في فيلم “الرحلة غير المكتملة” للمخرج الإثيوبي الكبير هايلي جريما عام 1994 يعبر حديث الراوي عن الإحباطات والمشاكل التي يواجهها الأفارقة مثل الاستعمار الجديد والصراعات والحروب الأهلية. كما أنه يستفز الجمهور من خلال طرح أسئلة حول مشكلة الانقلابات العسكرية وآثارها المدمرة.

يبدأ الراوي بالتحدث في قاعة منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك بقوله: “حدث انقلاب عسكري هنا وانقلاب عسكري هناك. ملازم يتولى السلطة هنا. ثم تقول لنفسك: ما الذي يحدث؟  ملازم أو رائد أو عقيد على هذا النحو يحل محل تفاري بيدوا، عقيد يحل محل موديبو كيتا، أو جنرال يحل محل نكروما. ثم في النهاية كان لدينا رائد يخلف هيلا سيلاسي. إذن، أين ذهبت الرؤية؟ وهكذا نحن هنا. وكأننا فقدنا بوصلتنا، وكأننا فقدنا هدفنا، وكأنه ليس لدينا ما نعيش من أجله. وهذا ما يزعج حقًا شخصا مثاليا، كان هناك في البداية وما زال على قيد الحياة ليشهد على عمق الشك وحالة عدم اليقين الذي وصلت إليه أفريقيا…. ماذا حدث؟”

تعكس هذه الكلمات الواقع السياسي في القارة الأفريقية عموما وفي إثيوبيا على وجه الخصوص. سواء كان ذلك متمثلا في غياب المؤسسات أو التفكير العقلاني الرشيد عند تحديد المصالح الاستراتيجية الكبرى أو المناهج الأخرى التي تنظر إلى مثل هذه الأسئلة عن كثب.

وربما يتفق ذلك مع ما توصل إليه المفكر الاشتراكي الفرنسي رينيه دومون منذ البداية عن معضلة البدايات الخاطئة في أفريقيا. دعونا في هذا المقال نحاول الغوص في أعماق أزمة الدولة والحكم في إثيوبيا.

هايلي جريما- صورة من أ ب

ثقافة الشمع والذهب

لقد أولى العلماء الذين يدرسون السياسة الإثيوبية اهتماما بالغا بالثقافة السياسية السائدة من خلال العودة إلى الوراء، ولاسيما بداية تأسيس الدولة الحديثة. والاستنتاج المثير للدهشة هو أن دراسة الدولة الإثيوبية، التي تتألف من أمم وقوميات شتى قامت على الغزو وضم الأراضي، تتجاوز دوما النصوص الدستورية والهياكل الرسمية. ولعل ذلك ما يُعبر عنه في التقاليد الأدبية الأمهرية بثقافة “الشمع والذهب”.

في هذا التقليد الأدبي، غالبًا ما تكون الرسائل مشفرة، ولا تتطلب طلاقة عالية المستوى في اللغة الأمهرية فحسب، بل تتطلب أيضًا مساعدة بعض الخبراء في هذا التقليد في حل بعض الألغاز، التي يصعب الوصول إليها للكثيرين الذين يحاولون دراسة إثيوبيا، خاصة إذا لم يكونوا باحثين إثيوبيين. ثقافة الشمع والذهب هي ما يصفه دونالد ليفين، عالم الاجتماع البارز الذي درس إثيوبيا، بأنه ما يشكل عبقرية ثقافة أمهرة.

 إنها الصيغة المستخدمة من قبل الأمهرة لترمز إلى شكل الشعر المفضل لديهم. إنه شكل مبني من طبقتين دلاليتين. المعنى الظاهري المجازي للكلمات يسمى “الشمع”. أما المعنى الخفي تحت السطح وهو المقصود يسمى “الذهب”. في معناه العام، يشير إلى عدد من الخصائص الشعرية التي تجسد هذا المعنى المزدوج.

