لا يشكل تاريخ ميلاد البابا تواضروس في الرابع من نوفمبر مناسبة عادية له. إذ يتزامن مع القرعة الهيكلية التي اختارته بطريركًا وقائدًا لكنيسة الإسكندرية.

احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ، بعيد ميلاد البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، التاسع والستين، فيما احتفى عدد من مطارنة وأساقفة الكنيسة بتلك المناسبة عبر تقديم تهانيهم للبابا عبر صفحاتهم الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي.

تسعة سنوات عاشها البابا تواضروس فوق هذا الكرسي مقاومًا للأمواج مرة، وسامحا لها بالعبور مرات كثيرة. بعد أن وجد نفسه يلملم تركة من الانجازات والأزمات تركها سلفه البابا شنودة الثالث الذي قضى في قيادته تلك أربعين عامًا. تغير فيها الكثير في أوضاع الأقباط سياسيًا واجتماعيًا حتى ما إذا جاء البابا تواضروس ليجلس على مقعده. قادمًا من ايبراشية صغيرة في البحيرة قد هالته المفاجأة واستغرق وقتًا ليفهم ويحلل طبيعة المسؤولية في زمن ما بعد ثورة يناير. زمن أخر تعيشه البلاد ماتت فيه النظرية الأبوية التي حكمت أجيالا متعاقبة.

جاء البابا تواضروس واضعًا فوق رأسه تاج البطريرك، ولكنه تاج مثقل بالأعباء والمسؤوليات. بين بلاد تعيش مرحلة انتقالية سياسيًا وكنيسة تعيش مرحلة مماثلة داخليًا، فقد عمل الأنبا باخوميوس القائم مقام في العام الانتقالي بين الباباوين. على الحفاظ على سلام الكنيسة حتى يتسلمها البطريرك التالي هادئة ولكنه الهدوء الذي سبق الكثير من العواصف.

البابا تواضروس.. كاريزما سرقت العقول

قبل أن يجلس البابا تواضروس على مقعده، وبعد أن تم إعلان اسمه لقيادة السفينة، جرى تعليق المشانق في كل مكان من حوله. مشانق المقارنة بينه وبين البابا الراحل ذو الكاريزما الهائلة التي سلبت عقول المسلمين قبل الأقباط. وتناثرت في الأجواء الأسئلة التي طرحتها العقول المنتظرة عن البابا الجديد الذي لم يتمتع بالشهرة الكافية قبل انتخابه. فلا هو من وعاظ الفضائيات المسيحية ولا من أساقفة الأزمات فقد كان الأنبا تواضروس راهبًا هادئًا يخدم كأسقف مساعد في إيبراشية البحيرة والخمس مدن الغربية. يعاون أستاذه الأنبا باخوميوس، يفضل دائمًا أن يخدم الأطفال ويرى فيهم مستقبل الكنيسة. بينما ينأى بنفسه عن كل ما دون ذلك، فلا يتصدر اسمه صفحات الجرائد ولا يتصدى للمعارك في الصحف.

حين استلم البابا مسؤوليته تلك، قرر أن يستغل مهاراته الإدارية التي حصل فيها على درجة الماجستير من بريطانيا. في إعادة ترتيب البيت من الداخل، إلا إن تحركاته العلمية المتحمسة تلك قد أزعجت صقور قضوا فوق مقاعدهم سنوات طويلة. تمتعوا فيها بالسلطة والجاه والشعبية والنفوذ، فما كان من البابا الجديد إلا أن انتبه إلى خطورة الحماس. وقرر أن يتراجع خطوات إلى الخلف، تراجع مشوب بالحذر، حذر يمكنه من قراءة الخريطة جيدًا حتى لا تدوس قدماه العقارب والحيات، ولا يتورط في تفجير حقول ألغام.

