لا يعرف الكثيرون أنه بغير وجود المحامين لا توجد محاكمة عادلة. بلغة أخرى وجود المحامين هو ضمان عدالة المحاكمة. لا يستطيع القاضي أن يحاكم متهمًا في جريمة، ما لم يكن هناك محام يمثله، فإن لم يكن له محام، التزم بأن ينتدب له محاميا، وأن يمنح المحامي الوقت الكافي للاطلاع وتجهيز دفاعه، وأن يفسح له المجال كي يُلقي هذا الدفاع أمامه شفاهة في قاعة الجلسة، فيما يسمي بالمرافعة.

والنيابة العامة ليست أكثر من خصم في الدعوى. صحيح أن وكيل النيابة يجلس مع القاضي على ذات المنصة، ولكن ذلك لا يعطيه ميزة إضافية لا يتمتع بها المحامي؛ فسكرتير الجلسة يجلس على ذات المنصة، ولا يعطيه ذلك أية ميزة إضافية. وممثل النيابة العامة يترافع وهو واقفًا أمام القضاة شأنه شأن المحامي؛ فكلاهما يمثلان طرفي الخصومة.

النيابة العامة ليست أكثر من جهة «ادعاء عام»، ووكيل النيابة الحاضر يمثل هذا الادعاء، بالضبط كما يمثل «المحامي» المتهم الماثل في قاعة الجلسة. وبصفتها «مدعية» يجوز للمحامي -بل يجب عليه- أن يوجه إليها من الانتقادات ما يوضح خطئها، وأن يكشف زيف ما تدعيه، وأن يهاجم ما أجرته من تحقيقات، وأن يسخر مما قدمته من أدلة، وأن يثبت أن ما تستند إليه من أقوال شهود إنما صدر عن شهود زور لا تتفق شهادتهم مع العقل والمنطق.

وكلما كان خروج تحقيقات النيابة عن القانون واضحًا، وخرقها لمواده فاضحًا، كلما أعطى هذا الحق للمتهم ومحاميه بأن يوضحا ذلك بأشد العبارات وأقواها للمحكمة وللجمهور الحاضر في الجلسة؛ باعتبار أن هدف المرافعة الشفوية في الجلسات العلنية هو جعل الجمهور رقيب علي عدالة المحاكمة وسلامة إجرائاتها.

فالقانون هو السيد ولا سيد سواه، والنيابة والدفاع بل والقاضي نفسه ليسوا أكثر من «خُدام للعدالة» في قول أو «حُراس للقانون وأمناء علي تطبيقه» في قول آخر. وكل ذلك تحت رقابة «الشعب» الذي تصدر الأحكام وتنفذ باسمه. يقف المحامي ليؤدي واجبه في مجلس القضاء، وهو مسلح بجانب نصوص الدستور المتعددة، التي تنص على أنه شريكًا للسلطة القضائية في تحقيق العدالة، ويتمتع بحماية القانون، بنص الماده 309 من قانون العقوبات، التي تعطيه الحق في ارتكاب جريمتي القذف والسب، ما دام أن ارتكاب هاتين الجريمتين ضروريتان لاستخدام حق الدفاع.

تنص تلك المادة على «عدم سريان أحكام المواد التي تعاقب علي القذف والسب والإهانة وغيرها على ما يسنده أحد الأخصام في الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم». ليس قانون العقوبات فقط، ولكن قانون المحاماة بتعديلاته المختلفة، والتي كان آخرها سنة 2019 -وهو القانون المكافئ لقانون السلطة القضائية- نص صراحة على عدم مسئولية المحامي عما يبديه في مرافعته الشفوية أو مذكراته المكتوبة، مما يستلزمه الحق في الدفاع. كما أكد  على ضرورة أن يعامل المحامي من المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها بالاحترام الواجب للمهنة.

لا يمر يوم إلا وتحمل إلينا الأخبار ما يفيد بالاعتداء على المحامين أثناء وبسبب أعمالهم. وهو اعتداء يصل في بعض الأحيان إلى الضرب الذي يترك أثرًا مستديمًا، في حين يتوقف في أحيان أخرى عند حد الإهانة العلنية أثناء عملهم. ولابد من الاعتراف أنه في بعض الأحيان يحاول المحامون رد الاعتداء بشكل غير مقبول، ولكن ذلك في أغلب الأحيان يكون بعد شعورهم بأن القانون الذي يخدمونه لن يستطيع أن يعيد إليهم بعض حقهم أو جزءًا من هيبتهم. على أن كل ذلك كان يمكن أن يُحمل على أوجه عديدة؛ تكدس القضايا أمام القضاة، الضغوط التي يواجهها المحامون يوميًا في العمل، سواء من موكليهم أو من موظفي المحاكم، الضغوط التي تمارسها الدولة على مواطنيها بشكل عام. إلا أن ما حدث مع الأستاذ المحامي أحمد حلمي إنما يسجل صفحة جديدة وفريدة في الاعتداء على المحامين، ومحاولة عقابهم على أدائهم واجبهم المهني. وهو في تقديري يشكل جريمة دستورية يتعين التوقف عندها ومعالجتها فورًا.

وقف الأستاذ المحامي أمام دائرة من دوائر الإرهاب في معهد أمناء الشرطة يترافع في «تجديد حبس» متهمة وكلته للدفاع عنها. وأثناء مرافعته -وبشهادة المحامين الحاضرين جميعًا قال نصًا: «إن تحقيقات النيابة شابها القصور لأنها لم تلم في أسئلة التحقيق بعناصر الركن المادي للجريمة، وإن أسئلة النيابة في التحقيق خرجت كليًا عن موضوع الدعوى، ولم تواجه المتهمة بالأفعال المنسوبة إليها، وإنما اقتصرت على بيان حالتها الاجتماعية وملبسها وظروفه، دون أن يكون بالتحقيقات ثمة سؤال عن الأفعال المنسوبة لها، ومواجهتها بتفاصيل وقوع تلك الأفعال». فما الذي حدث؟ انتفض رئيس المحكمة دفاعًا عن النيابة العامة، وطلب من ممثل النيابة العامة «تحرير مذكرة» بما قاله المحامي، ثم أحاله إلى النيابة العامة للتحقيق.

