كلما اقتربت الأزمة الليبية من محطة الوصول؛ قفزت على السطح أوراق ظلت محتفظة بمساحة من الخفاء طوال السنوات الماضية. هكذا بدا حضور إسرائيل المتزايد مؤخرًا في الملف الليبي، سواء من خلال التواصل مع بعض الأطراف، أو كل الأطراف. وصولاً إلى حضورها المرتقب مؤتمر باريس بشأن ليبيا.
أحدث حلقات الظهور الإسرائيلي في الواقع الليبي، ما نشرته صحيفة “هآرتس” العبرية، الأحد، بشأن زيارة سرية لـ”صدام” نجل المشير خليفة حفتر إلى تل أبيب الأسبوع الماضي. حيث دار الحديث عن دور محتمل للجنرال الصغير في المستقبل السياسي بليبيا، نظير إقامة علاقات مع الدولة العبرية.
صدام في تل أبيب.. مباراة الـ90 دقيقة
نجل المشير خليفة حفتر وصل إلى مطار بن غوريون شرق تل أبيب قادمًا من دبي. وذلك على متن طائرة خاصة يملكها الجنرال حفتر، من نوعية “داسو فالكون” فرنسية الصنع. حيث ظل هناك حوالي 90 دقيقة، قبل أن تقلع طائرته عائدة إلى ليبيا.
المدة التي مكث فيها صدام حفتر، والتي تساوي مدة مباراة كرة قدم، كانت بمثابة مباراة أخرى سياسية. إذ يسعى حفتر ونجله للحصول على مساعدة عسكرية ودبلوماسية من إسرائيل. وفي المقابل وعد أنهما إذا ترأسا الحكومة الليبية التي سيتم تشكيلها بعد الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر، فسيبدآن علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، وفق الصحيفة التي تقول إن حفتر يتلقى مساعدة من شركات علاقات عامة ومستشارين استراتيجيين من فرنسا والإمارات العربية المتحدة. كما يعمل موظفون يمثلون عائلة حفتر في شركة مسجلة في الإمارات.
اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟
الصحيفة العبرية تحدث بشكل جازم عن أن زيارة صدام لتل أبيب كانت مرتبطة بالانتخابات الليبية الشهر المقبل. رغم أنه من غير الواضح مَنْ التقى نجل حفتر خلال إقامته القصيرة في مطار بن غوريون. بيد أن الحراك الدولي والإقليمي إزاء تطورات الموقف الليبي ولا حديث عن الانتخابات المرتقبة، شجّعت البعض على ربط جولات صدام بفرصة السياسية.
الدائرة “تيفل”.. وسر العميل “آر”
هنا تنتقل الصحيفة للحديث عن مجمل العلاقات التي تربط إسرائيل بالأطراف الليبية كافة، سواء بشرق ليبيا أو غربها. وتشير إلى اتصالات سرية مع إسرائيل للأطراف الليبية من خلال الدائرة “تيفل” في الموساد. و”تيفل” مسؤولة عن إقامة علاقات سرية مع نظراء المخابرات الإسرائيلية في الخارج والمنظمات غير الحكومية والحكومات التي ليس لها علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل. وأقامت، حتى الآن، اتصالات مع ما يقرب من 200 كيان، وفق الصحيفة العبرية.
حافظ ممثلو مجلس الأمن القومي الإسرائيلي على اتصالات مع ممثلي ليبيا لعدة سنوات. بدأ ذلك في عهد رئيس المجلس آنذاك، مئير بن شبات، الذي عيّن عميلاً سابقًا في الشاباك، معروفًا باسم “آر” فقط، للحفاظ على العلاقات مع الدول العربية. لا يُسمح بنشر الاسم الحقيقي لـ”آر”، الذي يحمل الاسم الرمزي أيضًا “ماعوز”، بموجب قانون جهاز الأمن العام (الشاباك)، الذي اشتبك بشكل متكرر مع رئيس الموساد آنذاك يوسي كوهين بشأن تقسيم السلطات.
بعد أن عيّن رئيس الوزراء نفتالي بينيت إيال هولاتا رئيسًا لمجلس الأمن القومي. أسند الملف الليبي إلى نمرود جيز، وهو أيضًا مسؤول كبير سابق في الشاباك وقاد وحدة غزة في المنطقة الجنوبية للتنظيم. ويعمل جيز في مجلس الأمن القومي كرئيس للفرع الذي يغطي منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا والعلاقات الدبلوماسية هناك.