بينما يحاول البابا ترتيب أوراقه في الداخل، كانت البلاد قد اشتعلت خارج أسوار الكاتدرائية وسط استقطاب سياسي حاد. وانتخابات رئاسية أتت بأول رئيس إسلامي لا يرى هو وأنصاره في الأقباط إلا أهل ذمة. فهم ليسوا مواطنون كاملي الأهلية بل من رعايا دولته الإسلامية أو جالية في حلم الخلافة المنتظر. لقد شكلت تلك الظروف السياسية ضغوطًا هائلة على بطريرك ما لبث أن تسلم عصا الرعاية. فلا هو قادر على تصويبها في وجه ذقون الإسلام السياسي ولا الاتكاء عليها مطمئنًا، كانت لحظة مفصلية تأمل فيها. حتى وجد نفسه في أبريل 2013 يواجه حصارًا للكاتدرائية من أنصار الرئيس مرسي والتيارات الإسلامية، تلك لحظة بكيت فيها إلى الله يقول البابا تواضروس بكثير من الألم.

البابا تواضروس.. ورياح التغيير

بعدها بشهرين سيجد البابا الأقباط في الشارع جنبا إلى جنب مع المصريين الرافضين لاستمرار حكم مرسي في مظاهرات 30 يونيو. فينضم بعدها بثلاثة أيام إلى اجتماع القوى السياسية لإعلان خارطة الطريق ويقول “شعرت إن كل الناس في الشارع وعلي أن أفعل شيئا لخدمة بلادي”. ستأخذه طيارة هليكوبتر من مقره بكنج مريوط وتذهب به إلى مطار برج العرب حتى تهبط في مقر الاجتماع. فيجد نفسه محاطا بشيخ الأزهر وبكافة القوى السياسية موقعا على بيان إزاحة الرئيس محمد مرسي.

تغير جديد لم يحسبه البابا ولكنه سيتطلب منه جهودًا كبيرًا، يسافر فيها بنفسه ويرسل رجاله شمالًا وجنوبًا. للتأكيد على إن ما جرى لم يكن إنقلابا عسكريًا بل تعبيرا عن رغبة المصريين. حينها ستتوطد علاقة البابا بالدولة الجديدة ويصبح عصره نهاية لشقاق استمر عقود بين الكنيسة والدولة.

تستقر البلاد، ويعود البابا إلى مهامه الإدارية داخل أسوار الكاتدرائية، فيعمل على إصدار لوائح جديدة للرهبنة ولاختيار البطريرك ولمجالس الكنائس. ولاختيار الأساقفة، لوائح وأوراق غابت عن الكنيسة لسنوات وحان وقت تحويلها إلى مؤسسة بالمعنى العلمي للكلمة.

إصلاحات هنا واختيارات هناك، مرة تخطئ ومرات تصيب، انتقادات لم تتوقف، جهات تدافع عن مصالحها وتتسلح براية الدفاع عن الإيمان. تحركات كثيرة ونشاط واسع للبابا تواضروس الذى قرر أن يكون نفسه، لا يسير على خطى رسمت له مسبقًا. ولا يستجيب إلا لرؤيته الخاصة حتى وإن تعارض ذلك مع آراء كثيرين. وسط تلك التجاذبات رأى البابا في نفسه بطريرك مستنير قادر على الإصلاح والتطوير. إلا أن رغباته تلك بقدر ما اصطدمت مع صقور الكنيسة حراس القديم إلا إنها تصادمت أيضا مع الراغبين في الإصلاح السريع. بينما المؤسسات الدينية تعيش على التأني وحركة الزمن فيها بطيئة ليست كحركته في سجالات السوشيال ميديا.

تسع سنوات عاش فيهم البطريرك تقلبات كثيرة وأحداث لم تراها عين ولم تخطر على قلب بشر. إلا أن اللحظة التي قسمت ظهره كانت حين اضطر إلى توديع مستشاره اللاهوتي الأنبا إبيفانيوس. الذي رحل مقتولًا غارقًا في دمائه وسط ديره وهو الذي كان من أشد مؤيدي تحركات البابا الإصلاحية تلك.

سنوات مرت، وأيام ستمر من عمر الكنيسة، ويبقى الحادي عشر من نوفمبر يومًا تغيرت فيه اتجاهات سفينة مارمرقس السائرة وسط الأمواج بقوة الإيمان وبرسالة الإنجيل.