استدانة الحكام دون حساب للعواقب ترهن مستقبل الشعوب لدائنيها وتضحي بمستقبل الأجيال وتستنزف إمكانات وطاقات البلد لفترات طويلة من الزمن.

ديون الخديوي إسماعيل تمت في ثلاثة عشر عاما من حكمه، من تاريخ استلامه السلطة 1863 إلى إعلان إفلاس مصر في 1876 م.

لكن مصر ظلت تسدد فواتير هذه الديون مالياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً حتى مغادرة آخر عسكري بريطاني في 1956 م.

منها ست سنوات خضعت فيها مصر لاحتلال وحكم أوروبي مدني وسياسي واقتصادي جماعي من 1877 إلى 1882م. ثم انفردت بريطانيا بمصر دون باقي الشركاء الأوروبيين من 1882- 1956 م.

لقد رهن إسماعيل نفسه لدائنيه حتى عزلوه عن عرشه في وضع مخجل ومهين ومذل، وقد رهن نجله الأكبر -توفيق- ليكون مجرد اسم وشكل وصورة لا وزن له ولا حول ولا قوة إلا أن يخضع لأوامر الأوروبيين ثم يطلب حماية البريطانيين ويرحب باحتلالهم مصر ليحكم تحت توجيههم وسيطرتهم واستعمارهم، وهو الوضع المخجل المذل المهين الذي حكم من خلاله كل من توالى على الحكم بعد إسماعيل ثم توفيق ثم عباس حلمي الثاني ثم السلطان حسين كامل فالملك فؤاد ثم الملك فاروق، وهكذا فإن ديون الخديوي لم ترهنه هو فقط ليقع تحت رحمة دائنيه، إنما رهن ذريته من بعده ليعيشوا ويحكموا خاضعين خانعين لسلطة الاحتلال الذي تسببت فيه الديون.

وقياسا على رهن نفسه ورهن أسرته، تم كذلك رهن مصر كلها الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت ثلاث ثورات كبرى للمصريين، الثورة العرابية 1882 وكان الحاكم نجله توفيق، ثم ثورة 1919 وكان الحاكم نجله فؤاد، ثم ثورة 1952 وكان الحاكم حفيده فاروق، لقد كان إسماعيل 1830- 1895م غائباً عن مصر أثناء تلك الثورات، إما بالنفي، وإما بالموت، ولكنه -في الثورات الثلاث- كان الغائب الحاضر بقوة، فهذه الثورات -في جوهرها ومادتها ومضمونها ومحتواها- ثورات على إسماعيل وديونه وميراثه وما ترك البلاد عليه من وقوع في قبضة دائنيه من الأوروبيين.

ثورة 1919
ثورة 1919

ربما يقول قائل -من باب الإنصاف- أن رغبات الأوروبيين في احتلال مصر قديمة وسابقة على حكم إسماعيل، وهذا كلام صحيح، ولكن لا ينفع لإنصاف إسماعيل، وينفع فقط في المزيد من إدانته وتحميله نصيبه من المسؤولية فيما لحق البلاد من خراب تمثل في الاحتلال الأوروبي المدني الجماعي ثم الاحتلال العسكري البريطاني المنفرد، تحميله المسؤولية لأنه -بالبديهة- كان يعلم أن الأوروبيين لهم مطامع في مصر.

لقد كان حلم احتلال مصر يراود المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين، وقد جاءت الأساطيل الفرنسية والبريطانية لتحقيق الغرض في مختتم القرن الثامن عشر ومفتتح القرن التاسع عشر، وكان محمد علي 1769- 1849 على وعي كاف بذلك الخطر وقد اجتهد في إبعاد هؤلاء وأولئك عن مصر، لكن أطماعهما بدأت تراودهم من جديد بعد إنكسار مشروعه التوسعي وإرغامه على الانكفاء داخل مصر والاكتفاء معها بالسودان وذلك بعد اتفاقية لندن 1840 م.

كلمة الإنصاف الوحيدة التي يمكن قولها -بنزاهة وتجرد- هي أن خطيئة الخديوي إسماعيل برهن نفسه وذريته ومصر كلها ما يزيد على ثلاثة أرباع قرن، هي خطيئة مهد لها، وسبقه إليها، عباس الأول الذي حكم من 1849- 1854م علماً أنه لم يستلف جنيهاً واحدا، لكنه خرب ما بناه جده محمد علي وعمه إبراهيم باشا، وسمح للبريطانيين بالتسلل عبر امتياز السكة الحديد بين الإسكندرية– القاهرة، ثم سعيد الذي حكم من 1854- 1863 م وسمح للفرنسيين بالتسلل عبر امتياز حفر قناة السويس، ثم جاء إسماعيل 1863 ليسمح بتسلل حشد هائل من الدائنين والمرابين والمغامرين، ليصل بالبلد في ثلاثة عشر عاماً إلى الإفلاس الكامل ثم الاحتلال الكامل.

وبتعبير الدكتور محمد حسين هيكل 1888- 1956م -في كتابه «دين مصر العام» وهو رسالة الدكتوراه التي تقدم بها إلى جامعة السوربون في فرنسا 1912 م-، «في 1876 وبعد ثلاثة عشر عاماً من الانفاق الجنوني والبذخ غير المعقول كان من المحتم أن يواجه إسماعيل إفلاساُ لا مفر منه» ص 51 من الكتاب.

