الحياة قيمة. رغم أنها قاسية بالفعل. هذا واقع لم يعد يمكن تجميله. الحياة شديدة القسوة في الحقيقة وليست قاسية فحسب. تحتاج لقوة رهيبة لكي تتمكن من اجتيازها بكامل قواك العقلية والجسدية ولا أظن أنك ستتمكن أبدا من اجتيازها بكامل قواك النفسية على أية حال.

هي قاسية وتتطلب معاناة، لكنها معاناة ذات قيمة مهما بدا الأمر عبثيا. في النهاية يمكنك أن تنظر لها بنفس عين الفن التجريدي. قد تظن أنها شخبطة غريبة. وهي شخبطة وغريبة. لكنها ذات معنى. معنى يختلف من شخص لآخر. لكن يبقى لها معنى. ولها قيمة.

الزمن يتغير. تلك حقيقة بلا جدال. لكن جميل أن تراه يتغير وتؤمن بأن أشد الليالي حلكة يأتي من بعدها حتما تغيير. طالما مازلت حيا فمازال هناك متسع للتغيير، الأكيد أنه ليس في السجن فقط لا تأمن أبدا الدنيا على سلطة أو مال ولكن في حياتك خاصة في مصر أبدا لا تقتنع أن سلطتك أضحت ثابتة بلا مخلخل لها ولا منازع. كما يتغير الحال بشكل مفاجئ في السجن من حال لحال. كما هي نفس البوابة التي تجتازها وأن تعصر الألم في جوفك لقلة حيلتك وأنت مساق للظلم هي نفسها التي تخرج منها وأنت متلهف للحرية وترفع صدرك ورأسك مرفوعة في احتفاء بقوة حيلتك للبقاء.

السجن هذا المكان الذي كان قدرنا منذ الثورة أن نكون من زواره من حين لآخر بشكل أو بآخر. نتركه فيترك فينا أثره ونرجو أن نترك به أثرا. فكم يحتاج المواطنون بداخله إلى عناية واهتمام.

نقص في الرعاية الصحية، وتدن شديد لمستويات التعليم وانتشار بؤر فساد وسيطرة مجموعات المصالح على تسيير حياة الآلاف، أين يحدث هذا أيضا؟ حسنا ليس السجن سوى نموذج مصغر -مركز- لما يوجد في المجتمع ككل…

ولو كنت سأختم حديثي عن تجربة السجن -للوقت الحالي على الأقل- فأعيد ذكر أهم ما ينقص السجن. التعليم والصحة -تقريبا تلك لعنة كافة المجتمعات داخل مصر-.

“التعليم.. يعمل كتير للوطن الضايع وللمواطن الضايع”

في السجن وحدة لمحو الأمية غير مفعلة وغير فعالة نهائيا، حضرت مرة كانوا يجمعون قوائم بأسماء من لم تحصل على أي شهادة بالمرة ولا تعرف الكتابة ولا القراءة نهائيا. وكان عدد من كتبن أسماءهن حوالي نصف العنبر. “مع العلم أن هناك كثيرات لم يكتبن أساسا اسمهن رغم أنهن لا يعرفن الكتابة والقراءة”. أظن أن النسب يمكن قياسها بشكل أفضل على كل. لكن الأهم هو حل المشكلة، بعد أن سجلن أسماءهن تساءلن: لماذا يتم عمل تلك القوائم؟ قالت لها أنهم فقط يريدون تسجيل بعض الأسماء في دورة محو الأمية. وسألت إحداهن:

هل أستطيع أن أحضرها حقاً!

تعجبت السجينة التي كانت تقوم بتسجيل الأسماء وسألتها:

ايه ده عايزة تروحي بجد! مفيهاش فلوس خدي بالك، عموما هبلغهم وأرد عليكي.

لم تحضر الفتاة الدروس رغم أنها أكدت عليها وجود بالفعل فرصة لمحو الأمية جديا. كانت تتمنى أن تهرب من خنقة العنبر وأن تتعلم أيضا كيف تكتب جواباتها بنفسها أو على الأقل تقرأها بنفسها. لكنها لا تملك الوقت -نعم في السجن لا يملك الفقراء أيضا الوقت- إما تتعلم أو تكفل لنفسها طعام وسجائر.

والسبب الرئيسي في ذلك أنه كما شرحت سريعا نظام السجن فإن أغلب السجينات -حوالي ٨٠٪- يعملن منذ فتح باب العنبر في التاسعة صباحا حتى وقت -التمام- في الساعة الواحدة صباحا، ولو توقفن عن الخدمة والعمل فكيف يشبعن جوعهن ويسترن عريهن؟ لهذا فإنهن لا يملكن وقتا للالتحاق بوحدة محو الأمية أساسا.

