في نهاية عام 2019 شهدت أستراليا واحدة من أسوأ الكوارث الطبيعية (أو ربما غير طبيعية تماما) بسبب موجة من الجفاف الشديد أدت إلى اندلاع حرائق هائلة في مناطق الغابات وغيرها. فقدت أستراليا حسب موقع إبردوريا 8.4 ملايين هكتار من غاباتها، و1300 منزلا، بينما قتل 27 شخصا، وحوالي مليار حيوان من فصائل مختلفة. في مارس من عام 2019 ضرب اﻹعصار إداي، كل من موزمبيق وزيمبابوي ومالاوي، في شرق الجزء الجنوبي من القارة الأفريقية. حسب تقرير مؤشر المخاطر المناخية لعام 2021، تسبب اﻹعصار في خسائر كارثية وأزمة إنسانية في في الدول الثلاث، وهو اﻷسوأ واﻷعلى من حيث عدد ضحاياه في تاريخ هذه المنطقة من العالم.
ما سبب هذا الجفاف الشديد (غير الطبيعي) في أستراليا، والإعصار (غير الطبيعي) الأكثر قوة وتدميرا في شرق إفريقيا؟ إنه تغير المناخ. الجفاف الشديد واﻷعاصير ذات القوة غير المعتادة، هي من بين الظواهر الناتجة عن أن مناخ كوكبنا يتغير بمعدل متسارع، نتيجة لممارسات بشرية مختلفة، أهمها بالطبع هو استخدام الطاقة المنتجة بحرق الوقود، في مجالات الصناعة والنقل وغيرها. تغير المناخ هو أحد أهم التحديات التي تواجه وجود البشر على هذا الكوكب، إن لم يكن في الحقيقة أهمها على الإطلاق، فكل المخاطر الأخرى التي يمكن تصورها، والتي يمكن أن تؤدي في أسوأ صورها إلى انقراض الجنس البشري، هي إما متدنية الاحتمال كثيرا أو هي نظرية أكثر منها عملية. ولكن تغير المناخ حتمي، وهو عملية مستمرة بالفعل، وليس في أيدي البشر سوى العمل على تخفيف آثاره، ثم محاولة تخفيفها مع الوقت لاحقا.
تغير المناخ هو موضوع واحدة من أوسع عمليات التعاون الدولي التي تتبناها الأمم المتحدة، ولذلك تعقد مؤتمرا سنويا لمناقشة تطور العمل المشترك للتعامل معه. المؤتمر الذي بدأ قبل بداية هذا الشهر في مدينة جلاسجو هو رقم 26 في سلسلة مؤتمرات المناخ، وحضر شقه رفيع المستوى عديد من رؤساء وقادة دول العالم كان من بينهم الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ألقى كلمة باسم مصر في اجتماعات القمة، وفي هذه الكلمة تحدث عن جهود مصر للوفاء بالتزاماتها الدولية ذات الصلة من جانب، وللاستعداد لمواجهة آثار تغير المناخ عليها. في الشق الثاني من الكلمة القصيرة أشار الرئيس إلى ضرورة التوصل إلى توافق دولي سريع يسمح بأن تلتزم دول الشمال الصناعي المتقدم بأداء دورها وتقديم المساعدات اللازمة لدول الجنوب النامي، التي أسهمت بأقل قدر في دفع مناخ الأرض إلى التدهور، بينما تتحمل نصيبا أكبر من الآثار الكارثية لهذا التدهور.
