ملخص المقال السابق:

ما يحدث في السودان، ليس شأنًا سودانيًا (إلا في أقل القليل)؛ فالمنطقة كلها مصابة بلعنة الضعف، والتفكك، وتبعية المسار والمصير. وبالتالي فإن حديث «ثورة أم انقلاب» له ظاهر يتعلق بأمنيات وتطلعات الناس في حياة مدنية عادلة وكريمة. بينما الجوهر مرهونًا بسياق دولي بعيد تمامًا عن تطلعات الحالمين، ليس في السودان فقط. لكن في كل أقطار المنطقة.

مقالنا اليوم يركز على «الحالة الأفريقية» التي تتصارع على أرضها قوى كبرى، وتعسكر في بدنها الجغرافي قواعد تسليح وتجسس. كما يعسكر في بدنها السياسي وكلاء يحتلون قصور الحكم ومؤسسات صنع القرار. الصراع الداخلي في أفريقيا بين شعوب مسلوبة وحكام بوجوه أفريقية وقلوب أمريكية، أما الصراع الخارجي تتصدره الآن كل من أمريكا والصين: الاستراتيجية الصينية في الصراع ذات قناع اقتصادي تجاري بعنوان «الحزام والطريق» (استلهامًا لطريق الحرير في العصور القديمة)، والاستراتيجية الأمريكية تسمى «العبور إلى أفريقيا». وهو عبور معاكس لرحلات جلب الأفارقة إلى الأرض الجديدة كعبيد وقوة عمل رخيصة. أما الآن فلا يحتاجون البشر.. يحتاجون الثروات المدفونة في الجغرافيا، ويحتاجون قواعد التمركز العسكري لتأمين مصالحهم. ومن هذه النظرة الكلية نستطيع أن «نلضم» حبات العقد السياسي «المفروط». بحيث لا نتعامل مع الأحداث متفرقةً، بل يجب تجميع قطع «البازل» بشكل صحيح، لنرى الصورة مكتملة. فما حدث في الصومال، لا ينفصل عما حدث في مصر، وكذلك ليبيا وتونس والجزائر وتشاد وإثيوبيا ومالي والسودان والمغرب وموريتانيا والسنغال وما يسمى بجمهورية الصحراء.

الصراع الجديد تتداخل فيه أطراف أخرى مثل روسيا وإسرائيل، ويشارك في الصراع بنسب متباينة ممثلو الاستعمار الأوروبي القديم (الذي انفرد بالقطفة الأولى من الخيرات الأفريقية). وأعتقد أن نظرة سريعة للأطراف المشتبكة مع الملف الليبي، توضح لنا الكثير، باعتبار أن ليبيا تم تفكيكها كدولة، وتحويلها إلى «ساحة صراع» أو «مسرح عمليات»، تحاول أمريكا من خلاله ترتيب نسب المحاصصة، بحيث تحصل على نصيب الأسد. وبالتالي يجب الحد مثلاً من النفوذ الفرنسي، من خلال السماح بمشاركة أطراف أخرى مناوئة للوجود الفرانكفوني العميق في أنظمة كثير من الدول الأفريقية (مثل تركيا وروسيا)، والعمل على صنع تعارضات وضرب الدول الطامحة للمكاسب بعضها ببعض، في إطار تخليق حالة من الفوضى والضبابية. بينما أمريكا تتقدم على أسس استراتيجية ودراسات معدة سلفًا لإنجاز مهمتها في أفريقيا، تحت شعارات: تحقيق الاستقرار، وضمان أمن وتنمية القارة السمراء.

لقراءة المقال كاملاً.. اضغط هنا

خرافة بلدٍ تَعًرّتْ.. فأصابتها اللعنة

في مثل هذه الأيام قبل عامين، تحدث حاكم مصر وقائدها العسكري الأعلى أمام حشد محترم من القيادات العسكرية والاستراتيجية في الندوة التثقيفية رقم 31 للقوات المسلحة، فقال بالحرف: «لو مكانش 2011 كان هيبقى فيه اتفاق قوي وسهل من أجل إقامة هذا السد (يقصد سد النهضة). لكن لما البلد كشفت ضهرها (وأنا آسف) وعرت كتفها، فأي حاجة تتعمل بقى.. ولو مخدتوش بالكو، هيتعمل فيكو أكتر من كده».

