دخل الصراع السياسي في إثيوبيا مرحلة جديدة أكثر توترًا وأقرب لحسم المعركة لصالح معارضي حكومة آبي أحمد. ففي الوقت الذي حشد فيه المعارضون جبهتهم وصاروا يتقدمون بخطى ثابتة نحو العاصمة أديس أبابا، أعلنت الحكومة المقاومة حتى النفس الأخير.

قبل ساعات، جاءت الضربة القاضية للسلطة بإعلان 9 فصائل معارضة تشكيل تحالف لإسقاط حكومة آبي أحمد، أطلقت على نفسها “الجبهة الموحدة للقوات الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية”. هذه الجبهة تشكلت في أعقاب تحالف قوات الأورومو والتيجراي.

​​الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي انخرطت في أكتوبر الماضي في تحالف تاريخي مع أعدائها السابقين جيش تحرير أرومو. بعدها استولت القوتان على بلدتين رئيسيتين على الطريق الرئيسي المؤدي إلى أديس أبابا. ثم أخذ الصراع منحنى آخر لصالح قوات المعارضة.

ووقعت الفصائل التسعة المشاركة في التحالف الجديد على وثيقة، الجمعة، في واشنطن. وتهدف للانتقال الآمن للسلطة وتحرير البلاد من الحكم الديكتاتوري لآبي أحمد. ومن ثمَّ تشكيل حكومة انتقالية، وبدء حوار وطني لتشكيل خريطة مستقبلية ترضي الجميع. وذلك في وقت تدعو فيه الولايات المتحدة للوقف الفوري للحرب والبدء في مفاوضات غير مشروطة للسلام.

وبينما تتزايد المؤشرات على قرب سقوط حكومة آبي أحمد، يتمسك الأخير بعناد يدفع الأوضاع إلى حافة الهاوية. خاصة أن خريطة الأزمات في إثيوبيا ذات أبعاد كثيفة، تجعل الباب مفتوحًا على المجهول بالنسبة لأوضاع أمنية بدول الجوار الإثيوبي. بالإضافة إلى تأثيرات متفاوتة بين الإيجابية والسلبية على مصالح إقليمية ودولية تتقاطع مع الملف الإثيوبي.

التطورات الميدانية وأدوات آبي أحمد  

جاءت التطورات سريعة ومكثفة ومربكة للنظام الحاكم، بعدما باتت قوات المعارضة في أقرب نقطة إلى أديس أبابا. وذلك بعد حوالي عام من المواجهة، خلاف على تأجيل الانتخابات الفيدرالية. وقتها قررت جبهة تحرير تيجراي إقامة انتخابات داخلية في تحدٍ للحكومة الفيدرالية؛ مما عزز الخلاف بين قادة الجبهة وآبي أحمد. الذي شنت قواته حربًا على الإقليم، واستمر التصعيد حتى التقدم نحو العاصمة من الإقليم الواقع في شمال البلاد.

أبي أحمد يخطب في قواته
أبي أحمد يخطب في قواته

استمرت الاشتباكات، على مدار عام، بين الجيش الفيدرالي قوات التيجراي التي استطاعت تحقيق مكاسب عديدة. من خلال التقدم عبر أراضي الأقاليم المجاورة في أمهرة وعفار، بعد تحرير أرضهم من قوات الحكومة المركزية. ذلك دفع لحالة الاستنفار من زعماء الأمهرة المتحالفين مع الحكومة المركزية وتسليح الميليشيات المحلية لمواجهة قوات التيجراي. بذلك زادت رقعة الصراع ليشمل أقاليم إثيوبية أخرى دون إقليم التيجراي، وخلف النزاع آلاف الضحايا وتشريد أكثر من مليوني مواطن.

آبي أحمد دعا المواطنين إلى حمل السلاح للتصدي إلى زحف مقاتلي التيجراي. والجيش استدعى جنوده المتقاعدين للعودة لصفوفه

في مواجهة تقدم قوات تحالف الأورومو والتيجراي، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد في تدوينة نشرها عبر حسابه في “تويتر”- حذفها الموقع لاحقًا باعتبار تحرض على العنف- المواطنين إلى حمل السلاح للتصدي إلى زحف مقاتلي التيجراي يوم الإثنين الماضي. لكنها الدعوة التي قلل منها غيتاشو رضا المتحدث باسم جبهة تحرير شعب تيجراي. وأكد أنها لن تغيِّر شيئًا، سوى إظهار رغبة آبي أحمد في نقل النزاع إلى مستوى آخر من إراقة الدماء. وفيما لم تنقذ هذه التعبئة حتى الزعيم الإثيوبي الشيوعي السابق منغستو هايلا مريام من السقوط.

وأعلن أبي أحمد حالة الطوارئ، فيما تداولت تقارير إعلامية أن الحكومة اعتقلت آلاف المعارضين. ووضعتهم في معسكرات اعتقال مؤقتة لاستخدامهم كدروع بشرية. كما دعا الجيش الإثيوبي، الجمعة، جنوده المتقاعدين إلى العودة لصفوفه من أجل صد تقدم قوات المعارضة.

