هل تعرف «جودو»؟

السؤال ليس موجهاً لمن لم يقرأ مسرحية «في انتظار جودو» للكاتب الأيرلندي الشهير «صمويل بيكيت»، فالطبيعي أنهم لا يعرفونه، السؤال لمن اطلعوا عليها: هل تستطيع أن تؤكد من هو «جودو» على الحقيقة؟

«في انتظار جودو» ليس ثمة أحداث تُروى، وتبدو المسرحية كأنها تقدم لنا قراءة «بيكيت» الخاصة لواحدة من لوحات «كاسبر ديفيد فريدريش» الرسام الألماني الرومانسي وهي لوحة «اثنان يتأملان القمر»، يبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج الحيز المكاني الذي يقفان فيه، أو كأنهما يبحثان عن شيء ناءٍ لا يمكن بلوغه، أو كأنهما حسب ما رآهما «بيكيت» ينتظران ما لا يجيء. 

تدور المسرحية مع هاتين الشخصيتين المهمشتين والفقيرتين، الأول هو «فلاديمير»، والثاني هو «استراجون»، حيث ينخرطان ـ على مدار فصلي المسرحية في حوار متصل ومتشعب وهما ينتظران «جودو» ليغير حياتهما إلى الأفضل، ويخلِّصهما مما حل بهما من شقاء، ويظل استراجون يسأل: ما الذي نفعله الآن؟، ويرد فلاديمير: ننتظر «جودو»، ولا يعلق استراجون بغير كلمة: آه.

**

يختلف قراء «بيكيت» حول حقيقة هذا الغائب المنتظر، ولكنهم يقدمون ـ كلٌ حسب ما يتمنى ـ تخميناً لمن يكون، فيقول أهل اليسار مثلاً هو الاشتراكية، ويقول الليبراليون هو العلمانية، وحتى الزملكاوية يفسرونه على أن «الزمالك» قادم (مع ملاحظة أني زملكاوي)، ويقول أهل النقد ربما كان «جودو» هو «الأمل» للفقراء واليائسين، وربما كان هو «المنقذ المخلص» مما نحن فيه، أو ربما هو «الموت»، أو هو «الدهر» الذي لا تنقضي عجائبه، وربما كانت تلك التفسيرات كلها تقع في دائرة العبث حيث: «لا شيء يحدث، ولا أحد يجيء».

ربما لو سألنا «بيكيت» نفسه عمن يكون هذا «الجودو» الغائب المنتظر، ما أعطاك إجابة شافية عن حقيقة ما ننتظره فعلاً، أو على الأقل ستختلف إجابته عن تلك التفسيرات التي شاعت في فهم مسرحيته، وربما تلك الحالة هي جوهر مسرح «العبث» التي يدور حولها وينطلق منها.

**

في مارس من العام الحالي (2021) أثناء احتفال «يوم الشهيد» بشَّر الرئيس «عبد الفتاح السيسي» المصريين بجمهورية جديدة، مشيراً إلى «ما تشهده مصر من تطوير كبير»، ومشدداً على أن «افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة يمثل إعلان جمهورية جديدة وميلاد دولة جديدة». 

من ناحيتي تابعت الكتابات التي راحت تقدم العديد من التصورات حول «الجمهورية الجديدة»، والحق أن التفسيرات لمضمون هذه «الجمهورية»، والأفكار التي طرحت بشأن التعريف بها وتحديد ماهيتها، اختلفت، واتفقت، في كثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بالربط بين الافتتاح المرتقب للعاصمة الإدارية الجديدة وانتقال الحكومة إليها، وبين إعلان قيام الدولة الجديدة، خاصة وأن الرئيس شدَّد على أن «الموضوع مش مباني، ده تطوير كبير احنا بنعمله».

**

حديث الرئيس على أننا بصدد إعلان «الجمهورية الثانية» جعل البعض ممن حاولوا التنظير لهذه «الجمهورية» يذهبون إلى أن معناه عدم الرضا على الدولة القديمة، ورجحوا ألَّا تكون الدولة الجديدة امتداداً لدولة «نظام يوليو» الأمر الذي يستلزم ـ في رأي هؤلاء ـ إجراء تغيير سياسي جذري تمناه هذا البعض «راديكالياً» يتوجه إلى تعديل هيكل المؤسسات السياسية وتوجهاتها. (جاء ذلك في مقال بالمصري اليوم).