هل هذا الكلام صحيح على مستوى المعلومات والفهم الاستراتيجي للتحديات التي تواجهها مصر؟

تعالوا نصعد سلم الوقائع لنرى المشهد الواسع:

في أبريل 1986 شنت أمريكا ضربات جوية ضد ليبيا في عملية أطلقت عليها اسم “إلـدرادو كانيون”، لمجرد مطالبة ليبيا بمياه خليج سرت. وهو ما اعتبرته واشنطن تحديًا وإزعاجًا لمهابة أسطولها السادس في البحر المتوسط. وبعد سنوات قليلة قرأت تصريحًا للأميرال مايكل مولن رئيس أركان البحرية الأمريكية، يتحدث فيه عن إعادة توزيع الأسطول وتحريكه باتجاه الساحل الغربي لأفريقيا، وكذلك باتجاه القرن الأفريقي في شرق القارة.

التحرك الثاني ارتبط بذريعة مكافحة القرصنة الصومالية، أما التحرك الأول فظل مجهول الأهداف، حتى تأسست القوة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) بعد 20 عامًا من تقريبًا عملية «إل درادو»، واسم العملية يشير صراحة إلى أسطورة «البحث عن الذهب». وهذا يعني أن ذريعة دعم الإهاب التي استندت إليها واشنطن لم تكن كل شيء، لأن اسم العملية يوحي بأهداف أخرى ستكشف عنها الأيام.

ميزانسين سياسي:

المهتمون بالمسرح يعرفون مصطلح «الميزانسين»، الذي يختص بترتيب المشهد وحركة الممثلين على الخشبة، بحيث يستطيع المتفرج أن يشاهد الأحداث بأفضل طريقة بالرغم من ثباته في الكرسي أمام «الحائط الوحيد المفتوح في علبة المسرح رباعية الجدران».

من الناحية اللغوية يتكون المصطلح من ثلاث كلمات فرنسية (ميز – إن – سين). وهي تعني بالترتيب (الحركة – في – المشهد). ومن خلال متابعتي لحركة رؤساء الدول وزيارات المسؤولين، استهوتني قراءة «الميزانسين السياسي»، حيث يمكننا التعرف على المشهد برؤية أوسع وأوضح. وتطبيقًا لذلك تعالوا نقرأ معًا أسباب تحريك القطع البحرية للأسطول السادس، لنربط بين الأحداث بشكل أفضل:

صار معروفًا للمهتمين بالشأن الأمريكي ارتباط التحركات العسكرية بالتصريحات الدبلوماسية، والعكس. بمعنى أن تحريك المزيد من القطع البحرية الأمريكية نحو الشرق الأوسط، وتأسيس قيادة خاصة لأفريقيا بعد هجمات 11 سبتمبر، يخبرنا عن وجود مهمة كبيرة تستدعي تلك التحركات، التي تم دعمها بالمدمرة «ستاوت»، بعد سحبها من البحر الأسود مع قطع أخرى تم توزيعها بشكل مكثف على السواحل اليمنية والصومالية، وكذلك في المحيط الهندي بالقرب من إيران، وقيل حينها إن هذه التحركات لا تسعى لشن هجمات محددة، لكنها تحركات في إطار ما أطلق عليه العسكريون الأمريكيون “حزام الردع”..

ردع من؟

والحزام يحيط بمن؟

الإجابات الأمريكية المباشرة كاذبة ومضللة. فهي تتحدث مرة عن العراق، ومرة عن  الصومال، ومرة عن أفغانستان، ومرة عن سوريا، ومرة عن داعش، ومرة عن إيران وأذرعها، وأخيرًا عن الصين كقوة عسكرية مخيفة ينبغي مواجهة تمددها. وفي كل المرات يكون الإرهاب حاضرًا في الشعارات والتصريحات الدبلوماسية، ولا فرق حقيقي بين فترات حكم ريجان وكلينتون وبوش الأب والابن وأوباما وترامب وبايدن. «الكل يعزف من نوتة الاستراتيجية»، بصرف النظر عن اختلاف التصريحات والخطاب الإعلامي لكل رئيس.