ببساطة ستحقق النيابة العامة مع محامٍ بتهمة إهانة النيابة العامة؛ لأنه اعتبر أن تحقيقاتها قاصرة، وتفتقر إلى أصول التحقيق الجنائي، وتخرج عن حدود القانون!! في ظني أن الواقعة كلها تشكل إهانة للدستور وللمحاماة وللعدالة.

فمن ناحية، كان الدفع بقصور التحقيقات أو خروجها على موضوع القضية هو دفع قانون صرف، يتردد في أحكام محكمة النقض وبعض محاكم الجنايات، دون أن يعني ذلك أي إهانة؛ ومن المفهوم أنه في بعض الأحيان يخطئ عضو النيابة في عمله كما يخطئ القاضي والمحامي. كما أنه من المفهوم أن تقدم النيابة إلى المحكمة تحقيقات قاصرة فتستبعدها وتحكم ببراءة المتهم، بعد أن تجري هي التحقيق النهائي أمامها في الجلسة. ونيابة أمن الدولة العليا ليست خارج هذا السياق وأعضائها بشر كسائر البشر يأتيهم الباطل من بين يديهم ومن خلفهم، كما يأتي للجميع، ويجوز انتقاد عملهم كما يجوز انتقاد عمل الجميع.

ومن ناحية ثانية، فإن النيابة العامة -كما هو معروف- كيان واحد يمثله النائب العام. فهل يجوز أن تحقق النيابة العامة مع محامٍ بتهمة إهانة النيابة العامة، ثم توجه إليه الاتهام، ثم تأمر بالقبض عليه، ثم بإخلاء سبيله؟ هل يجوز أن يكون المجني عليه والمحقق شخصًا واحدًا؟ ألم يكن من الأوفق حتى لستر الأمر، أن تطلب النيابة العامة ندب قاضٍ لتحقيق تلك الواقعة، عملاً بنص  المادة 64 من قانون الإجراءات، باعتبار أن ذلك أكثر ملائمة بالنظر إلى ظروف الدعوى وملابساتها.

ومن ناحية ثالثة، فإن تحرير هذه المذكرة والتحقيق مع الأستاذ المحامي فيها يشكل إهدارا لحق الدفاع المكفول بالمادة 96 و98 و198 من الدستور؛ فهي بهذه المثابة مخالفة دستورية واضحة. ولكن الأهم أنها في حقيقتها تمثل إرهابًا معنويًا لكل المحامين، حتى يتوقفوا عن كشف عورات التحقيقات التي تجرى في بعض الأحيان في بعض القضايا. فضلاً عن أن تلك الواقعة وملابساتها تعطي انطباعًا سيئ الظن لدى المتربصين، بأن هناك محاولة لستر عورة بعض التحقيقات، وإرهاب من يحاول كشف ما يحدث فيها «فالعورات تستر والفضائل تنشر».

قلت وأقول ثانية إن المحامين يشعرون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالخطر وهم يمارسون دورهم دفاعًا عن حقوق موكليهم القانونية، في مواجهة النيابة العامة أو القضاة. شعور المحامين المتزايد بالخطر لم يعد وهمًا، بل له أسباب إن لم تكن جميعها حقيقية، فإن بعضها ليس موهومًا على كل حال. حقوق المحامين في الدفاع عن موكليهم يجرى الجور عليها بشكل عام، عندما تشعر العدالة بالارتباك في حركتها ووجهتها ودورها وربما قيمتها. وتقوم وهي تولي مذعورة بدهس كثير من حقوق المتهمين، ثم حقوق من يدافعون عن المتهمين من المحامين، لا لشئ إلا لأنهم يحاولون الإمساك بها وإرشادها إلى طريق النجاة. لكنها تتصور في ارتباكها هذا أنهم يريدون التضييق عليها أو النيل منها.

في ظني أن الخرق قد اتسع على الراتق، وأن الأمر يحتاج إلى اجتماع عاجل بين النائب العام ونقيب المحامين ورئيس مجلس القضاء الأعلى لوضع الأمور في نصابها الصحيح. على النيابة العامة أولاً أن تبادر بطلب ندب قاض للتحقيق في الواقعة؛ ثم إن على النائب العام أن يصدر منشورًا إلى وكلائه يشرح لهم فيها مواد الدستور وقانون العقوبات التي تتكلم بوضوح عن حق الدفاع، وينبههم إلى أن العلاقة بين النيابة العامة والمحامين ليست أكثر من علاقة مهنية بين طرفين، قد تتضارب مصالحهما، وإن اتفقت أهدافهما النهائية.

لابد أن يتوقف إرهاب المحامين واستخدام القانون بسوء نية للنيل منهم، والحد من قدرتهم علي الدفاع عن موكليهم، إن الذين يتصورون أنهم قادرون على الجور على حقوق الدفاع واهمون. ستبقي المحاماة شامخة وعزيزة وقوية. يستمد المحامون قوتهم من استقلالهم، وهو استقلال لا أتصور أن هناك من يمكن أن يشكك فيه أو يزايد عليه. هو استقلال عرفته المهنة منذ أوائل القرن الماضي، وسيحافظون عليه ما استطاعوا، لصالح العدالة أولاً ولصالح العدالة أخيرًا.