تشهد إثيوبيا مجموعة من التطورات العسكرية الدرامية التي تطرح الأسئلة بشأن مستقبل هذه الدولة المهمة المؤثرة بشكل كبير في سياقيين استراتيجيين هما القرن الأفريقي، وطبيعة التفاعلات فيه، والتي تؤثر بشكل مباشر علي جملة من المصالح الدولية والإقليمية. أما السياق الاستراتيجي الثاني فهو الأمن الإنساني والمائي لدولتي وادي النيل مصر والسودان، وذلك ارتباطا بمصير ملف سد النهضة.
تشير تفاصيل المشهد الإثيوبي علي المستوي العسكري أن العاصمة الإثيوبية مهددة حاليا، وأن هناك تكتيكا عسكريا قد تم الاعتماد عليه من جانب المعارضة الإثيوبية ضد آبي أحمد يعتمد على أسلوب الكماشة أي حصار أديس أبابا من الشمال والشمال الشرقي والجنوب.
الاعتماد على هذا التكتيك تطلب خطوتين من جانب القوميات الإثيوبية المعارضة لمشروع آبي أحمد في تغيير النظام السياسي الإثيوبي ليتجه نحو النمط المركزي في الحكم بقيادة حزبه الازدهار، أحد هذه الخطوات كانت سياسية والأخرى عسكرية.
في السياق السياسي، بلورت القوميات الإثيوبية حوارا سياسيا امتد من أغسطس الماضي وحتي مطلع أكتوبر الماضي، واختارت هذه القوميات الإعلان عن تحالف عسكري عشية تنصيب آبي أحمد في موقع رئيس الوزراء منتخبا هذه المرة.
على المستوي العسكري تحالفت أولا حركة تحرير تيجراي مع جبهة تحرير أورمو ( جيش أورمو). ثم اتسع هذا التحالف وتم الإعلان عنه بشكل تفصيلي في ٣ أكتوبر الماضي ليشمل جبهة تحرير جامبيلا، جبهة الوحدة الديمقراطية الثورية عفار، حركة أجاو الديمقراطية، حركة التحرير الشعبية لبني شنقول، حركة العدالة والحق للشعب الكيماني العالمي، حزب كيمانت الديمقراطي، جبهة تحرير سيداما الوطنية، حركة مقاومة الدولة الصومالية، حكومة إقيم تيجراي وجبهة تحرير شعب تيجراي.
في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن حركة التحرير الشعبية لبني شنقول قد امتلكت تصنيفا كونفدراليا في الاتفاق، وهو ما يجعلها قادرة علي الانفصال عن إثيوبيا، أو على أقل تقدير تملك قدرة على الحكم الذاتي، وربما اختيار الانضمام للسودان.
هذه القوات العسكرية تزحف حاليا نحو أديس أبابا، وتبعد عنها مسيرة لن تزيد عن شهر في تحد وصفه آبي أحمد بالوجودي والذي أعلن بسببه حالة طوارئ عامة بالبلاد صدق عليها البرلمان الإثيوبي. وفي هذا الإطار دعي آبي أحمد كل من هو قادر على حمل السلاح أن ينخرط في القتال ضد جبهة تحرير تيجراي وحلفاءها.
تصاعد التوتر في إثيوبيا، وانحدار المشهد نحو حرب مفتوحة علي كل المستويات، يشكل أخطار محدقة بمستقبل كل من الدولة الإثيوبية، ومستقبل رئيس الوزراء آبي أحمد في آن واحد.
في هذا السياق حاول المجتمع الدولي الدفع نحو حوار سياسي بين الأطراف الإثيوبية، وقد جاء ذلك من جانب الأمم المتحدة ووزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، وذلك بعد فشل محاولة الرئيس بايدن الذي أرسل لآبي أحمد صديقه الشخصي السيناتور كريستوفر كونز في إبريل الماضي، كما فشلت مهمة المبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان بهذا الشأن والذي يتواجد حاليا بأديس أبابا، محاولا تفادي السيناريو المرعب بوقوع حرب أهلية شاملة متعددة المستويات، خصوصا وأن قومية أمهرة هي حليفة لآبي أحمد في حربه المفتوحة ضد باقي القوميات الإثيوبية وعلي رأسها التيجراي.
فشل المجهودات الدولية في تحقيق تقدم في هذا الملف الشائك يعود بشكل أساسي إلى أن جبهة تحرير تيجراي قد وضعت شرطا لهذا الحوار السياسي متمثل في ضرورة إزاحة آبي أحمد، بينما مارس الأخير تعاليا وتعنتا سياسيا إزاء كل محاولات الوساطة علي المستوي الإقليمي وهي التي بذلتها كل من السودان وكينيا وأوغندا وروندا. أما علي المستوي الدولي فقد نشط كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي فضلا عن مجهودات الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت مع إعلان الحرب على إقليم تيجيراي في نوفمبر ٢٠٢٠ .