الإدارة المصرية تتحدث عادة عن المفاجآت، وتضع نفسها دائمًا تحت الشعار الميلودرامي الفرنسي: «الزوج آخر من يعلم». وبالتالي لا تنظر إلى المتغيرات والتحديات التي ظهرت لها في ليبيا والسودان وأثيوبيا، باعتبارها وليدة خطط وسياسات، لكن باعتبارها نتيجة لمظاهرات الشباب غير الواعي الذي كشف ظهر بلده، عندما خرج للمطالبة بالحرية والعدل والعيش الكريم. لذلك يمكننا تذكير الغافلين بالخطط التي يجهلونها (في حالة البراءة الساذجة) أو يتواطؤون معها (في حالة العمالة المسكوت عنها لقاء معونة).

اليد السوداء لأمريكا

أشرت من قبل إلى ارتباط التاريخ الأمريكي بمرحلة جلب الزنوج كقوة عمل رخيصة، ثم العبور المعاكس للأطلسي من أجل نهب خيرات العبيد الذين بقوا في الأرض، حسب النظرة الاستعلائية الأمريكية.

في بداية القرن الماضي، كان الاهتمام الأمريكي بأفريقيا متأثرًا بالحالة «الطرزانية» ومغامرات الغابة، لذلك ذهب روزفلت في ربيع 1909 في رحلة «سفاري» إلى شرق أفريقيا مع مجموعة من العلماء ورجال السياسة والمال. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أضافت الولايات المتحدة البعد العسكري لسياستها تجاه أفريقيا، وأرسلت أسطولها السادس للتمركز في سقف القارة. وفي الحرب العالمية الثانية كان الجنرال باتون حاضرًا في الشمال الأفريقي. وبالمناسبة، فإن «معسكر هايكستب» يذكرنا بالتواجد العسكري الأمريكي، لأن الاسم تخليد للضابط الأمريكي «هاك ستيب» الذي قتل في معارك العلمين. ومع نهاية الحرب أنشأت واشنطن قاعدة عسكرية في «مونروفيا» غرب أفريقيا، ثم قاعدة أخرى في «مصوع» شرق أفريقيا، وقواعد أخرى في المغرب وجنوب أفريقيا ومدغشقر وليبيا ومصر. وكان الهدف المعلن هو «سلامة الأمن الدولي» و«مواجهة الخطر الشيوعي». أما الهدف المستتر فهو تدشين الطريق إلى آبار النفط في الشرق الأوسط وأفريقيا.

نسيت حلقة صغيرة (لأنها سقطت بدون ضجة)، وهي تأسيس «الجمعية الأفريقية للأعمال» بعد 30 عامًا تقريبًا من رحلة روزفلت الفلكلورية. وكانت أشبه بمجلس اقتصادي وثقافي يربط بين السود وقارة الأجداد، وانتهى دور هذا المجلس في منتصف الخمسينيات، خوفًا من المد الشيوعي، الذي بدأ يهدد قلب أمريكا نفسها، فظهرت الحالة المكارثية كرد فعل داخلي. أما في الخارج فقد تبنت الدبلوماسية الأمريكية شعار «الحرب الباردة»، واستخدمت أفريقيا وغيرها كبيادق مطيعة على رقعة الاستراتيجية، مرة لمكافحة الشيوعية، ومرة لمحاربة الديكتاتوريات الإقليمية التي تحيد عن الديموقراطية (العراق نموذجًا)، ومرة لمحاربة الإرهاب (كما في العرض الحالي).

بعد نهاية الحرب الثانية ورثت أمريكا نصيبًا معنويًا من نفوذ الاستعمار القديم في أفريقيا، لكنه كان كافيًا لتشكيل أحلاف وميليشيات، ودعم انقلابات ذات طابع عسكري، أو تنفيذ اغتيالات لزعماء أفارقة مناهضين للسياسة الأمريكية، مثل «باتريس لومومبا»، الذي أمر إيزنهاور باغتياله، حسب وثائق كشفت عنها المخابرات المركزية مؤخرًا. كما ساعدت موبوتو في تنفيذ انقلابه العسكري في الكونغو، وسلحت المعارضة ضد جوليوس نيريري في تنزانيا، وكذلك ضد سلطة الاستقلال في أنجولا.

هكذا على عجالة يتضح لنا دور واشنطن في دعم الانقلابات العسكرية في أفريقيا. وهو الأمر الذي ظهر مبكرًا من خلال الدعم الأمريكي للضباط الأحرار في مصر، كخطوة ترغب فيها واشنطن لتصفية الوجود الإنجليزي وارتباطه بالحقبة الملكية، من أجل عهد جديد تنفرد فيها أمريكا بقيادة العالم.