علاقات ممتدة
الزيارة التي تمثل أوضح بروز لدور إسرائيلي في الملف أعقبت حضورًا عديدة، خلال السنوات الماضية، مع حكومتي شرق وغرب ليبيا. في محاولة لاستغلال الموقع الاستراتيجي الذي تمثله ليبيا سواء بالنسبة لتل أبيب أو المنطقة برمتها. وهو ما يفسر الاهتمام الكبير بترك أثر لأقدامها هناك.
في ديسمبر 2014، وجهت صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية، سؤالاً أو اختبارًا للمشير خليفة حفتر بشأن إسرائيل. وقتها جاءت إجابة الجنرال واضحة: “لا مانع من إقامة علاقات معها”، وبرر الأمر بأن “عدو عدوي صديقي”. بعدها ذكرت تقارير سرية عديدة، من بينها صحف فرنسية أن حفتر تواصل مع الإسرائيليين في 2015، عن طريق الموساد.
لاحقًا، ذكرت التقارير أيضًا أن حفتر اجتمع مع مسؤولين من الموساد عدة مرات بين عامي 2017 و2019. وعندما كانت الصحافة الإسرائيلية مهتمة بالحرب التي كانت تدور في غرب ليبيا، أجرت صحيفة “ميكور ريشون” العبرية لقاء مع نائب رئيس الحكومة الموقتة في الشرق عبد السلام البدري، وقتها تحدث المسؤول الحكومي بشكل إيجابي عن طبيعة العلاقات مع تل أبيب.
لماذا تهتم إسرائيل بليبيا؟
هكذا؛ فإن إسرائيل لطالما اهتمت بليبيا بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي في البحر المتوسط وقربها من الحدود المصرية. وأيضًا بسبب الجالية الكبيرة لليهود الليبيين في إسرائيل، وتأثيرهم على اليهود الليبيين الذين هاجروا إلى إيطاليا.
صحيفة هآرتس تقول إن الموساد أجرى اتصالات مع الحكومتين الليبيتين خلال السنوات الماضية، عندما انتقلت أسلحة قادمة من ليبيا عبر سيناء إلى قطاع غزة. وتضيف أن تلك الاتصالات لا تزال قائمة حتى الآن. كما تشير إلى أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة كان على اتصال مع المشير حفتر ونجله صدام، في الأسابيع الأخيرة، كجزء من الاستعدادات للانتخابات، وبتشجيع من المخابرات الإماراتية.
ولأنَّ الأزمة الليبية جزء من صراع متعدد الأطراف حول غاز شرق المتوسط، وهو السبب المباشر وراء التدخل التركي في ليبيا. فإن إسرائيل التي تضع نفسها ضمن معادلة الصراع بالمنطقة تجد في الساحة الليبية فرصتين مهمتين. الأولى تتعلق بالمساومة بورقة غاز المتوسط، والثانية تأمين موالين لها في الداخل الليبي لمنع أي تعاون بين الجماعات الإسلامية أو حتى الأنظمة التي يمكن أن تتعاطف مع الفلسطينيين على غرار حقبة القذافي آنفة الذكر.
لذلك تمثل ليبيا بالنسبة لإسرائيل عمقًا أمنيًا واستراتيجيًا هامًا. بيد أنه من المستبعد أن تتشابه علاقة الطرفين بالعلاقات القائمة حاليًا بين دول خليجية وإسرائيل. ذلك أن المجتمع الليبي لديه رواسب تاريخية ومشبّع بخطاب كراهية الكيان الصهيوني. فضلاً أن انتشار الجماعات الإسلامية لاسيما السلفية.
صدام حفتر.. الشاب الذي ورث طموحات والده
صدام حفتر هو الذراع اليمنى لوالده، منذ منحه المشير سلطة متزايدة وترقية في القوات المسلحة. وذلك في أعقاب تعرضه لحالة صحية خطيرة قبل ثلاث سنوات وتلقيه العلاج في مستشفى عسكري بباريس. وقتها أثارت التقارير المتضاربة تكهنات عن الشخصيات المؤهلة لخلافته. وفور عودته من باريس منح حفتر (78 عاما) نجله صدام صلاحيات غير محدودة. بعدما نقله من كونه مدني إلى جعله ضابطا في الجيش برتبة عقيد، ثم لاحقًا منحه رتبة لواء.