لماذا ينبغي أن نهتم؟
مصر هي واحدة من أكثر بلدان العالم عرضة لمخاطر كارثية نتيجة لتغير المناخ. المخاطر الرئيسية التي تهدد مصر في العقود القليلة القادمة هي: أولا خطر غرق مساحات واسعة من سواحلنا، خاصة الشمالية نتيجة ارتفاع منسوب البحر الأبيض المتوسط مع غيره من محيطات وبحار العالم. حسب التقديرات العلمية من المتوقع إذا ما استمر متوسط درجات الحرارة عالميا في الارتفاع بمعدلاته الحالية دون العمل على وقف أو تحجيم أسباب ارتفاعه، ومعه استمر ارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار نتيجة لذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، فسوف يبلغ هذا الارتفاع حوالي من 18 إلى 59 سم مع نهاية القرن. بالنسبة للبحر المتوسط فإن قدر ارتفاع منسوبه سيصل إلى 50 سم في عام 2050. مثل هذا الارتفاع، والذي لن يتوقف عند هذا الحد، قد يؤدي إلى غرق مساحات واسعة من الدلتا. في بعض التقديرات قد يصل ذلك إلى ثلث مساحة الدلتا. لا يحتاج ذلك إلى مزيد من الإيضاح لتبين قدر كارثية آثاره على الحياة في مصر.
إلى جانب غرق سواحل الدلتا نتيجة ارتفاع منسوب سطح البحر، ثمة آثار كارثية أخرى لتغير المناخ بالنسبة لمصر أهمها الجفاف ومعه تقلص مساحات الأراضي المزروعة، نتيجة تناقص موارد المياه وبصفة خاصة مياه نهر النيل، وهذا أثر مستقل تماما وإضافي إلى آثار بناء سد النهضة الإثيوبي. ثمة أيضا تناقص إنتاج الغذاء نتيجة ارتفاع متوسط درجات الحرارة خلال العام مما سيؤثر على محاصيل زراعية عدة. الأثر التالي هو ازدياد معدلات انتشار الأمراض المعدية مع ارتفاع درجات الحرارة. وفي النهاية ثمة أيضا الأثر الضار بالشعاب المرجانية التي تتميز بها سواحل مصر على البحر الأحمر وهي إحدى عوامل الجذب الرئيسية للسياحة الخارجية إلى هذه المنطقة من مصر.
اقرأ أيضا:
هل تغرق الإسكندرية؟
إن لم تكن ممن يقتنعون بالتقديرات المستقبلية، ولا تصدق حتى نشرة الأحوال الجوية، فربما يكفي أن تلاحظ كيف تغير مناخ مصر بشكل ملموس خلال العقود والسنوات الأخيرة. أغلب متوسطي وكبار العمر يمكنهم تأكيد أن صيفنا أصبح أطول وأكثر حرارة، وأن شتاءنا أصبح أقصر مع إمكانية مرور فترات فيه شديدة البرودة. لم يعد مناخ مصر بأي حال حار جاف صيفا، دافئ معتدل شتاء، كما كانت تعلمنا كتب الجغرافيا في المدارس. تآكل سواحلنا الشمالية وارتفاع نسبة الملوحة للأراضي الزراعية التي تتآكل بدورها عند أطرافها في الدلتا والفيوم، كل تلك آثار فعلية ملموسة لتغير المناخ والتي لا زالت في بدايتها. لا سبيل لأي عاقل في هذا البلد أن ينكر أن تغير المناخ حقيقة، وأن آثاره واقع بدأنا نلمسه ونعيشه، ومن ثم فالقادم الأسوأ يعنينا جميعا لأنه يهدد وجودنا ومعيشتنا ومستقبل أبنائنا ومستقبل هذا البلد.
هل نحن مستعدون؟
ثمة صراع حول تحمل المسؤولية تجاه تغير المناخ العالمي. هذا الصراع طرفاه هما دول الشمال الصناعي المتقدم، ودول الجنوب النامية، أو المفتقرة إلى التنمية. هذا الصراع غير متكافئ بالطبع نتيجة التفاوت الهائل في الموارد والقدرات بين طرفيه، ولكن أقل تكافؤا أيضا لأن مواقف دول الجنوب أقل توحدا، أكثر عشوائية، ولا تقود كثير منها مراعاة المصلحة العامة. دول الجنوب بالطبع تفتقر في غالبيتها العظمى إلى الأنظمة الديموقراطية المساءلة أمام شعوبها، ويحكم أغلبها أنظمة استبدادية وفاسدة، مما يعني أنها أقرب إلى التضحية بمصالح شعوبها لتحقيق مصالح أصحاب النفوذ، والذين كثيرا ما يهرعون إلى فراش الشركات العالمية الكبرى التي تنقل صناعاتها الكثيفة الاستهلاك للطاقة وعالية التلوث من دول الشمال ذات القوانين الأكثر صرامة، إلى دول الجنوب التي يصدر معظمها قوانين ضعيفة لحماية البيئة بدعوى جذب الاستثمار الأجنبي، وهو عادة عنوان عريض براق ولكنه وهمي يخفي وراءه صفقات شراكة ورشاوى تذهب إلى جيوب المسؤولين الذين يملكون تمرير الموافقات والتراخيص.