شعرت واشنطن بالخطر الشيوعي عندما ربحت موسكو العديد من الجولات ضد الوجود الأمريكي في أفريقيا، حيث تراجعت القواعد الأمريكية في ليبيريا وليبيا ومصر. لكن واشنطن تمكنت من دعم انقلاب في ليبيريا، وقدمت دعمًا كبيرًا للانقلاب الدموي الذي قاده الرقيب صامويل دو. وهو النهج الذي مارسته أمريكا لتغيير الأنظمة في العديد من الدول الأفريقية التي سعت لتطبيق الاشتراكية والتقارب مع السوفييت. كما حدث في إثيوبيا والصومال والعديد من الدول.

مع سقوط الاتحاد السوفيتي حدثت حالة من الاسترخاء الاستراتيجي الأمريكي، وانطفأت الحرب الباردة خلال فترة كارتر، لكن واشنطن لم تنس أهدافها الاستنزافية في أفريقيا، وبعد عامين تقريبًا من تفكك الاتحاد السوفيتي نفذت أمريكا عملية عسكرية فاشلة في الصومال، كانت تهدف لتأسيس نظام تابع وفرض تواجد عسكري مقبول من أنظمة الحكم المحلية، لتأمين الطريق إلى الطاقة والنفط. وهو الدور الذي استعاده بيل كلينتون بقوة من خلال التدخل لإنهاء الحرب في زائير عام 1996، بالتخلي الصريح عن حليف واشنطن السابق (الجنرال موبوتو). وهذا ما فعله كلينتون لتسوية صراعات أخرى في أوغندا ورواندا بهدف تعزيز وجود عسكري أمريكي وأنظمة موالية في كثير من دول القارة، تحت زعامة ما أسماهم كلينتون «الجيل الجديد من القادة»، ومنهم موسيفيني في أوغندة وكاجاما في رواندا وملليس زيناوي في اثيوبيا.

هنا يحضرني ما قاله الباحث «فانس سيرتشوك» في تقرير أصدره معهد «أميركان إنتربرايز»، حيث وصف إثيوبيا بأنها «وكيل أمريكا الرسمي في القرن الأفريقي»، وكشف عن تطوير مهمة قوة العمل المشتركة التي تتمركز في «معسكر ليمونييه» بجيبوتي، من خلال تعاونها المكثف مع الجيش الأوغندي والقوة الأممية والأفريقية لحفظ السلام، وعمليات التدخل المستمر في أحشاء القارة، تحت غطاء مهام إنسانية، مثل فيضانات إثيوبيا ووباء الماشية في كينيا، وتجديد ملجأ أيتام في جيبوتي!

الطريف أن اهتمام كلينتون بتنشيط الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا وزيارته الطويلة لخمسة من أقطارها في عام 1998، وافتتاح مكتب له في حي هارلم (حي الزنوج في نيويورك) ساعد على رواج مقولة أمريكية تصف الرئيس (المعجباني الأشقر) بأنه أول رئيس أمريكي أسود.

لم يكن الاختراق الأمركي لأفريقيا سهلاً، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الشيوعية، فقد ظهرت مخاطر ومعوقات جديدة تتمثل في استراتيجية طريق الحرير الصينية، وفي ظهور جماعات مسلحة ترتبط بمرجعيات دينية وسياسية مناهضة لأمريكا، وبالتزامن مع زيارة كلينتون حدث تفجير لسفارة أمريكا في كل من كينيا وتنزانيا، وشنت واشنطن غارة على السودان بزعم وجود مصانع لإنتاج أسلحة كيماوية، وتعيين مبعوث أمريكي في الخرطوم بزعم التوصل لحل سلمي ينهي الصراع بين الجنوب والشمال، وانتهى الحل باتفاق سلام في عام 2005 أفضى إلى انفصال الجنوب عن الشمال، وإرسال أمريكا للمزيد من قواتها تحت غطاء تأمين الرعايا والمصالح الأمريكية في الجنوب الغني بالنفط، في حين استمرت الحرب في دارفور القاحلة، لتنجب للشمال إنقلابيًا من طراز صامويل دو يدعى «حمدان دقلو».