في السجن مساحات خضراء محرمة على السجناء، فقط للتصوير، فقط حوالي عشرين سجينة من يستمتعن بالمساحات وهن “النبطشيات” أو “المسيرات”، في السجن مكتبة مكثت أتحايل وأحاول جاهدة أن أذهب إليها أو أن يتم إحضار كتب منها وبعد إضراب وخناقات وخمسة أشهر من الكفاح السلمي ضد قرار منع الكتب والورق والأقلام عني، سمحوا لي أخيرا بإحضار كتب من المكتبة وأيضا بإعطائي ورقا وأقلاما. لكن لم يوافقوا على اصطحابي إلى المكتبة، إنما وكلوا إحدى “النبطشيات” بتلك المهمة.

قرأت حوالي خمسين كتاب من المكتبة هناك في الشهرين الأخيرين. وواضح أن لديهم كافة مطبوعات دار الشروق، بالإضافة لدور النشر الحكومية من دار المعارف والهيئة والتراجم. وكلهم على مستوى عال في كافة المجالات. أظن أنها مكتبة عظيمة لكن غير مسموح أيضا للمساجين بالبقاء فيها. السياسي ممنوع يذهب إليها بالأساس، ومن تقرأ من الجنائيات ممنوع تمكث فيها، استعارة فقط، وللأسف ليست ثقافة منتشرة بالطبع لضعف مستوى اللاتي يعلمن القراءة منهن.

الصحة حق أصيل في أي مكان وتحت أي ظرف ولكن “المستشفى عايزة مستشفى !

معاناة. مستشفى السجن حقا حالة سيئة جدا من المعاناة الخالصة. المنظومة الخاصة بالصحة هناك أقرب لباب المشرحة من الإنقاذ. فهي تكاد تكون بلا أطباء -رغم وجودهم- وبلا علاج -رغم وجوده- وبلا فحوصات طبية -رغم وجود الأجهزة- كل ما تملكه المشفى هو كثير من المرضى وقليل من الممرضات بعضهن يحسن مهنتهن. المستشفى عايزة مستشفى هي الجملة التي ترددها النسوة كثيرا هناك.

ما معنى وجود أطباء وعلاج وأجهزة ولا يوجد في الوقت نفسه؟

ربما صعب جدا أن تتخيل معنى أن تعاني من ألم وأنت خلف باب حديدي وعاجز عن مداواة نفسك ولو بمسكن. ربما تستطيع أن تتخيل صعوبة الموقف لو جربت أن تعيش لوحدك وتألمت ليلا ولم تجد من يشتري لك دواء وقضيت ليلة صعبة بصحبة الألم.

رغم أني جربت هذا الموقف وأنا أعيش وحيدة من قبل، إلا أنه كان أسوء بمراحل حينما كنت خلف باب حديدي موصود.

“يا سجانة.. يا سجانة..” مازلت أستطيع سماعهن ينادين في منتصف الليل بصوت جماعي يشوبه الهلع. وتأتي السجانة، تسأل وتستفسر عن المريضة وما بها. في حالة تكون سياسية يكفي أن يجبن عليها قائلات: “سياسية تعبانة” وينتهي الاستجواب لكن تبدأ إجراءات أعقد للحصول على إذن من ضابط المباحث ومن أمن الدولة للموافقة على فتح الباب، مما يستلزم وقت 20 دقيقة على الأقل.

لكن في حالة تكون المريضة ليست سياسية. فيأخذ الأمر حوالي ساعة أو أكثر لو وافقوا أساسا على استدعاء السجانة لها، ويطول استجواب السجانة عن المريضة أكثر ثم تذهب لإحضار المفتاح وتبليغ الضابط النبطشي وفتح البوابة لها.

أما في الوقت الذي تكون فيه أبواب العنبر مفتوحة فالذهاب إلى المستشفى يعني أن تذهب إلى عيادة الاستقبال للممرضة لتحقنك بإحدى الخيارات الثلاثة أو كلهم معا “حقنة مسكن وخافض حرارة/ حقنة مضاد حيوي/ حقنة آلام المعدة”، إنما الذهاب لطبيب معين ليفحصك، فتقف السجينات في طابور طويل لتصل إلى الطبيب الذي يعاملهن بازدراء شديد، جميع الأطباء في المستشفى الذين رأيتهم أو تعاملت معهم هم “ضباط” -90% من الأطباء معاملتهم سيئة جدا للسجينات-، المعاملة تختلف للأفضل في حال السجينة السياسية، لكن يظل الخلل المهني قائما-، تخيل أن تذهب لطبيب لتشكو له وهو لا يريد سماعك ويسخر من ألمك ويفتقر للأجهزة لتشخيصك، في النهاية أغلب الحالات يتم إعطائها أدوية عامة لتسكين الأعراض دون الوصول لتشخيص واضح.