إن فهم الثقافة السياسية الإثيوبية، وتأثيرها التأسيسي على سياسات العصور القديمة والحالية، وكيف تفاعلت النخب مع بعضها البعض يُسهم في التوصل إلى تفسيرات تغيير النظام وفهم الأعمال الأساسية لممارسة السلطة السياسية بين أعضاء النخبة الحاكمة. عند إجراء تشبيه لمدى أهمية الثقافة السياسية في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن الحق الإلهي في الحكم الذي وضعه هيلا سيلاسي الأول في مكانه وتحديثه للاستبداد الذي استرشد بمبادئ نظام ملكي مطلق قد تم النيل منه عند الصدام بين النظام الإقطاعي القديم وثقافة التحديث السياسية الجديدة التي أسقطت النظام. ومع ذلك فإن النظام العسكري الذي شكله ضباط الجيش الصغار عام 1974 كان في الواقع شكلاً آخر من السلطوية التي استرشدت بمبادئ غير لاهوتية لتبرير الحكم. لقد علق مانغستو هيلا مريام الذي آمن بالشيوعية فكرا ومنهاجا صور ماركس وإنجلز ولينين في أكبر ميادين العاصمة أديس أبابا وكأنها الثالوث المقدس الجديد. ومع ذلك فإن آمال التغيير قد تحطمت مرة أخرى عام 1991 عندما فر مانغستو إلى زيمبابوي ليفسح الطريق أمام تحالف جبهة التيغراي الحاكم الذي فضل إثارة التوترات العرقية واستخدام العنف لقمع المعارضة.

العرقيات الإثيوبية

إشكالية الفيدرالية العرقية

بالإضافة إلى هذه الأسس التاريخية، فإن السياسة الإثيوبية المعاصرة حتى بعد إدخال الترتيب الفيدرالي العرقي تظل مماثلة للعصور القديمة. الاعتراف بالمظالم العرقية القديمة والتركيز الأكبر على حقوق المجموعة، والطرق القديمة لتفاعل النخبة على أساس الولاء، ومسائل الهوية العرقية وتاريخ الصراع الذي يحدد العلاقات بين المجموعات، التي تترسخ في الثقافة السياسية للبلاد، كلها لا تزال حاسمة. يشير الواقع إلى أن الإثنية والعلاقات الإثنية في البلاد هي نسخ كربونية للثقافة السياسية بالمعنى التاريخي وكذلك السياسي.

اعتقد ميليس زناوي ورفاقه أن مسألة القوميات، وليس قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية هي السبب الجذري للمشاكل السياسية والاقتصادية في إثيوبيا في عام 1991 واتخذها كأساس لدستور فيدرالي جديد تم التصديق عليه في ديسمبر 1994.

تم وضع الهوية العرقية فوق الهوية المدنية الإثيوبية، ولم يتم وضع السيادة في أيدي الشعب الإثيوبي وفقا لمنطق الإرادة العامة الذي عبر عنه جان جاك روسو، ولكن في أيدي مختلف الأمم والشعوب والقوميات التي تتألف منها الدولة الأثيوبية بمعناها المجازي. ساعدت هذه الصيغة المبتكرة ولكن المبهمة الحكومة الفيدرالية في السيطرة على نظام سياسي غير متفاوض عليه إلى حد كبير. ومن الملاحظ أن مفهوم الهوية العرقية استند على مزيج من المعايير الثقافية والإقليمية واللغوية التي كانت مستوحاة إلى حد كبير من تعريف ستالين الماركسي للقوميات. ويمكن الخلوص إلى القول بأن سياسة الإثنية متجذرة في الثقافة السياسية الإثيوبية لدرجة أنها تظل تفسيرية إلى حد كبير للقديم والمعاصر. وبالمثل، فإن الروايات التاريخية المستخدمة للمساعدة في فهمنا لدور كل نظام سياسي والنخب السياسية في تشكيل الدولة وإعادة تشكيلها لم تكن سوى إخفاقات كبرى.