الخروج الآمن لـ آبي أحمد

تتجه أغلب التحليلات على المستوى الإقليمي والدولي بأنّ رحيل أبي أحمد عن الحياة السياسية في إثيوبيا بات مسألة وقت. خاصة مع تصاعد الغضب الدولي من سياساته في تصاعد الأوضاع غير الإنسانية وزيادة العنف. وذلك في بلد ينظر لها الغرب باعتبارها الحليف الأهم في منطقة القرن الإفريقي.

وبعدما باتت قوات تحالف الأورومو والتيجراي على بعد عشرات الكيلومترات من العاصمة أديس أبابا. نصحت الولايات المتحدة رعاياها بالاستعداد لمغادرة العاصمة الإثيوبية، وسمحت للموظفيين الحكوميين بالمغادرة. بعدها اتخذت دول أخرى خطوات مماثلة في مقف يبدو استشعر قرب سقوط حكومة آبي أحمد، أو يستبق فوضى مدمرة.

بحث حل الموقف المتأزم من خلال خروج آمن لإدارة آبي أحمد من المشهد السياسي. والبدء في محادثات قومية تتفق فيها جميع الإثنيات على وقف الحرب ووقف إطلاق النار

وتشير معلومات بين أوساط دبلوماسية قريبة من الدائرة الإثيوبية بأن جزءًا من مباحثات المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان مع كبار المسئوليين في العاصمة الإثيوبية، أمس، اتجهت إلى بحث حل الموقف المتأزم من خلال خروج آمن لإدارة آبي أحمد من المشهد السياسي. والبدء في محادثات قومية تتفق فيها جميع الإثنيات على وقف الحرب ووقف إطلاق النار.

قوات الجيش الإثيوبي
قوات الجيش الإثيوبي

كان أبي أحمد قد جدد ولايته في إثيوبيا لمدة خمس سنوات في أكتوبر الماضي. بعد أن حقق حزبه “الازدهار” فوزًا ساحقًا في انتخابات يونيو. إلا أنّ أجواء الحرب أزاحت أيّ استحقاقات أو مكاسب لإدارة آبي أحمد يمكن أن تكون قد تحققت جراء الانتخابات.

ورغم وجود معلومات بأن الموقف الأمريكي يتجه إلى تأمين خروج آبي أحمد حقنًا لمزيد من الدماء. لكن الجيش الإثيوبي الفيدرالي دعا جنوده السابقين اللائقين بدنياً للتسجيل والمشاركة في العمليات العسكرية حسب صحف إثيوبية الجمعة. وذلك في إشارة إلى عدم تسليم إدارة أبي أحمد بأيِّ من الحلول المطروحة وتسليم الأمر لصالح قوات المعارضة.

الطرق المتاحة تنتهي بسقوط بـ آبي أحمد

ويرى مراقبون أن الخيارات المتاحة لحسم الصراع تنحصر في الإطاحة بأبي أحمد. ذلك أن عدم وجوده أصبح شرط القوى المتصارعة للدخول في حوار من أجل الاستقرار والانتقال الآمن في إثيوبيا، ومن ثم القرن الأفريقي. وهو ما بدأ ينتشر في صحف محلية تنقل معلومات عن خطط خروج أبي أحمد من البلاد إلى منفى اختياري دون عقوبات.

ورغم هذه التطورات، أفاد بيان جديد لمجلس الوزراء الإثيوبي الجمعة بأن الحكومة لن تتراجع عن حربها ضد جبهة التيجراي. واعتبر أنها “حرب وجودية”، وأنها أوشكت على الانتصار في الحرب المستمرة منذ عام، ولن تنهار أمام الدعايا الأجنبية.

كل المؤشرات تقول إن حكومة أبي أحمد أوشكت على السقوط
كل المؤشرات تقول إن حكومة أبي أحمد أوشكت على السقوط

ولعل ما يؤكد احتمالات اندلاع الحرب داخل العاصمة أديس أبابا ما أعلنته كينيا صباح الجمعة أيضًا، برفع حالة التأهب القصوى. إذ طلبت الشرطة من المواطنين الكينيين توخي الحذر من امتداد آثار الحرب في إثيوبيا إلى البلاد. فيما جرى اتخاذ إجراءات أمنية واستعدادات على طول الحدود والمناطق الحساسة الأخرى في البلاد. كما دعت السعودية مواطنيها في إثيوبيا إلى المغادرة الفورية.

مقاومة حتى آخر نفس

وأمام الخيارات المطروحة وما يتردد بشأن مبادرات لوقف الحرب، اتخذت حكومة آبي أحمد مواقف أكثر تعنتاً. وقال بيان حكومي، الجمعة، إنه سيتم اتخاذ إجراءات صارمة حيال سفارات أجنبية دعت رعاياها لمغادرة البلاد. وذلك على خلفية ما وصفته بـ”الشائعات” حول محاصرة جبهة تحرير تيجراي العاصمة أديس أبابا.