وقد تم التعامل مع هذه المجهودات الدولية والإقليمية من جانب رئيس الوزراء الإثيوبي بتعال وعدوانية وتحريض الداخل الإثيوبي ضدها باعتبارها آليات استعمارية مغرضة في وقت فشلت كل وعود آبي أحمد في تحقيق انتصار على حكومة وجبهة تحرير تيجراي وحلفاءها من باقي القوميات الإثيوبية.
في الوقت الراهن تبدو إثيوبيا مفتوحة على عدد من السيناريوهات يمكن بلورتها كالتالي:
السيناريو الأول أن تدخل قوات المعارضة بالفعل إلى أديس أبابا، وهو خيار مستبعد حتي الآن، نظرا إلى أن جبهة تحرير تيجراي تسعي نحو صفقة سياسية يساعد فيها المجتمع الدولي، من هنا قد يتباطئ تقدم القوات نحو أديس أبابا لسببن الأول أن يتم إجلاء الرعايا الأجانب من العاصمة، حتي لا يدخل التحالف المعارض في تعقيدات مع المجتمع الدولي.
والثاني اختبار قدرة واشنطن في استبعاد آبي أحمد من المشهد السياسي، وضمان عدم تعرض حكومة إقليم تيجراي وجبهة تحرير الإقليم لمساءلات بشأن ممارستها ضد المدنيين أثناء الحرب.
وقد يتفاعل المجتمع الدولي مع متطلبات التحالف المعارض لسببين هما أن ممارسات آبي أحمد قد كشفت عن قدر من رعونة سياسية، و فهم وإدراك محدود لتعقيد الموقف الداخلي الإثيوبي وإمكانية انفتاحه على تفتيت الدولة ذاتها التي لايزيد عمرها كدولة موحدة عن قرن ونيف، أما السبب الثاني فهو حماية إثيوبيا من حالة انهيار باتت متوقعة.
السيناريو الثاني: أن يفشل المجتمع الدولي في التدخل فتنحدر إثيوبيا إلى حرب أهلية مفتوحة وخصوصا وأن العداء محتدم بين التيجراي والأمهرة من جهة، والأمهرة وبني شنقول جمز من ناحية أخرى، وذلك دون استبعاد أن الأمهرة حاليا يوجهون انتقادات كبيرة للجيش الإثيوبي الفيدرالي ويتهمونه بارتكاب أخطاء كبرى على المستوى العسكري، وذلك فضلا عن أن بطون القوميات الإثيوبية بينها تناقضات تاريخية، تدفع بعضها إلي طلب الاستقلال عن بعض القوميات الكبرى.
أما على المستوي الإقليمي، فإن هذه الحرب قد تكون مرشحة للامتداد لكل من إرتيريا والسودان، فموقف الأولي أصبح مكشوفا حاليا على المستوى العسكري، وهو ما يدفع أسياسي أفورقي إلى إعادة ترتيب أوراقه.
وفيما يخص السودان فإنه من المعروف أن عبد العزيز الحلو الزعيم السوداني في جبال النوبة، والذي لم ينخرط في إتفاق سياسي حتي الآن مع حكومة الخرطوم قد تحالف مع آبي أحمد ليقود حربا في إقليم بني شنقول لصالحه ،حيث إفتتح مكتبين لحركته في كل من إقليم بني شنقول، وأديس أبابا.
السيناريو الثالث: أن تنجح مجهودات حصار التدهور الإثيوبي ويتم بلورة صفقة سياسية لن تنجح إلا باستبعاد آبي أحمد من المشهد السياسي، وفي هذه الحالة سوف يتم إعادة بلورة النظام السياسي الإثيوبي ليعود لصيغة الإثنية الفيدرالية التي حققت نجاحا على مدى ثلاثة عقود منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث ترفض القوميات الإثيوبية الحكم المركزي من جانب العاصمة أديس أبابا وهي الصيغة التي وسمت النظام السياسي للإمبرطورية الإثيوبية منذ الإمبرطور ملينك الثاني وحتي الإمبرطور هيلاسلاسي، وضمنت للأمهرة موقع الحكام.
بطبيعة الحال يترتب علي هذا السيناريو الوفاء بمتطلبات التحالف السياسي والعسكري الذي تم بين الأطراف الإثيوبية، وهو مايعني إمكانية تمتع إقليم بني شنقول بحكم ذاتي أو أن ينضم للسودان طبقا لمطالب حكام الإقليم السياسية.
السيناريوهان الثاني والثالث من شأنهما التأثير المباشر علي ملف سد النهضة، فانخراط إثيوبيا في حال من الفوضي لن يجعل الدولة قادرة على استكمال المشروع خصوصا مع الانسحاب المتوقع للاستثمارات الدولية بكافة أنواعها في المشروع، نظرا لتصاعد مستويات المخاطر.
أم السيناريو الثالث فهو يفتح الباب أما إرادة منفصلة لنخبة بني شنقول في إدارة الإقليم، وهي نخبة قريبة من السودان، وتفتح الباب أمام إمكانية التفاهم حول مشروع السد، وذلك من ثلاث زوايا حجم بحيرة السد، وكيف تكون غير مهددة للسودان خصوصا، وإدارة وتشغيل السد وهما يهمان مصر بالدرجة الأولي.