على الطريقة التي نتذكرها من سيناريو صلاح جاهين في فيلم يوسف شاهين “عودة الابن الضال” 1976، يبعث مايك فلاناجان بالفتاة “ليزا” والشاب “وارين” إلى طريق الهروب من الجزيرة التي تدور فيها أحداث مسلسله الأخير “قداس منتصف الليل“، بينما خلفهما يحترق العالم.
عدا ذلك فإن كل شيء آخر يختلف، والاختلاف الأكثر تأثيرا يكمن في أن الأحلام هنا ليست وهما في عقولنا، إنها حقيقية ربما أكثر من اللازم، أما المشكلة فهي أن تلك الحقيقة ليست بالجمال الذي كنا نتصوره، بل على العكس تماما، إنها تقع – حين تتجسد- على تخوم الرعب.
في تعاونه الثالث مع نتفليكس، بعد مسلسليه الناجحين ” The Haunting of Hill House” 2018و “The Haunting of Bly Mannor ” 2019، يخرج فلاناجان من البيوت المسكونة من دون أن يغادر قانون الأماكن المنعزلة التي تتحول في مسلسله الأخير إلى جزيرة/ قرية الصيد “كروكيت” التي تعاني اقتصاديا بسبب تسرب النفط إلى ماء البحر، مما أدى إلى هجرة أغلب السكان للجزيرة، وعلى عكس هؤلاء المغادرين يعود الشاب رايلي “زاك جلفورد” بعد سنوات في السجن لقتله فتاة في حادث سيارة كان مخمورا أثناءه، وكذلك تعود حبيبة طفولته إيرين “كيت سيجل” التي تنتظر أن تضع حملها وتبدأ حياتها مجددا كأم عازبة، ولتتسلم – كمعلمة مدرسة- وظيفة أمها التي رحلت عن الحياة حديثا.
من يتابع أعمال فلاناجان سيعرف أن كيت سيجل ليست فقط زوجته وشريكته –كممثلة- في أعماله الأخيرة، بل إن الشخصية التي قدمتها في فيلمهما “Hush” 2016، كانت شخصية مؤلفة كتاب “قداس منتصف الليل” الذي يحمل اسمه المسلسل الجديد، ما يعني أن الفكرة كانت وليدة سنوات مضت، على الرغم من أن تلك السنوات تخللها العملان التلفزيونيان المذكوران، فضلا عن الفيلم الطويل ” DR. Sleep” 2019 عن قصة ستيفن كنج، على أية حال فإن العودة/ الزيارة الأهم إلى جزيرة كروكيت شبه المهجورة، هي الحضور المباغت للقس الشاب بول هيل “هاميش لانكلاتير” الذي يتسلم مهام القس السابق العجوز الذي ذهب في رحلة استشفاء روحي إلى بيت لحم، يحل الشاب محل الأب الكبير بمعاونة من الراهبة المتشددة بيف كين “سامانثا سلويان في أداء مذهل”.
في الخروج من بيت مسكون إلى جزيرة تحديات عدة، لأن الشخصيات في الجزيرة –مهما كانت معزولة قليلة السكان- تكثر وتتنوع، وعلى الرغم من العزلة، وبسببها أيضا، تتعدد العلاقات بين الشخصيات وتتنوع، يمكن ملاحظة أن لكل شخصية في المسلسل عزلتها وعقدتها، ففضلا عن العائد من السجن والفاقدة لأمها، والقس الجديد والراهبة المتربصة، ثمة العمدة/ الشرطي المسلم حسن “راهول كولي” الذي اختار أن يعيش ويعمل هنا مع ابنه الصغير بعد وفاة زوجته، ليبتعد عن العنصرية في الدوائر المركزية، ليجد نفسه هنا في عزلة إضافية بوصفه مسلما وحيدا في بلدة مسيحية مؤمنة، ملاحظا اغتراب طفله الأشد، أما روبرت لونجستريت فيلعب دور مدمن الكحول جو كولي، الذي تسببت ثمالته الدائمة في إصابة مزمنة للطفلة ليزا، أقعدتها عن المشي، أما طبيبة الجزيرة سارة “أنابيث جيش” فملزمة بالعيش والعمل في ذلك المكان المعزول، لالتزامها برعاية أمها المصابة بالخرف ” لعبت الدور أليكس أسو”، وهي – الأم- الحبيبة القديمة للقس العجوز الغائب في رحلة استشفائه.
علاقات وشخصيات تبدو أقرب إلى مسلسل اجتماعي، فكيف يرتبط ذلك بدراما الرعب؟ هذا هو الأسلوب المميز لمايك فلاناجان، الرعب الذي يمشي تحت جلدك أولا، تستشعره ولا تميّزه بسهولة في السياقات التي تبدو اعتيادية، هنا في الحلقات السبع التي تكوّن المسلسل وتهيمن عليها أسماء لاهوتية، يهيمن الدين على الأحداث كما يهيمن على أهل الجزيرة، ذوي الأغلبية المؤمنة والأقلية المتشككة والندرة الرافضة للدين كليا. وبينما ينتظر المشاهد أن يظهر الرعب من عوالم فلاناجان المألوفة، من أشباح القتلى والبيوت المسكونة وألاعيب السحرة، يفاجئه الرعب من حيث لا يتوقع، من الملائكة ومعجزات الدين وصلوات القس الشاب.
تماما كما في الكتاب المقدس تسري المعجزات في الجزيرة، ينهض المُقعد ويمشي العاجز ويبرأ المريض، فيذهل المشككون وتمتلئ الكنيسة بالرواد لأول مرة، يطلب السكان المساكين معجزات أكثر، ولدهشتهم يستجاب لهم، لكن –لأن قواعد الدراما لا تتغير– يكون الثمن فادحا.
لوهلة يبدو سكان الجزيرة كالجماعات الدينية التي تؤمن بمخلّص ما وتنتهي عادة بانتحار جماعي، لكن ما يميّز جزيرة كروكيت هو أن معجزاتها ليست وهمًا، ليست خداعا بصريا ولا نتاجا لأدخنة عشبية مخدرة، يحاول “أهل العلم” في الجزيرة بلا جدوى البحث عن تفسير فيزيائي، ويجد المشككون في الدين أنفسهم أمام وقائع تهز “إيمانهم” المادي، فينتقلون إلى أسئلة جديدة عن معنى الحياة وماهية الوجود نفسه، لكن المعجزات، أو أثمانها الفادحة، تداهم الجميع قبل أن يستكملوا أسئلتهم، لقد رأوا المعجزة مجسدة في الملاك أمام أعينهم، لكنه، لسوء الحظ، لم يكن جميلا على الإطلاق، لقد شفى الناس وملأ بيت الرب، لكنه مع ذلك، بدا أشبه بشيطان.