هل فكرت إثيوبيا في سد النهضة بعد ثورة يناير؟

لا يصح أن نسأل هذا السؤال، ومن السذاجة أن نجيب عليه، فمثل هذه المشاريع أكبر من طاقة إثيوبيا المالية والهندسية، وأكبر من احتياجاتها الاقتصادية المحلية، ولا يمكن فهم المشروع دون إدارك الوضع الدولي في أفريقيا. فالمعروف أن إثيوبيا هشة اقتصاديًا، وتعيش بفضل مساعدات أجنبية سنوية تزيد عن ملياري دولار، (ثلث ميزانية إثيوبيا)، نصفها مساعدات أمريكية مشروطة بالتبعية لواشنطن وسياساتها، وتفاصيل هذه التبعية مذكورة في تقرير صادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) يخبرنا فيه أن الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية التي تحكم إثيوبيا منذ مطلع التسعينيات، مجرد ذراع أمريكي في القرن الأفريقي، يقوم بأدوار مدفوعة مسبقًا، بالإضافة إلى الدور الأمريكي المباشر الذي تقوم به «أفريكوم» والقوات المتدربة في المناورات العديدة مثل «أوبسيرفانت كومباس» التي تدرب الجيوش المحلية لمواجهة «جيش الرب» الأوغندي، و«كوتلاس إكسبريس» التي أسست لتحالف بحري محلي تحت غطاء مكافحة القرصنة والمخدرات والصيد غير المشروع، وتأسيس مركز استخبارات لتبادل المعلومات وتنسيق العمليات بين القوات البحرية الدولية في القرن الأفريقي، وهي المهام التي كان الجنرال جيمس جونز (مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق) يتحدث عنها كأهداف مستقبلية.

لكن الواقع منح أمريكا أكثر مما حلمت بفضل القادة المحليين المأجورين بأموال المعونات، فقد كان جونز يحلم بقوات بحرية قوية للتدخل السريع، فإذا ببلاده تحصل خلال سنوات قليلة على مميزات عسكرية مطلقة في إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي، حتى أن رامسفيلد أعلن بفخر في عام 2003 حق الطائرات الأمريكية بالتحليق في سماء الشرق الأفريقي، وحق استخدام ميناء عصب الإريتري، كما أشاد بوجود بؤرة حربية واستخباراتية نشطة في هذه المنطقة، وتشغيل نظام مراقبة بحري وجوي يضمن السيطرة العسكرية لأمريكا، في الوقت الذي يتحدث فيه بعض السذج عن إمكانية تحليق قاذفات حربية لقصف سد النهضة مثلاً بدون تنسيق أو إذن مسبق من سادة المنطقة!

السودان يا جلالة الرئيس

تحت هذا العنوان كتبت مقالاً لمبارك، وللرئيس الحالي، والمقال جزءًا من تنبيه طويل يحذر من إهمال السياسة المصرية للسودان ولدول منابع النيل، خاصة بعد محاولة اغتيال مبارك عام 1995، وهي الجريمة التي تدفع مصر ثمنها اليوم، ضمن جرائم كثيرة تتعلق بالتهاون في الحدود الواسعة للأمن القومي المصري، الذي يعاني في الغرب من تفكك دولة وتحولها إلى منطقة تجميع لميليشيات وقوى عسكرية متنافرة المصالح، كما يعاني في الجنوب من عدم استقرار وعصابات تهريب تذكرنا بسؤال: «مصطفى النجار فين؟»، وتعاني في الشرق من أنفاق لا يمكن أن تتم إلا باتفاق أو صمت مريب من الجهة التي تلقت ملايين الدولارات نظير بناء ستار حديدي تحت الأرض على الحدود مع الأرض المحتلة، فإذا بالحدود كالجبنة السويسرية! أما الشمال فلا يمكننا الحديث عنه في عجالة، حيث تحضر القوى الدولية بكثافة لتقطيع «تورتة الغاز» وتوزيع الأنصبة حسب موازين القوة، بحيث يغيب أصحاب الحق في لبنان وسوريا وفلسطين لصالح الليفيثان المتوحش والشركات العملاقة التي تمثل دولها.

القصة طويلة، والمقال تجاوز الحد المسموح للقراءة الميسورة، وأتمنى لو تصل الرسالة بأن القصة لم تبدأ في 2011 ولن تنتهي عندها.. هناك شيء اسمه التاريخ، هناك شيء اسمه الاستراتيجية، وللقصة بقية دائمًا…