“لسه في مشوار طويل”.. تقول سارة إنها قررت البوح، فالصمت مؤذٍ أكثر من الجروح والكسور الجسدية التي تركها عنف أسري منذ سنوات. تزور الفتاة العشرينية المستشفى لمتابعة حالتها العلاجية وهي مسيَّرة على كرسي متحرك، حيث تخصع لعمليات جراحية، ومن ثمّ تأهيل بدني. لكن كل عمليات الإصلاح الطبي للجسد لا يداوي مشاعر مكسورة لدى الفتاة التي ينهار مستقبلها أمام عينيها. تلك واحدة من حالات العنف ضد المرأة.

سارة.. هروب إلى مأساة

بداية القصة، قبل سنوات وتحديدًا وهي في عمر الـ16 عامًا، عاشت سارة طارق حياة مأسوية. تعرضت خلالها لاعتداء بالضرب والتهديد بالقتل من والدها، وبعد تعذيبها لمدة 3 أيام متواصلة، قررت الهروب من المنزل. وذلك عن طريق النزول باستخدام حبلٍ من شرفة غرفتها في طابق الرابع، فتسقط وتجد نفسها طريحة الفراش، ولا تستطيع السير على قدمها.

كسر بالعمود الفقري والحوض والقدمين، وبعد مرور 5 سنوات على الواقعة، مازالت الفتاة لم تتخرج في جامعتها. كما أن رحلة العلاج غير محددة النهاية، فهذه ليست المرة الأخيرة التي تخضع فيها سارة لعملية جراحية، ترمم آثار عنف جسديّ مارسه والدها عليها.

داخل علاقات أسرية قائمة على السلطة الأبوية والقهر الإنساني، تقف المرأة وحيدة مطالبة بدفع الثمن، وباسم الترابط الأسري والاجتماعي، رفعت القوانين والتشريعات والمجتمع يدها عن مختلف جرائم العنف التي تقع في نطاقه، بل بلغ بإضفاء الشرعية عليها.

المدافعات عن حقوق المرأة طالبوا بتشريعات تجرم العنف الأسري ضدهن
المدافعات عن حقوق المرأة طالبوا بتشريعات تجرم العنف الأسري ضدهن

مخاطر صحية إضافية

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية أن واحدة من كل 3 نساء (30%) في أنحاء العالم، تتعرض في حياتها للعنف البدني و/أو العنف الجنسي داخل الأسرة. كما أن 38% من هذه النسبة تنتهي بجريمة قتل النساء. لكن المفارقة أن 6% فقط من العنف الذي تتلقاه النساء في العموم يكون مصدر “شخص غريب”.

العنف الأسري ضد المرأة يؤثر سلبياً على صحة المرأة البدنية والنفسية والجنسية وصحتها الإنجابية، ويؤدي ازيادة خطورة الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري (منظمة الصحة العالمية)

لذلك تقول المنظمة إن العنف الأسري ضد المرأة يمثّل مشكلة صحية كبيرة مستديمة. هذا فصلاً عن كونها تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان التي تتمتع بها المرأة. المنظمة تشير إلى آثار أبعد من الآثار المباشرة التي يتركها العنف ضد النساء. باعتبار أن ذلك يؤثر سلبياً على صحة المرأة البدنية والنفسية والجنسية وصحتها الإنجابية. كما يتسبب هذا العنف أيضًا في زيادة خطورة الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري في بعض الأماكن.

وتقول منظمة الصحة العالمية إن عمليات الإغلاق جراء جائحة كورونا، والآثار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليها، أدت إلى ارتفاع معدلات تعرض النساء للإيذاء. لذلك تدعو إلى ضرورة قيام قطاع الصحة بدور هام لتزويد المرأة المعرضة للعنف بالرعاية الصحية الشاملة.

إعلان 1993‏

ووفق إعلان القضاء على العنف ضد النساء لعام 1993، تعرّف الأمم المتحدة العنف ضد المرأة بأنه “أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحيـة الجسمانية أو الجنسية أو النفسية. بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية. سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”.

وتحدد المادة الثالثة من الإعلان “للمرأة الحق في التمتع، على قدم المساواة مع الرجل، بكل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وذلك في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو أي ميدان آخر ومن بين هذه الحقوق”. كما يقول الإعلان إن الدول مطالبة بإدانة العنف ضد المرأة. وألاّ تتذرع بأي عرف أو تقليد أو اعتبارات دينية بالتنصل من التزامها بالقضاء به.