إذا المطلوب فقط هو أن يوجد فنيين للأجهزة وإلزام الأطباء بالحضور في مواعيد ثابتة وبمعاملة مهنية كأطباء مع المرضى وليس كضباط مع سجينات. أما العلاج فالأمر غير مفهوم بالنسبة لي، كل ما أعرفه أنهم يقومون بصرف العلاج حبوب للسجينات بعدد قليل جدا ومن بعض الأدوية فقط، أما الأغلب فيطلبون منها شراء العلاج على حسابها وإن لم تكن تملك مالا أو سجائر فإما يعطونها بديلا للعلاج أو يلغونه ببساطة! لذلك يقولون المستشفى عايزة مستشفى باختصار!

كما أنه يمكن تعليم سجينة من كل عنبر بعض الإسعافات الأولية وتسليمها علاجات أساسية “الضغط- السكر- القلب- مسكن وخافض حرارة- أدوية معدة” مع تجهيز كل عنبر بأجهزة قياس الضغط والسكر وهذا لإسعاف الحالات الطارئة ليلاً.

إلى الخارج… لن تكون أبدا النهاية

في أسبوعي الأول في السجن كنت أردد في عقلي.. أنه ليس كل هذا الهراء إنما كل هذا البؤس يا فيشير.

لكن وأنا أنتظر “الترحيلة السرية” بعدما أبلغوني أني سأخرج حالا من السجن دون جلسة تجديد حبسي ودون أن أفهم الأسباب وبدون أن أعرف وجهتي، في تلك الساعة فكرت في ظلمة الليل والشجر الأخضر يحضن قلبي ويصاحبني الريح وأصوات النسوة تضحك وتحكي وتصيح تكسر الأسوار واصلة لمسامعي بمكاني جالسة منتظرة المجهول، أنظر إلى مباني السجن وقضبان الشبابيك الحديدية والحيوات التي أتركها خلفي.

فكرت لفترة طويلة في وصف لكل هذا طيلة فترة حبسي قرابة العام وأربعة أشهر فقط لأني معارضة. اتهمت بالإرهاب مرتين! ولم أعرف حتى ما هي الجماعة الإرهابية حتى التي اتهمت بها وخرجت بدون جلسة. كم مظلومة تركتها خلفي؟ كم سجينة سياسية يقضى على حياتها في هذا المكان لأنها “معارضة”. كم سجينة تحتاج لمساعدة هناك؟ رددت لنفسي إنه ليس بؤس فحسب، بل يأس وألم وعبث وغباء وفساد وظلم وعذاب وسخرية وكل المعاني واللا معنى. بحر عميق لا يغرق فيه سوى من يطفو على سطحه.

بعدها اصطحبتني مأمورية خاصة بأدب شديد لخارج الأسوار دون أن يقبلوا إجابة سؤالي “إلى أين أتوجه”. قال لي يكفي أن تعلمي أنكِ خارجة إلى الحرية ألا يكفيكِ هذا؟

وأنا أرتدي عباءة السجن البيضاء وأشاهد الطرقات والنساء في ملابسهن الملونة والشارع والهواء الطلق، في سيارة بهيئة ملاكي والضابط بملابسه الملكية في المقعد بجوار النافذة الأمامية الوحيدة بلا ستائر يبذل جهدا ليخفيني خلفه بجسده عن عيون الناس في الخارج ثم بعد حوالي ساعة يطلب مني الضابط نفسه المأمورية بتهذيب جعلني أوافق رغم أني كنت اتخذت من زمن عهدا على نفسي بألا أعرض نفسي لموقف مهين أو سيء أو غير إنساني إلا رغما عني. لكنه طلب أن أضع أي طرحة على عيني لكي لا أعلم الطريق. وفعلت ومازلت ألوم نفسي أني وافقت على شيء يخالف عهدي وهي المرة الوحيدة التي فعلت طيلة فترة حبسي.

وضعت الطرحة على عيني وسألني:

هل أنتِ متأكدة من أنك لا تستطيعي رؤية شيئا؟

فكرت للحظة وأنا أبتسم وقلت: المهم أن تكون أنت تعرف الطريق وترى، ضحك. كان يظن أني أمزح. لم أكن أمزح، لا أحتاج لعيوني لأرى وأعرف الطريق. وقلت في رأسي “بل إنه حقا كل هذا الهراء يا فيشير، إنه فعلا كل هذا الهراء.”

ثم أجبته بهدوء:

لا تقلق لست مهتمة بمعرفة الطريق بقدر ما يهمني أن أصل لوجهتي وهي الحرية.

 

اقرأ أيضا

المشهد الرابع| اللطف الخفي في ثنايا الحلم والتقليعة

المشهد الثالث.. رحلة إلى متاهة عقلية في الانفرادي

المشهد الثاني.. حينما يصبح الموت نجاة من الحياة

المشهد الأول: الإيراد… الداخل مفقود والخارج فاقد شيئاً

مشاهد ومشاهدات من سجن القناطر للنساء