وفي أكتوبر الماضي، طردت إثيوبيا مسؤولين بالأمم المتحدة. وذلك بعد تحذير منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة من أن منع دخول المساعدات “بحكم الأمر الواقع” تسبب على الأرجح في تعريض مئات الآلاف في تيجراي للمجاعة.

وساعدت الاتصالات القوية لزعماء جبهة التحرير مع القوى الدولية، خاصة أمريكا، في وضع إدارة أبي أحمد تحت ضغوط دولية. وهو ما أضعف موقفه لاسيما مع زيادة حدة الانتقادات الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان. بالنظر إلى المصالح المتشعبة لهؤلاء الزعماء داخل الأروقة السياسية والأمنية في واشنطن منذ عهد رئيس الوزراء الراحل ميلس زيناوي.

الموقف الأمريكي من الشريك للخصم

ومنذ بداية الحرب تحول موقف الإدارة الأمريكية مع الحكومة الإثيوبية من الشريك إلى الخصم. وظلت تهدد طوال الوقت بسلاح العقوبات والذي تمثل في فرض قيود على التأشيرات وتخفيض المساعدات لإثيوبيا. حتى قدم الرئيس جو بايدن إخطارًا للكونجرس بعزمه إلغاء تصنيف إثيوبيا كدولة مستفيدة من قانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا). وذلك لأن أديس أبابا لا تفي بالمتطلبات الواردة في القانون في حماية حقوق الإنسان.  ويوفر قانون أغوا لإثيوبيا حوالي 100-200 مليون دولار من العملة الصعبة سنويًا. وهو ما يخلق بشكل مباشر فرص عمل لنحو 100 ألف شخص، معظمهم من النساء في جنوب إثيوبيا.

النظام الإثيوبي فقد الحليف الغربي
النظام الإثيوبي فقد الحليف الغربي

ومع تحول مواقف أمريكا والقوى الغربية ضد إثيوبيا، استطاعت حرب التيجراي أن تنهي العلاقة مع الحليف الاستراتيجي لسنوات طويلة. وذلك في مواجهة التطرف بالقرن الإفريقي؛ إذا ما استمر أبي أحمد في الحكم. مع تدهور غير محتمل للأوضاع الإنسانية ليس في إقليم تيجراي وحده بل في أقاليم ومناطق متفرقة في الفيدرالية الإثيوبية. فضلاً عن إضعاف قدرات الجيش الإثيوبي الذي كان يرى فيه الغرب حليفاً لتنفيذ أجندته في حماية السلام بالمنطقة بعد الهزائم التي تكبدها الجيش أمام قوات التيجراي والقوميات الغاضبة الأخرى في أوروميا والعفر وأوجادين الصومالية.

يوفر قانون أغوا لإثيوبيا حوالي 100-200 مليون دولار من العملة الصعبة سنويًا. وهو ما يخلق بشكل مباشر فرص عمل لنحو 100 ألف شخص، معظمهم من النساء في جنوب إثيوبيا

ولعل الساعات القليلة المقبلة تكشف عن تطور جديد قد يتجه للإطاحة بأبي أحمد حقناً للدماء والإحالة دون التصادم العسكري بالعاصمة. وهو ما ستدعمه بقوة دول الجوار والقوى الإقليمية بعدما ساعد نظام أبي أحمد في عزل نفسه إقليميًا ودولياً. بيد أن هذا التطور لن يكون بالضرورة بداية لاستقرار في الداخل الإثيوبي الذي سيكون مرشحاً لمزيد من التناحر بين القوميات وإن كانت قد اتحدت الآن من أجل إسقاط أبي أحمد. حيث لا توجد حتى الآن ضمانات حقيقية لحوار سياسي وطني تتوافق عليه القوميات الإثيوبية.

عواقب محتملة

أياً كان الوضع والمخرج للمأزق الحالي في إثيوبيا، فإن العواقب المحتملة باتت مقلقة لكافة الأطراف الإقليمية والدولية. هذه التداعيات ليست من قبيل التوقعات بقدر ما هي حسابات مدروسة وجاء بعضها على لسان جيفري فيلتمان، المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي.

التداعيات المباشرة للتوترات الحالية في إثيوبيا ستلقي بظلالها على القرن الأفريقي بشكل مباشر وسريع. وهو ما تدركه الحكومات الغربية التي سيكون عليها تأمين الاستثمارات السياسية والاقتصادية هناك. هذا فضلاً عن مخاطر أمنية في البحر الأحمر، على غرار امتداد الحرب نحو إرتيريا وجيبوتي، وعندها سيكون انتقالها إلى الصومال وتأثيرها على دول الخليج.

كما ترافق تلك التداعيات عمليات هجرة ونزوح غير شرعة، لن تقف تأثيرها على المنطقة فقط. في وقت تحذر بعض التقديرات السياسية من استفادة الحركات المسلحة في المنطقة من انهيار الأمن بالقرن الأفريقي.