قرارات “حفظ الروابط الأسرية”

تقول المحامية انتصار السعيد إنّ مصر لديها إشكالية إزاء حالات العنف الأسري، حيث تنتهي دائمًا بالحفظ في حالة التقدم ببلاغ. وذلك استنادًا إلى “حفظ الروابط الأسرية”.

وتنص المادة 60 من قانون العقوبات على أنه: “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة”. لذلك أباح النص لولي الأمر استخدام الحق في التأديب طالما لا يخالف الشريعة، وفقا للسعيد. وتضيف المحامية أن النص به تمييز واضح ضد النساء، وهناك مطالبات عديدة لتعديله، ووضع قانون موحد لتجريم العنف.

العنف الأسري ضد المرأة
العنف الأسري ضد المرأة

قانون موحد لتجريم العنف ضد المرأة

رغم أن السنوات السابقة شهدت مبادرات فردية لمنظمات وجمعيات وأفراد حاولوا الخوض في واقع العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالأسرة. والتصدي لما تصادفه المرأة من عنف؛ فإن هذه الجهود لم تصل إلى أبعد من تسليط الضوء على هذه الظاهرة. وذلك بمناحيها المختلفة القانونية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصحية.

عدد من النائبات تقدمنّ للبرلمان السابق بمقترح قانون العنف الموحد ضد النساء، والذي أعدته منظمات مجتمع المدني. ولكن المقترح لم يتم تحريكه حتى الآن.  وجاء مشروع القانون الموحد في 7 أبواب، وقدم صياغة واضحة ومحددة لمفاهيم العنف للوصول إلى العقوبة المناسبة.

كما شمل إجراءات التقاضي، وسرعة تحريك الدعاوى القضائية، وتدريب وحدات شرطة متخصصة من عناصر نسائية على قضايا العنف ضد المرأة. وتخصيص خط ساخن منفرد مسؤول عن تلقى الشكاوى، وتخصيص دائرة بالمحكمة الابتدائية لنظر القضايا المتعلقة بهذه الجرائم وسرعة تقاضيها.

وتضمن المشروع أنواع العنف المتعلقة بالجرائم الجنسية، وجرائم إسقاط الحوامل، والجرائم الخاصة بخطف النساء والفتيات والأطفال واستغلالهم. وأيضاً جرائم العنف الأسري، وأخيراً كان الباب السابع المتعلق بالوقاية وحماية المرأة من العنف.

المحامية انتصار السعيد: “العقوبات المقررة للعنف هي عقوبات قديمة بين الحبس لمدة شهر وغرامة 10 جنيهات. وذلك لا نستطيع أن نعتبره عقوبة”

عقوبات قديمة

وتوضّح المحامية انتصار السعيد مدى الاحتياج لقانون موحد للعنف ضد النساء بقولها: “العقوبات المقررة للعنف هي عقوبات قديمة بين الحبس لمدة شهر وغرامة 10 جنيهات. وذلك لا نستطيع أن نعتبره عقوبة”. وأشارت إلى أن عند الرغبة في تقاضي الجاني، يتم احتساب الفعل والتعامل قانونيًا باعتباره جنحة ضرب.

وأشارت دراسة للمجلس القومي للمرأة، إلى أن ما بين 15 و71% من النساء تعرضنّ لبعض أشكال العنف من قبل شريك حميم في وقت ما خلال حياتهن. وبناء على مسوح أجريت في 35 بلدا في الفترة السابقة لعام 1999. فإن التقديرات الخاصة بتعرض النساء أو الفتيات للانتهاكات الجنسية سواء كانوا أطفالاً أو مراهقات تتراوح ما بين 10 و27%.

جائحة كورونا تسببت في زيادة حلالات العنف الأسري ضد المرأة
جائحة كورونا تسببت في زيادة حلالات العنف الأسري ضد المرأة

ووفق مذكرة إيضاحية لمشروع حماية النساء من العنف الأسري، المقدم من 9 منظمات معنية بحقوق النساء، فإن العنف ضد النساء متنوع وواسع الانتشار في مصر. ووفق مسح ديموغرافي وصحي بمصر عام 2005، فإن 45% قد تعرضنّ للعنف الجسدي على أيدي ذكر غير الزوج. و36% أشرنّ إلى أنثى مارست ضدهن العنف. كما جاءت الإشارات إلى الأب كـ مرتكب للعنف ضعف نسبة مرتكبي العنف من الأشقاء الذكور53%، مقارنة بنسبة 23%.