زيناوي

الربيع الإثيوبي وبداية خاطئة أخرى

بعد انتفاضات الربيع الأثيوبي ابتداء من عام 2016 واستقالة ديسالين في عام 2018، بدأ رئيس الوزراء الجديد، آبي أحمد، في الترويج لما أشار إليه بفلسفة اقتصادية وسياسية محلية، تُعرف باسم “ميديمير” (وهي كلمة أمهرية تُترجم على أنها “تضافر الأفكار والجهود”). سرعان ما تحولت “ميديمير” لتصبح الأيديولوجية الجديدة التي وجهت حزب الازدهار الوطني الموحد بزعامة آبي أحمد. كانت فرصة جديدة للتغيير وتجاوز أخطاء الماضي على يد هذا الشاب الذي ينتمي إلى الأورومو بنسبه لأبيه وإلى الأمهرا بنسبه لأمه، وهو ما يُمكن أن يُضفي رمزية جديدة لشخصية أثيوبية تتجاوز الانحيازات العرقية الضيقة. ولكنه سرعان ما وقع في شرك ثقافة “الشمع والذهب” حيث ذهب إلى أسمره معلنا وضع حد لحالة العداء التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا، وهي الخطوة التي نال عليها جائزة نوبل للسلام (ثقافة الشمع). بيد أن المغزى الحقيقي كان يتمثل في تشكيل تحالف إقليمي جديد لمواجهة نخبة التيغراي الحاكمة التي وجد أنها العائق الرئيسي أمام تحقيق حلمه الامبراطوري (ثقافة الذهب). تُظهر لنا طبيعة الثقافة السائدة أن آبي أحمد كان يسعى لتحقيق نبوءة أمه بأن يصبح الملك السابع لإثيوبيا.

لقد ورث آبي أحمد دولة هشة، وكان التعامل مع قضايا مثل مطالب الأورومو القومية والاحتجاجات التي أوصلته إلى السلطة تحديًا كبيرًا حقًا. كانت معالجة مثل هذه القضايا الشائكة دون حدوث عنف عرقي يتطلب الكثير من المهارة السياسية، وهو ما أثبت رئيس الوزراء افتقاده لها. ومع ذلك فإنه كرر نفس البدايات الخاطئة التي ابتليت بها السياسة الأثيوبية من خلال إثارة النزعات العرقية والاعتماد على سرديات الأساطير الدينية التي تُعلي من قيم “الإثيوبيانية” والحق الإلهي في الحكم.

في 4 نوفمبر من العام الماضي أعلن الحرب على التيغراي واعتبرها عملية إنفاذ للقانون ورفض كافة جهود الوساطة الدولية والإقليمية. تحول رجل نوبل للسلام إلى داعية حرب متهم بإثارة النزعات العنصرية حتى إن إدارة فيسبوك حذفت أحد منشوراته التي تحض على الكراهية بحق التيغراي. مع احتمال عدم التوصل إلى تسوية تفاوضية سريعة، وصلت حرب تيغراي الإثيوبية إلى منعطف حرج سيؤثر بشكل دائم على المجتمع الإثيوبي ويمكن أن ينهار البلد ليسلك مسار يوغوسلافيا السابقة، مما يزيد من مخاطر الخلافات الدبلوماسية وحتى العنف في أماكن أخرى من القرن الأفريقي. أعلنت حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حالة الطوارئ على مستوى البلاد في 2 نوفمبر وطالبت سكان العاصمة بالدفاع عن بيوتهم وسط مخاوف من قيام قوات التيغراي والجماعات المتحالفة معها، ولاسيما جيش تحرير الأورومو، من الوصول إلى العاصمة أديس ابابا ولاستيلاء عليها عنوة.

 

هل تقود سياسات آبي أحمد إثيوبيا إلى نفق التطهير العرقي؟

آبي أحمد

آفاق المستقبل: عود على بدء

إن تكرار سيناريو عام 1991 الذي شهد انتصار الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي من شأنه أن ينذر بمزيد من العنف، حيث إن العديد من الأعراق الأخرى -ولا سيما الأمهرة ثاني أكبر مجموعة عرقية في البلاد- سوف يقاومون نظامًا آخر يؤسسه التيغراي الذين يتعين عليهم التعامل مع عدد من الجماعات المضطربة الرافضة لشرعيتهم.