ولكن ثمة مشكلة إضافية تعاني منها دول الجنوب ومن بينها مصر، فحتى مع غياب نظام ديموقراطي يمكن للرأي العام في أي دولة أن يمثل ضغطا ذا أثر ملموس على نظامها الحاكم. في نهاية المطاف ليس ثمة نظام حاكم، مهما بلغ إحكام سيطرته على الأمور، بمأمن بشكل كامل من الإطاحة به إذا ما بلغ الغضب الشعبي ضده حجما ومستوى معينا. والنظم الديكتاتورية كغيرها تسعى إلى إرضاء شعوبها، وإن كان ذلك بالطبع بمعدل أقل كثيرا من الأنظمة التي تنتخب حكوماتها الشعوب في انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة. ولكن هذا بالطبع لن يكون ذا قيمة في حال ما إذا كان الرأي العام غافلًا عن مصالحه، ومن ثم فهو لا يشكل ضغطا من أي نوع على حكومته لتحقيق هذه المصالح. وذلك هو حال غالبية شعوب الجنوب، بل وحتى أكثر شعوب الشمال، فيما يتعلق بقضية التغير المناخي وما ينبغي اتخاذه من إجراءات تحول دون الأسوأ من آثارها الكارثية.
تغير المناخ هو أحد هذه التحديات المعاصرة التي تواجه عالمنا والناتجة عن التطور المتسارع لحياة البشر ومجتمعاتهم، ولذلك فهذه التحديات جميعا تتميز بأن الحقائق المتعلقة بها معقدة بقدر تعقيد المجتمع والعالم الذي أنتجها. ولأن هذه الحقائق معقدة، فهي تحتاج لإدراك مداها وحجمها إلى قدر من المعرفة. ليس هذا القدر كبيرا بأي حال، ولا يصل أبدا إلى قدر معرفة المتخصصين في أي مجال، في وقتنا الحالي، ولكنه القدر الذي يمكن أن يوفره تعليم منهجي مكافئ لما توفره المدارس لطلاب المرحلة الإعدادية، في ظل منظومة تعليم حديثة وكفء. نظريا إذن ينبغي لبلد يفرض نظام تعليم إلزامي حتى نهاية المرحلة الإعدادية أن يكون للغالبية العظمى من سكانه القدرة على إدراك الحقائق الأساسية المتعلقة بموضوع مثل تغير المناخ. ولكن الحقيقة هي بالطبع على عكس ذلك. فمصر التي سبقت كل دول المنطقة في إنشاء مدارس تعليم نظامي حديثة في القرن التاسع عشر، والتي أقرت مجانية التعليم الإبتدائي قبل منتصف القرن الماضي، ثم مددته إلى بقية مراحل التعليم بعد ثورة 1952، وفرضت تعليما إلزاميا لكل سكانها حتى نهاية المرحلة الإعدادية، لا يزال 40% من سكانها أميون لا يجيدون حتى القراءة أو الكتابة. وبرغم أن هذا أمر مخز في حد ذاته، فهو ليس المشكلة الرئيسية، فالحقيقة أن منظومة التعليم في مصر في أدنى مستوياتها في تاريخها الحديث، وهي بين الأدنى من حيث الجودة في العالم كله، وهو ما يعني أن ما تنتجه هذه المنظومة أي البشر من حيث المعرفة الأساسية والقدرة على تلقي المعلومات هو منتج ردئ، لنستخدم مصطلحا مباشرا وصحيحا.