غياب التشريعات

في غياب النص القانوني المجرم، أفسح المجتمع مجالاً للعنف الأسري بحجة الحفاظ على الأسرة من التفكك والانهيار. وجرى التسامح مع الجاني، رغم ما ينطوي عليه من انتهاك لأبسط حقوق الإنسان، ومعاييرها الأساسية.

التسامح مع العنف داخل الأسرة، وتبريره، والتواطؤ معه، لم يتوقف فقط عند حد الإنكار القانوني لتجريمه. وإنما رافقه موقف مؤسسات الدولة والمجتمع غير غير المساند للمرأة المعنفة

ويقول مركز النديم إن التسامح مع العنف داخل الأسرة، وتبريره، والتواطؤ معه، لم يتوقف فقط عند حد الإنكار القانوني لتجريمه. وإنما رافقه أيضًا موقف مؤسسات الدولة والمجتمع غير المتعاطف وغير المساند للمرأة المعنفة.

ويشير المحامي مايكل رؤوف المختص بالمركز لعلاج ضحايا العنف والتعذيب، إلى أن أقسام الشرطة كثيرًا ما تتخذ موقفًا منحازًا ضد المجني عليها، إذا ما حاولت التقدم بشكواها وتحرير محضر بواقعة العنف.

وراعي مشروع القانون الذي أعدته مركز النديم في العقوبة، الحالات التي لا يسرى في شأنها قانون العقوبات. ويصدر الحكم بإحالة المتهم بجريمة العنف الأسرى إلى أحد مراكز التأهيل وإخضاعه لبرامج تأهيل وتدريب لمدة أسبوع إلى أسبوعين. وفى حال العودة يعاقب المتهم بعقوبة أمر خدمة المجتمع، وتقرر المحكمة المدة الزمنية للخدمة، ومكانها ونوعيتها. وذلك وفقًا لدرجة الجريمة ومؤهلات الجاني، ويكون الحكم إلزاميًا، وتسري في شأن تنفيذه أحكام قانون الإجراءات الجنائية.

صعوبة الإثبات

“لا يوجد لدينا قانون يحد من العنف الأسري”، يقول المحامي مايكل رؤوف عن الحاجة لتفعيل قانون موحد ضد العنف الأسري. ويوضح أن العنف داخل الأسرة له طبيعة خاصة، من حيث إثباته إجرائيًا؛ فالعنف الواقع بالشارع له الأطر التي تثبت الواقعة. من خلال كاميرا أو شهود عيان، وهو ما لا يتوفر في المنزل.

وأضاف: “لابد من وجود قوانين استثنائية. ولا يصح أن يتم التعامل مع تلك الحالات بقانون الإجراءات الجنائية؛ لأنه لا ينص على عزل الجاني عن المجني عليه أو تأمينه بشكل مختلف من خلال دور الإيواء”.

المحامي مايكل رؤوف: لا يصح أن يتم التعامل مع تلك الحالات بقانون الإجراءات الجنائية؛ لأنه لا ينص على عزل الجاني عن المجني عليه أو تأمينه بشكل مختلف من خلال دور الإيواء

وتابع: “مطالبات عديدة، وأكثر من مشروع قانون قدمته منظمات والمجلس القومي للمرأة. ومع ذلك الدولة لم تقر تشريعًا يتعلق بجرائم العنف داخل الأسرة وتحديدًا العنف ضد المرأة”.

وعن التعامل مع الحالات المعنفة، يشير رؤوف إلى أنّه في حالة تحرير محضر بالواقعة يتم التعامل على حسب نوع الأذى. إنْ كان ضربًا أو اعتداءً جنسيًا، ولا يكون هناك أي إجراء مختلف في جريمة الضرب. حيث يصدر القضاة حكمًا بالبراءة على المتهم في حالة الزوج والأب. وذلك لنص قانون العقوبات على أنه “لا عقوبة على شخص ارتكب جريمة اضطرته الظروف لارتكابها”.

ويقول رؤوف: “لدينا حق تقره الشريعة، حين يقوم بتصدير تبريرات لغرض تقويم السلوك أو تربية الأبناء. وبذلك يحصل المتهم على حكم البراءة، وهذ اما يحدث في أغلب قضايا الضرب بين الأزواج”.