ارتبط اسم صدام حفتر بالعديد من الانتهاكات التي أثارت غضبًا محليا ودوليا، كان آخرها اغتيال المحامية الحقوقية حنان البرعصي بعد ساعات من انتقادها صدام حفتر في نوفمبر 2020. والبرعصي كانت من أبرز الناشطات المدافعات عن حقوق النساء في شرق ليبيا، عرضت قصصًا لنساء تعرضنّ للاعتداء والاختطاف من مسلحين مرتبطين بقوات المشير حفتر، ووجهت اتهامات مباشرة لنجله صدام.
ما فرص صدام حفتر في مستقبل ليبيا؟
تبدو فرص المشير خليفة حفتر في الانتخابات المرتقبة “ضئيلة”، لعدة اعتبارات سياسية وأمنية وصحية. فضلاً عن رفض مجتمعي عارم للنخبة التي خاضت منذ 2014 حربًا دمرت البلاد. ورغم ذلك من المرجح بقوة أن يخوض الجنرال الذي تخلى عن منصبه بالقوات المسلحة عملاً بقانون انتخاب الرئيس الذي يشترط عدم ممارسة المرشح لرئاسة ليبيا أي منصب قبل 3 شهور من إجراء الانتخابات.
في المقابل، إذا كان ثمة دور مفترض لصدام حفتر في المشهد الليبي، وهو مرجح أيضًا. فإن فرص حفتر الابن أفضل. رغم اتهامات بالفساد تلاحقه على غرار قادة ليبيين، فضلا عن أسلوب حياة متفاخر يسيطر عليه. ففي حفل زفافه قبل عام قدم هدايا لضيوفه تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار. وبحسب ما ورد كان من بين الضيوف 40 شاعرًا غنّوا له ولقبيلته.
ثمة لافتة غاية في الأهمية لم يلتفت إليها الليبيون كثيرًا، تتمثل في خفض سن الترشح لرئاسة ليبيا إلى 35 عامًا بدلاً من 40 عامًا التي وضعها مجلس النواب أول مرة
ومع افتراض أن احتقان الرأي العام يطول الجميع، وليس صدام استثناءً في ذلك، فإن ثمة لافتة غاية في الأهمية لم يلتفت إليها الليبيون كثيرًا، تتمثل في خفض سن الترشح لرئاسة ليبيا إلى 35 عامًا بدلاً من 40 عامًا التي وضعها مجلس النواب أول مرة. ظهر ذلك في اللائحة النهائية التي نشرتها المفوضية العليا للانتخابات. هل المقصود بها صدام حفتر أم غيره؟
لمطالعة قانون انتخاب رئيس الدولة بصيغته النهائية اضغط هنا
انطلاقًا مما سبق، فإن أي دور مقترض لصدام حفتر في الحكومة الليبية المقبلة، يعني أن فرص إطلاق ليبيا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، تبدو كبيرة، لاسيما بتشجيع من إدارة بايدن ودول خليجية، داعمة للمشير حفتر.
الحضور الإسرائيلي في حقبة القذافي
بعد تولي القذافي السلطة، عقب إسقاط الملكية في العام 1969، أصبحت إسرائيل مهتمة أكثر بليبيا بسبب دعمه الفصائل الفلسطينية. التي قدّم لها المال والسلاح والتدريب. كما جذبت محاولات القذافي لتأمين أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية انتباه المخابرات الإسرائيلية..
في الوقت نفسه، أجرى ممثلو إسرائيل أيضًا اتصالات دبلوماسية مع نظام القذافي. وأدار هذه الاتصالات سيف الإسلام القذافي. وذلك من خلال رجال أعمال يهود من أصل ليبي. أحد هؤلاء هو “والتر أربيب”، الذي تتركز عملياته حول كندا.
كما ذكرت صحيفة هآرتس، كان “أربيب” الوسيط الرئيس الذي ساعد في إطلاق سراح المصور والفنان الإسرائيلي من أصل تونسي رافائيل حداد عام 2010. الذي تم اعتقاله في ليبيا للاشتباه في قيامه بالتجسس.