ثمة آلاف الأمثلة التي يمكن ضربها لنتائج تدني مستوى التعليم في مصر، ومدى افتقار أكثر المصريين إلى الحد الأدنى من المعرفة اللازم للتعامل الإيجابي والفعال مع عالم حديث في عشرينات القرن الحادي والعشرين، ولكن المثال الأبرز والذي نعيشه حاليا هو تعامل المصريين مع وباء الكورونا. فالمصريون كانوا بين أقل شعوب العالم استعدادا للتعامل مع هذا الوباء، وهذا أمر يزيد من وطأته أن كل شعوب العالم لم تكن مستعدة بالقدر الكافي لهذا الوباء، ولكن المصريين كما نرى جميعا بأنفسنا هم من بين أقل شعوب العالم اهتماما بالالتزام بإجراءات الوقاية من العدوى. يكفي فقط أن تعد بشكل عشوائي من يستخدمون الأقنعة الواقية في أي مكان عام مفتوح أو مغلق في مصر، ويكفي أن تطلع على الإحصائيات الرسمية عن معدل تلقي التطعيم ضد الفيروس.
في مقالي السابق أشرت إلى الفجوة الهائلة التي تفصل شعوب دول مثل مصر عن شعوب العالم التي تسارع إلى الدخول إلى المستقبل متسلحة بالأدوات الفعالة للتعامل معه. ولا يختلف الأمر بأي حال عندما يتعلق بالاستعداد لمواجهة خطر وجودي مثل تغير المناخ. فهو أحد هذه المخاطر التي تستعد دول العالم لمواجهتها بقدرات متفاوتة نتيجة فجوات القدرات الاقتصادية والتكنولوجية، ولكنه إضافة إلى ذلك تحد تجد دول الجنوب الأفقر والأقل تقدما نفسها في مواجهة ليست معه فقط ولكن مع دول الشمال الأكثر ثراء وتقدما، فمصالح الطرفين متعارضة، سواء من حيث توزيع أعباء تقليص أثر الصناعة والتنمية على المناخ أو من حيث توزيع أعباء الإنفاق على نشر المعرفة العملية والتكنولوجيا اللازمة لمواجهة آثار تغير المناخ. هذه معركة يلعب فيها وعي الشعوب دورا مركزيا شديد الأهمية، فمصالح الأكثر نفوذا في العالم كله تتعارض مع مصالح الغالبية العظمى بشكل تام بخصوصه، ويكفي الإشارة إلى قدر ما يتم إنفاقه سنويا لنشر دعاية مشككة في قضية تغير المناخ بالكلية، إلى الحد الذي توجد معه شعوب دول متقدمة مثل الولايات المتحدة تؤمن غالبيتها بأن تغير المناخ مجرد إشاعة وأكذوبة.
تغير المناخ هو أحد هذه القضايا التي لا يمكن لأي من المجتمعات التعامل معها إلا إذا تسلح بالمعرفة، بداية بالحد الأدنى المطلوب لانتشار الوعي بها ووصولا إلى الحد الأعلى الذي ينبغي أن يتوافر للمتخصصين الذين يتحملون عبء تخطيط وإدارة التعامل المباشر مع الجوانب المختلفة لهذا التحدي. لا تتسلح الشعوب بالمعرفة الصحيحة إن لم تؤمن بالعلم وتتخلى عن الخرافة. وهذا يتطلب منظومة تعليمية عالية الكفاءة ومكتملة الشمول، ويتطلب استخداما مكثفا لوسائل نشر المعرفة الموازية والمكملة والبديلة عن المنظومة الرسمية، يتطلب اهتماما حقيقيا للمؤسسات الرسمية ودورا نشطا وقويا للمجتمع المدني. المائة عام التالية ستكون حاسمة في تاريخ شعوب كوكبنا، وهي عنق زجاجة لن تعبره إلا الشعوب التي تنظر إلى الأمام وتعي ما يتطلبه استمرار وجودها نفسه وما تحتاجه للعبور إلى المستقبل. المعرفة هي قارب النجاة والعلم محركه، أما الجهل والخرافة فهما أثقال الماضي، ومن تمسك بهما كتب على نفسه الغرق.