المهم في رأي هؤلاء أن تكون الصورة واضحة لدوائر صناعة القرار والمواطنين سواء بسواء عن شكل التوجه الاقتصادي والنظام السياسي، وبالتالي التركيبة الاجتماعية المزمع تشكيلها على هذه الأسس، وذلك بالاستقرار على النموذج السياسي المتبع الذي يفضل أن يكون مستوحى من نموذج عملي في دولة تطبق آليات اقتصاد السوق الحرة من الدول التي تقاربت ذهنية مواطنيها مع الذهنية المصرية.

**

في مقال آخر نشر في بوابة «الأهرام» ذهب كاتبه إلى أن «الجمهورية الجديدة» تحتاج طريقة تفكير جديدة أيضًا، ليست نمطية كما كان في السابق، تحتاج عقولًا جديدة، وتحالفات استراتيجية جديدة، لا تقوم على الأيديولوجيات والأفكار، وإنما على المصالح المشتركة، وأشار الكاتب إلى الأهمية القصوى لما تمثله «الحريات» في الجمهورية المنتظرة، التي لا يمكن أن تقوم إلا على «احترام حقوق الإنسان» وعلى رأسها الحق في تداول المعلومات، والتعبير عن الرأي بوسائل مشروعة وقانونية، في إطار الدستور المصري.

أما رئيس تحرير جريدة «الدستور» فقد طرح السؤال حول ماهية الجمهورية الجديدة، وذكر أنه سأل نفسه كثيراً: ما هو معنى تعبير «الجمهورية الجديدة»، ما هو تعريفها؟ ما هي مواصفاتها؟ إننا نراها على أرض الواقع، نرى ملامحها في أشياء كثيرة، لكننا لا نمسك بتعريف محدد لها، إنها موجودة في الواقع لا في الكتب، لا بديل عن أن نجتهد إذن في تعريف الجمهورية الجديدة، ورأي الكاتب أن «أفضل تعريف للجمهورية الجديدة أنها ليست الجمهورية القديمة، وإنها لا تُشبهها في شيء سوى في الشكل الدستوري لها، لكنها تختلف عنها في المضمون».

**

خلاصة ما خرجت به من متابعاتي لما كتب، ولما أذيع عن تلك «الجمهورية»: أننا بإزاء تفسيرات متعددة ومختلفة لتعريف الجديد الذي تحمله إلينا، وكلها عبارة عن تفسيرات خاصة، وبعضها أمنيات لأصحابها، وأكاد أجزم أن سر «الجمهورية الجديدة» على الحقيقة ما يزال في حيز المعلومات التي يحتفظ بها الرئيس «السيسي» حتى يحين الوقت المناسب لإعلانه.

الأمل معقود على أن تتأسس هذه الجمهورية على مشروع إصلاحي شامل، وعلى كافة الأصعدة، يبدأ بالسياسي، ويثني بالاقتصادي، ولا يغفل الثقافي والاجتماعي، مشروع يقوم على التوافق العام والاشراك الفعال لجميع مكونات وفعاليات المجتمع المدني.

**

ما جاء على لسان الرئيس في خطاباته، أو في «تويت» كتبه على حسابه الرسمي على «تويتر» يطرح أكثر من سؤال: 

لماذا هي الجمهورية الثانية؟

وكيف تكون جمهورية جديدة؟

لو أننا وضعنا معيار ثبات الأسس الدستورية واستمرار نظام الحكم نفسه مع تغير أشخاص الحاكمين، فإننا أمام جمهورية مستمرة تأسست مع دستور سنة 1956 وما تزال قائمة حتى اليوم، حيث يقوم نظام الحكم على مركزية «رأس النظام»، ودوران كل أجهزة الحكم وأدواته ومؤسساته حول إرادة وقرارات «الرئيس» الذي هو رئيس السلطة التنفيذية والمتحكم في باقي السلطات، بدرجات متفاوتة تحددها شخصية الحاكم والظروف السياسية المصاحبة لفترة حكمه.

هذا الأمر قائم ومستمر طوال العقود الست الماضية، رغم التعديلات التي جرت على الصيغ الدستورية المتعاقبة، تلك التي ظهرت في دستور «السادات» 1971 بتعديلاته، ثم تعديلات «مبارك» عليه، ثم دستور 2013 في ظل حكم الاخوان، وأخيراً دستور 2014 بالتعديلات التي جرت عليه.