في العام نفسه، أقنع أربيب نجل القذافي بالتخلي عن نيته إرسال سفينة مساعدات إنسانية إلى غزة. في المقابل، تم الاتفاق على أن ترسو السفينة في العريش بسيناء وإرسال حمولتها إلى غزة عبر معبر رفح. وكجزء من الصفقة، شيّدت ليبيا عشرات المباني الجاهزة في غزة، وأطلقت إسرائيل سراح عدد من السجناء الفلسطينيين.
اقرأ أيضًا| “العودة للملكية”.. هل تُخرج ليبيا من أزمتها؟
بعد سقوط والده، حاول سيف الإسلام تجنيد جماعات ضغط، بما في ذلك بعض رجال الأعمال الليبيين اليهود. وذهبت شقيقته عائشة إلى أبعد من ذلك في عرض يبدو غريبًا: بعد الفرار إلى الجزائر، طلبت من المقربين منها في أوروبا الذين سبق لهم التعامل معها ومع أسرتها استكشاف إمكانية الحصول على اللجوء في إسرائيل. حتى أنها وظفت محاميًا إسرائيليًا من القدس حاول التحقق مما إذا كان بإمكانها القدوم للعيش في إسرائيل بموجب قانون العودة. على خلفية الشائعات التي انتشرت على مدى سنوات بأن والدة معمر القذافي كانت يهودية واعتنقت الإسلام.
من “الوطن القومي” إلى “حلم العودة”
الطموح الإسرائيلي في ليبيا، بدأ عام 1908، عندما اقترح اليهودي الكبير إسرائيل زانجويل، أن تكون ليبيا وطنًا قوميًا لليهود”. كان المستهدف أن تقام دولة لإسرائيل في الجبل الأخضر بإقليم برقة. لكن عددا من الأسباب ساهمت في إفشال المشروع الذي بدأ بالفعل إيفاد بعثات ووفد لدراسة المنطقة. من بين أسباب فشل المخطط هيمنة المنظمات الصهيونية المصرة على استعمار فلسطين من دون غيرها على بقية المنظمات، وكذلك الغزو الإيطالي الذي اجتاح ليبيا في 1911.
تقول الرواية الإسرائيلية إن 30 ألف يهودي غادروا ليبيا منذ استقلالها عام 1952 وتركوا وراءهم “عقارات وممتلكات”. وفاوضت الدولة العبرية نيابة عن مواطنيها مع السلطات الليبية للحصول على تعويضات
وكما هو معروف عنهم، استقر اليهود في أحياء خاصة (الحارة)، انتشرت حاراتهم في طرابلس، والزاوية، وزليتن، ومسلاته، ومصراتة. لكنهم غادروا ليبيا إلى إيطاليا وإسرائيل ودول أوروبية أخرى. في عام 2002، توفي آخر يهودي معروف في ليبيا، اسميرالدا مغناجي.
ملف التعويضات.. الجذور اليهودية والطائرة المدنية
في مارس 2005، وصل إلى العاصمة الليبية طرابلس أول وفد إسرائيلي رسمي منذ قيام الدولة العبرية عام 1948. كانت الأمريكان يحاولون تحسين العلاقات مع نظام القذافي، عندما فتحوا مجالاً لتطبيع العلاقات الليبية الإسرائيلية.
وقتها تحدثت تقارير عن أن المفاوضات تتمثل في دفع إسرائيل تعويضات لأسَر ضحايا الطائرة المدنية التابعة للخطوط الليبية التي أسقطها سلاح الجو الإسرائيلي فوق سيناء عام 1973. مقابل فتح ملفات تعويضات الأسر اليهودية. لكن الجانب الليبي لم يترك رسميا لهذه القضية. فهل تعود للواجهة مرة أخرى.
وعندما اندلعت الانتفاضة الليبية ضد معمر القذافي عام 2011 عاد اليهودي ديفيد جربي من المنفى إلى ليبيا. وقتها ذهب جربي إلي معبد دار بيشي بالمدينة القديمة بطرابلس، وقال إن ترميم المعبد فرصة لعودة اليهود الليبيين إلى ليبيا.