لم يعرف الإنسان فنا ارتبط، في سنواته الباكرة، بالحرب مثلما فعلت السينما، ولم تؤثر الحرب في تسارع تطورات فن كما فعلت مع السينما، ولم يوظف فن لخدمة آلة الدعاية للحرب كما جرى للسينما.

الدلائل المختارة، هنا، يربطها، على الرغم من قفزاتها الزمنية، محاولة البحث عن ما يجمع الثلاثي: الحرب، الفن، التاريخ، ثم يقودنا إلى التفكير في الأفلام الروائية المصرية التي تلامست مع حرب أكتوبر.

*******

كيبلنج وعبء الرجل الأبيض

في عام 1896 نُظمت أول مسابقة أدبية لهذا الفن الوليد في إنجلترا، وكان الموضوع المختار متعلقا بمديح جنود الإمبراطورية، وتورد العديد من المراجع اسم رديارد كيبلنج (Rudyard Kipling)، ذلك أن العديد من الأفلام المبكرة كانت مبنية على الأغاني الشعبية. وكانت قصيدة كيبلنج “تومي” قد أصبحت رائجة بشدة، وعلى الرغم من أنه ليس متفق، حتى الآن، على الجذور الواقعية للشخصية الشعبية تومي أتكينز “Tommy Atkins”، لكنها أضحت معروفة على نطاق واسع، وإحدى الروايات ترجعها إلى فترة نهاية القرن الثامن عشر؛ حيث قادت بريطانيا تحالفا لمحاربة فرنسا الثورية (1792- 1795)، بقيادة آرثر ويليسلي، الذي استوحى الاسم من شجاعة جندي اسمه توماس أتكينز، كان مصابا بجروح رهيبة. وحين سأله الجنرال عن صحته، أجاب الجندي “كل شيء على ما يرام يا سيدي. كل هذا في عمل يوم واحد”، وتوفي بعد فترة وجيزة.

هكذا أصبح الاسم يطلق شعبيا على جنود الإمبراطورية، الذين يستخدمونه بدورهم فيما بينهم، كما يستخدم المجند المصري ألفاظ “دفعة، وحش، أو غيرهما”.

عن تومي ذاك كتب كيبلنج قصيدته عام 1892، وفورا أضحت مشهورة، وقد كتبها بلهجة الكوكني اللندنية؛ وهي لهجة الطبقات العاملة الأكثر فقراً في الطرف الشرقي من لندن، ولا تزال تعتبر علامة على تراث شرق لندن “الحقيقي”، ولهذا فيمكن أن تكون الترجمة الأنسب للبيت الأول منها على هذا النحو: “دخلت الخمارة عشان كوز بيرة”.

عاد كيبلنج إلى تومي مرات عدة بعد ذلك، في قصائد وقصص.

القصيدة، ثم الفيلم، يعبران عن ثلاثي: الحرب والفن والتاريخ، بصورة دالة: نحن في العقد الأخير من الحقبة الفيكتورية (نسبة للملكة فيكتوريا 1837- 1901)، وهو العقد الذي اضطرد فيه توسع الإمبراطورية ونفوذها الاستعماري، وسيبلغ مداه الأقصى في العقد التالي (قُدر توسعها بنحو مائة ألف ميل سنويا)، وكان كيبلنج، الذي سيوصف بعد سنوات بأنه شاعر الإمبراطورية، يريد أن يعلي من قيمة “تضحيات” الجندي البسيط، في مواجهة استعلاء مواطنيه في المركز الامبراطوري.

في موضوع “قرنح بإزاء كيبلنج وتشرشل والريشات الأربع” يمكن للقارئ أن يجد ما يغني عن تكرار دور كيبلنج التالي، ويمكن فهم دلالة “تومي” بالإشارة إلى أن الجندي الاستعماري البريطاني كان يطلق عليه اسماء مختلفة في كل بقعة يُلقي بظله الثقيل فيها، في مصر كان اسمه “جوني”، وتقدم حميدة (شادية) في فيلم “زقاق المدق” (1963) صورة له.

https://www.youtube.com/watch?v=kqh3pGhIepY&feature=youtu.be

مشهد من فيلم “زقاق المدق” 1963

في الرواية، التي صدرت طبعتها الأولى سنة 1947، يقدم نجيب محفوظ، لمحات ثاقبة للغاية على وطأة الحرب العالمية الثانية، والاحتلال البريطاني على حياة المصريين، وما اوقعته من آثار مهولة على مصائر شخصياته، هذا حوار بين حسين، الذي ذهب للعمل في معسكرات جيش الاحتلال، وعباس الحلو الذي يحب حميدة، ويتعذب لهروبها من الزقاق:

فصاح حسين بشدة:

نحن تعساء. بلد تعيس وأناس تعساء..أليس من المحزن ألا نذوق شيئا من السعادة إلا إذا تطاحن العالم كله في حرب دامية؟! فلا يرحمنا في هذه الدنيا إلا الشيطان!