**

ولكن إن وضعنا في الاعتبار ـ رغم بقاء الأساس نفسه قائماً ـ اختلاف توجهات وسياسات وانحيازات وانجازات النظام باختلاف من تعاقبوا على الحكم، فسوف نجد أننا أمام ملامح «الجمهورية الثانية» منذ انقلاب الرئيس «أنور السادات» على الجمهورية الأولى، حيث راح يؤسس شرعية نظامه الجديد على الإنجاز العسكري الذي تحقق في «حرب أكتوبر»، وظل يعتبر جمهوريته من ذوات الشرعيتين، شرعية أولى شارك في صناعتها كأحد قادة مجلس الثورة في سنة 1952، ثم شرعية ثانية صنعها منفرداً تأسست على قراره بعبور القوات المسلحة قناة السويس وتحقيق نصر تكتيكي في حرب أكتوبر 1973.

الملامح الرئيسية لهذه «الجمهورية الثانية»، ما تزال قائمة حتى اليوم، رغم تغير الرؤساء، ورغم قيام انتفاضتين كبيرتين الأولى في 25 يناير 2011، والثانية في 30 يونيو 2013، إلا أننا ما نزال على الحقيقة في «جمهورية السادات»، التي تتكئ الآن أكثر على انتفاضة 30 يونيو، وتعتبرها نقطة مفصلية في تأسيس فصل جديد في «الجمهورية الثانية».

25 يناير
25 يناير

**

الإجابة على سؤال جمهورية جديدة كيف؟، تعتمد على أمرين في الحد الأدنى، الأول يتعلق بالأسس التي تقوم عليها هذه الجمهورية، ويتعلق الأمر الثاني بالجديد الذي سوف تتميز به عن سابقاتها.

رغم بديهية العبارة التي تقول «إن الجمهورية الجديدة تستوجب أن تكون مغايرة للقديمة»، إلا أنها في حالتنا تعبر عن مسألة مهمة وملحة وضرورية، فلم يعد ممكناً أن تعيد هذه الجمهورية إنتاج المواصفات القديمة بأشكال ومسميات أخرى، وتكتفي بذلك، ثم تطلق على نفسها أنها جمهورية جديدة، حيث من غير المنطقي أن نتوقع نتائج جديدة من ممارسات قديمة بمجرد تغيير في المسميات.

**

البداية ترتبط ارتباطاً وثيقا بالسياسة، وبأسلوب الحكم، وبالرؤية الجديدة لممارسة الحكم، ولا يمكن لأحد أن يقلل من أهمية وضرورة الإنجازات التي تحققت على صعيد البنية التحتية خلال السنوات القليلة الماضية، لكن لو توقف الأمر على تلك الإنجازات، حتى ولو كبرت، وتعددت، فلن يعني بحالٍ أننا بإزاء «جمهورية جديدة» على الحقيقة.

ويطرح السؤال نفسه هنا: 

على أي أساس يمكن تحديد ما إذا كنا أمام جمهورية جديدة من عدمه؟

إذا كنا أمام نظام سياسي جديد يقوم على أوسع مشاركة شعبية في القرارات، خاصة تلك التي تمس أوضاع الشعب الاقتصادية، والاجتماعية، أو تلك التي تقيد حرياتهم أو تعتدي على حقوقهم الدستورية، فنحن بالتأكيد أمام جمهورية جديدة.

جمهورية جديدة تؤسس على ابتداع نظام سياسي قادر على التعبير عن الناس، يقوم على احترام الكفاءات، ويساوي بين المواطنين، ويضمن تداول السلطة بين المكونات السياسية في المجتمع، ولا يحجر على رأي، ولا يتعدى على حقوق المواطنين الأساسية المنصوص عليها في الدستور.

نظام سياسي يقوم على التوافق العام حول تحديد واضح لماهية الدولة المدنية الحديثة، ومفهومها، وتقنين هذه الماهية، وتحديد هذا المفهوم في قواعد دستورية وقانونية مستقرة غير قابلة للتغيير إلا إلى تحقيق المزيد منها، وليس الحد منها أو تقييدها أو الحجر عليها.

ساعتها يمكننا القول إننا إزاء جمهورية جديدة على الحقيقة.