قد يكون السيناريو الأقل عنفًا هو السيناريو الذي تُظهر فيه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وحلفاؤها قدرتهم على الاستيلاء على المدينة، مما يدفع المجتمع الدولي للضغط على حكومة آبي أحمد لإجراء محادثات لتجنب القتال في شوارع أديس أبابا.

ولكن حتى إذا أدى ذلك إلى تشكيل حكومة إثيوبية انتقالية بزعامة آبي أحمد نفسه بحجة أنه فاز في الانتخابات مؤخرا، فقد تستمر حركات تمرد متعددة في معارضة تلك الحكومة. من المحتمل أن تحاول الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إحياء إثيوبيا الفيدرالية حيث يتم نقل سلطة كبيرة إلى مناطق البلاد، وقد تستغرق هذه المفاوضات فترة طويلة من الزمن. هناك أيضا المتغير الإريتري حيث ستؤدي عودة  تيغراي إلى السلطة إلى إزعاج الرئيس أسياس أفورقي، الذي لا يزال ينظر إلى الجبهة الشعبية لتحرير تيغري على أنها عدو بعد خوض حرب عنيفة معها بين عامي 1998 و2000. دعم أسياس في البداية الهجوم الإثيوبي على تيغراي ومن المرجح أن يعاود الاشتباك إذا اقترب التيغراي من الاستيلاء على السلطة. من المحتمل أن تدعم حكومة أسياس في إريتريا على أية حال الجماعات المتمردة خلال أي فترة انتقالية بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.

ملف تيجراي يهدد أحلام آبي أحمد

في حالة عجز الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عن إسقاط الحكومة الإثيوبية، فإن الصراع يدخل حالة من الجمود ويكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة. إذ من الواضح أن الجيش الوطني بات عاجزا عن قلب الميزان العسكري لصالحه، مما يفرض ضغوطًا كبيرة على آبي. وكلما طال أمد الصراع، زاد خطر الإطاحة بآبي أحمد من السلطة، إما من خلال استقالة قسرية منظمة أو انقلاب عسكري من قبل بعض حلفائه الحاليين. بالإضافة إلى إثارة الاضطرابات السياسية في العاصمة، فإن تنحية آبي ستنهي فعليًا مشروعه السياسي، القائم على مركزية السلطة وإعادة إحياء حلم إثيوبيا الامبراطورية. وقد يؤدي تجميد الصراع أيضًا إلى مزيد من الدعوات من قبل جيش تحرير أورومو وجبهة تحرير تيغراي للضغط من أجل مزيد من الحكم الذاتي أو حتى إعلان الاستقلال، مما قد يؤدي إلى صراع آخر مع إريتريا حيث إن الرئيس أسياس سيرفض بشكل شبه مؤكد فكرة استقلال تيغراي.

وختاما لا يمكن استبعاد السيناريو الذي تنهار فيه إثيوبيا فعليًا وتغرق البلاد بأكملها في حرب أهلية إذا ما استمر نمط الثقافة السياسة السائد. على مدى العام الماضي، أثرت حرب التيغراي على معظم إثيوبيا، مما ساهم في التضخم الاقتصادي ونقص السلع والخدمات الأساسية، وهو الأمر الذي ازداد سوءا في ظل جائحة كوفيد_19. ومع ذلك، ظل القتال الفعلي محصورا إلى حد كبير في تيغراي وبعض أجزاء من منطقتي أمهرة وعفر.

لكن هذا قد يتغير وسط انهيار أوسع لإثيوبيا، مع انتشار العنف على الأرجح إلى الأماكن التي نجت حتى الآن- وهي المناطق الجنوبية والغربية من البلاد. وذلك هو السيناريو الكارثي الذي سوف يتردد صداه على الصعيد الإقليمي، مما يؤثر يقينا على العلاقات مع الدول المجاورة.