محمد على باشا
محمد على باشا

هؤلاء الثلاثة -عباس الأول وهو ابن طوسون ابن محمد علي ثم سعيد وهو ابن محمد علي ثم إسماعيل وهو ابن إبراهيم ابن محمد علي- حكموا ثلاثين عاماً من 1849- 1879م، وهي الثلاثون عاماً التي مهدت للاحتلال الأوروبي المدني ثم الاحتلال البريطاني العسكري، وعن ثلاثتهم يقول المؤرخ العظيم الدكتور محمد صبري السوربوني 1890- 1978م، وهو من نوابغ وعظماء المصريين في القرن العشرين، ولا يقل وزناً عن الأكابر مثل طه حسين والعقاد وأحمد أمين وشفيق غربال ومحمد حسين هيكل وغيرهم، يقول السوربوني:«لقد تولى عباس ثم سعيد حكم مصر قبل إسماعيل، ومن الأقوال الشائعة لدى عامة الناس أن التدهور قد بدأ في عهد سعيد، لكنه في الواقع قد بدأ في عهد عباس».

ثم يقول السوربوني: «إن ولاة مصر -عباس وسعيد وإسماعيل- فقدوا ثقة شعبهم فيهم، وفقدوا مصداقيتهم لديه، بالضبط كما حدث للنظام الملكي في فرنسا من عهد لويس الرابع عشر حتى لويس السادس عشر، كما تزامنت فترة الحكام الثلاثة مع وقوع أزمات اقتصادية واجتماعية، وقد زاد التدخل الأوروبي من تفاقمها، فتراكمت أسباب التذمر التي أدت إلى اندلاع الثورة، لقد عاش الحكام الثلاثة عيشة البذخ والتبذير، وانغمسوا في الحفلات الصاخبة التي تناقضت تناقضاً حاداً مع حياة التقشف والاعتدال التي عاشها محمد علي وإبراهيم، وهذه الحياة غير المعتادة هي التي أدت لفقدانهم شعبيتهم. ص 34 من الجزء الأول من كتابه الضخم «الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الأنجلو-فرنسي».

[تلزم الإشارة إلى أن كتاب السوربوني صادر عام 1932، ومصر يحكمها الملك فؤاد نجل الخديوي إسماعيل، وفي تقديم الكتاب شكر لجلالة الملك فؤاد لأنه أتاح الأرشيفات الملكية لمؤلف الكتاب، ومعنى هذه الإشارة أن الكتاب غير موجه مع الخديوي ولا متحيز ضده].

وبالمنطق ذاته، منطق المقارنة، بين حكام فرنسا الثلاثة من آل البوربون لويس الرابع عشر ثم الخامس عشر ثم السادس عشر وما انتهت به سياساتهم من دفع الشعب الفرنسي إلى الثورة، وحكام الثلاثة من سلالة محمد علي عباس ثم سعيد ثم إسماعيل وسياساتهم التي دفعت البلاد إلى الإفلاس والاحتلال والثورة، بهذا المنطق يقارن الدكتور محمد حسين هيكل بين سياسة كل من لويس الرابع عشر 1638- 1715م والخديوي إسماعيل 1830- 1895م، بشأن الضرائب والقروض.

محمد حسين هيكل
محمد حسين هيكل

يروي الدكتور هيكل حواراً بين اثنين من مستشاري لويس الرابع عشر، أحدهما كان ضد القروض الخارجية والاكتفاء بضرائب تكون في استطاعة الناس، والآخر كان مع الاقتراض وهو يعلم شره الملك للاقتراض، ويعلم أن الملك سوف يقترض بلاحدود، ولسداد هذه القروض، فإنه سوف يفرض الضرائب بلا حدود.

وبعدما انتهى اجتماع المشورة، وخرج الرجلان من مجلس الملك، قال الأول للثاني: «اعترف لك أنك انتصرت، لكن هل تظن أنني لم أكن أعرف أن القروض الأجنبية يمكنها أن توفر للملك حاجته من المال؟ إنني أعلم ذلك لكني تجنبت المشورة عليه بذلك، لأنني أعلم أن القروض الخارجية تعني سدادها بضرائب محلية، ولأنني أعلم أن شهية الملك للقروض إذا انفتحت فلن تتوقف، كل قرض سوف يعطشه لقرض جديدة، ومن ثم فإنه سوف ينتهي من فرض ضريبة إلى التفكير في فرض ضريبة جديدة، وهكذا ندخل في عطش لا يرتوي من المال، قروض جديدة تتبعها ضرائب جديدة وهكذا”.

وقد حدث ما توقعه المستشار الأمين: «إرتفعت ضريبة الرؤوس ثلاثة أضعاف، تضاعفت الرسوم على جميع السلع والحبوب بما يفوق قيمتها أربعة أضعاف، ضرائب جديدة على جميع السلع، كانت هذه الضرائب تسحق الجميع ولم يسلم منها أحد من أشراف ونبلاء ومرابين ورجال كنيسة، لقد كان الملك -لويس الرابع عشر- يمتص دماء رعاياه دون تمييز ويعتصرهم إلى أقصى حد مستطاع».

ويختتم الدكتور هيكل بالقول: «الشبه قريب جداً بين هذا الذي يقصه رجال القرن السابع عشر، وبين ما كان يحدث في مصر في عهد إسماعيل».

فكيف ذلك؟!.

…………………….

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بإذن الله.