**

الدولة المنتظرة سوف تجد نفسها أمام ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليكون هدفه الأساسي هو تحقيق العدالة الاجتماعية عبر إعادة الاعتبار للإنتاج، وتحفيز النمو، وخلق المزيد من فرص العمل، والأمر المبشر على هذا الصعيد أن الإنجازات التي تحققت في مجال البنية الأساسية والمرافق العامة تضعنا على أول الطريق لتحقيق هذا النمو المتوازن الذي يحقق الأهداف التي نتطلع إليها.

الدولة الجديدة يجب أن تضمن وضع برامج زمنية متوافق عليها مجتمعياً لما نص عليه الدستور الحالي من اهتمام وأولوية لكلٍ من التعليم والصحة، بحيث يكون التعليم أولوية فوق كل الأولويات، وأن يجري العمل على التحسين المستمر والمتنامي للمنظومة الصحية حتى تحقق أفضل رعاية صحية لجموع المواطنين. 

لم يعد أمامنا طريق لتعديل الحال، وتعظيم الآمال في المستقبل، بدون أن نُولي التعليم والبحث العلمي الأهمية التي تليق بهذه المجالات التي تتأسس عليها نهضة الأمة، ويحقق لها القدرة على أن تتطلع إلى المستقبل بثقة أكبر.

**

30 يونيو
30 يونيو

ولعل في الرجوع إلى البيان الأول الذي ألقاه الرئيس «السيسي» عقب الانتفاضة الشعبية في 30 يونيو 2013 يعفينا من تكرار الحديث عن أهمية وضرورة أن تضمن الدولة الجديدة «تشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الجديدة»، وأن تشهد «الجمهورية الجديدة» ما تضمنه البيان نفسه من ضمانة وكفالة وتكريس حرية الاعلام ووضع ميثاق شرف إعلامي يكفل هذه الحرية ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن.

وأخيراً ـ وليس آخراً ـ هناك أمر على قدر كبير من الأهمية، يحتاج إلى تفصيل، ولكن نظراً لأن المقال قد طال أكثر مما توقعت، أجمله هنا في البند الذي ورد ببيان الرئيس «السيسي» المذكور سلفاً، وهو البند الخاص «بتشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية، وتمثل مختلف التوجهات»، ولكن هذه المرة تكون مهمتها إعادة اللحمة بين كل المكونات التي شاركت في صنع 30 يونيو، بدون إقصاء ولا تخوين.

**

صحيح أن «الجمهورية الجديدة» ليست أبنية وطرق ومشاريع جديدة فقط، وصحيح أنها ليست مجرد سياسات جديدة بدون إنجازات حقيقية، ولكنها قبل ذلك كله، ومعه، تتطلب أول ما تتطلب مناخاً عاماً جديداً يفتح المجال واسعاً لكي تتفتح ألف ألف زهرة جديدة في كل ربوع الوطن.

المأمول أن تأتي «الجمهورية الجديدة» بما تشتهي سُفنُ المواطنين الذين تتطلع أشواقُهم إلى الحرية والكرامة والعدالة، وما يزالون يتشوقون للعيش كمواطنين أسيادًا في وطن سيد، حسب نص «ديباجة الدستور».

**

نختم المقال بما ختم به الشاعر الكبير «نزار قباني» قصيدته البديعة المعنونة «بانتظار جودو»:

تعالَ يا جودو ..

فقد تخشَّبتْ أقدامُنا انتظارْ

وصارَ جلدُ وجهِنا ..

كقطعةِ الآثارْ ..

تبخّرتْ أنهارُنا

وهاجَرَتْ جبالُنا

وجَفّتِ البحارْ

وأصبحتْ أعمارُنا ليسَ لها أعمارْ

تعالَ يا جودو .. فإنَّ أرضَنا

ترفضُ أن تزورَها الأمطارْ

ترفضُ أن تكُبرَ في ترابِنا الأشجارْ

تعالَ .. فالنساءُ لا يحبلنَ ..

والحليبُ لا يدرُّ في الأبقارْ

إن لم تجئْ من أجلنا نحنُ ..

فمن أجلِ الملايينِ من الصّغارْ

من أجلِ شعبٍ طيّبٍ ..

ما زالَ في أحلامهِ

يُقرقشُ الأحجارْ

يقرقشُ المعلّقاتِ العشرَ ..

والجرائدَ القديمهْ

ونشرةَ الأخبارْ ..

**