلب والمصلحة فتتخلى عنها حين تكون مصلحتها مع الديمقراطية ودولة القانون وتستدعيها حين تكون طريقا للهيمنة والاحتكار.
إن أي حديث عن الشرعية الثورية وحماية الثورة بعد الوصول للسلطة هو توظيف للأولى لحماية الأخيرة، ولا يمكن مثلا تحصين قرارات أي تيار أو فصيل سياسي بحجة أنه ثوري أو متدين أو وطني فالنتيجة ستكون حتما وبالا على الجميع.
أما المتغير الرابع والأخير فهو في كيفية التعامل مع مكونات النظام القديم، فقد تصور البعض أن الحل هو في إقصاء كامل أو إعدام كل عناصر النظام القديم (الفلول) وكثيرا ما سمعنا في مصر عقب ثورة يناير كيف أن الثورة تسامحت مع الفلول ولم تعلق المشانق وتنشر المحاكمات الثورية، كما أن كثير من الثوار في السودان لازال يعتبر أن هدفه هو محاربة الفلول لا بناء نظام جديد يستبعد من خلال كفاءه ونزاهة مؤسساته الجديدة كل الانتهازيين والفاسدين سواء كانوا فلولا أم لا.
صحيح أن جرائم الدم والقتل والإفساد لا يمكن التغاضي عنها، وأن مفاهيم العدالة الانتقالية وبناء دولة القانون هي هدف أي تغيير معاصر، والوصول لتفاهمات مع ملايين ممن كانوا جزءا من النظام القديم من أجل ألا يشكلوا عائق أمام بناء المنظومة الجديدة التي ستكون مهمتها أن تخرج من الجميع أفضل ما فيهم من كفاءه وجهد واحترام للقانون.
لن يكتب لتجربة تغيير واحدة النجاح إلا إذا أقر من قاموا بها أنهم جزء من المجتمع وليسوا كل المجتمع وأن مهمتهم إصلاح مؤسسات الدولة بمشاركة العاملين فيها، لأنه بدون إصلاح مؤسسي سيعاد إنتاج النظام القديم في قالب جديد بشعارات ثورية تارة أو دينية تارة أخري أو وطنية وقومية تارة ثالثة وسينطبق عليها الشعار “ياريتك يا أبوزيد ماغزيت” وبقيت في ظل النظام القديم.