وأمسك قليلا وهما يشقان طريقا بين سابلة السكة الجديدة، وقد أخذ ستار الظلام في الانتشار، ثم تنهد في حسرة:

لشد ما تمنيت أن أكون جنديا محاربا! تصور حياة جندي باسل، يخوض غمار الحرب، وينتقل من نصر إلى نصر، يركب الطيارات والدبابات، يهاجم ويقتل ويسبي النساء الفارات، ويبذل المال عن سخاء، فيسكر ويعربد فوق القانون. هذه هي الحرب. ألا تتمنى أن تكون جنديا؟

الحق أن ركبتيه كانتا تتخلخلان إذا سمع صفارة الإنذار، وكان من رواد المخبأ المواظبين فكيف يتمنى أن يكون جنديا من المحاربين؟ بيد أنه تمنى صادقا لو كان خلق جنديا فظا متعطشا للدماء فيسهل عليه الانتقام ممن آذوه وبددوا حلمه في السعادة والحياة الرغدة! وقال بلهجته الفاترة:

من لا يتمنى ذلك؟!

*************

السينما تتحمل نصيبها من عبء الرجال البيض

في عام 1895 أسس ثلاثة من الإنجليز هم: ج. ستيوارت بلاكتون وألبرت. أي- سميث ووليلم. ت. بروك، في بروكلين، نيويورك، شركة “فيتاجراف”، ويعتبر بلاكتون واحدا من أهم الرواد المبكرين في صناعة السينما..سافر إلى أمريكا عام 1895 وهو في العشرين من عمره. وفي نفس العام تعاون مع إديسون كرسام لأفلام الكارتون. وتذكر الكثير من المراجع أن أول فيلم حربي مسجل في التاريخ من إنتاج هذه الشركة، ومكون من بكرة واحدة وبطول 90 ثانية فقط بعنوان “إنزال العلم الاسباني” وظهر في العام 1898.

“إنزال العلم” كان إحدى معارك الحرب الإسبانية- الأمريكية، التي بدأت عام 1898، وقد بدأت بها الولايات المتحدة توسعها (الإمبريالي) الذي جاء، أولا، تنفيذا لمبدأ مونرو (جيمس مونرو: خامس رؤساء الولايات المتحدة من 1817 إلى 1825)، القائل “أمريكا للأمريكيين”، أي طرد أي وجود للدول الأوروبية في نصف الكرة الغربي، وأن تحل محلهم في مستعمراتهم، وثانيا، لأن حركة التصنيع في أمريكا بدأت وتيرته تتسارع بصورة مذهلة. وأضحت قادرة على مصارعة “القارة العجوز” وبدأت ببقايا الاستعمار الإسباني في القارة الأمريكية، وكانت كوبا والفلبين أول أهداف سياسة القوميين الأمريكيين المؤيدين لعقيدة مونرو، وثالثا لأن مظاهر الحداثة، في المراكز الحضرية الرئيسية بالولايات المتحدة، تنامت بصورة أسرع من مثيلتها في أوروبا، وكانت السينما أحدثها وأقواها تأثيرا، بصورة لا تقارن مع غيرها، على الرغم من تأثيرها هي الآخرى، الهائل: الإعلانات المرئية، الصحف المطبوعة، المسارح، قاعات الموسيقى.

ففي اللحظة الأولى لنشوب الصراع بين توماس جون سكيهيل كانت السينما حاضرة لتشارك لأول مرة في حرب، وقد اختلطت بجميع أشكال الاتصالات في تلك الفترة ومارست، بطريقة غير مسبوقة، موقفا فاعلا في تشكيل الرأي العام، وتوجيهه، وبعبارة أكثر تحديدا شكلت الحرب الأمريكية الإسبانية فرصة ذهبية لاختبار المدى الذي يمكن أن تذهب إليه السينما كأداة تواصل، وتأثير، أيديولوجي، وهي لا تزال في سنواتها الباكرة.

في الطريق إلى سانتياجو- كوبا 1898

*********

الدليل الثاني: الرقيب يورك أو أن تشاهد فيلما فتتطوع

نشبت الحرب العالمية الأولى (عرفت حينذاك بالحرب العظمي) في 28 يوليو 1914، وانتهت في 11 نوفمبر 1918، ودخلتها الولايات المتحدة في 6 أبريل 1917، وكانت السينما الهوليوودية أكبر الفائزين من الحرب، التي أدت إلى تدمير معظم استوديوهات الإنتاج في أوروبا، فاحتلت الأفلام الأميركية ما نسبته 80% من الإنتاج العالمي للأفلام، وأصبحت تتحكم بالسينما العالمية ومصيرها.

الدليل الثاني عن تأثير السينما يأتي من الحرب العالمية الثانية، لكن قصته تبدأ من “العظمى”، وفيه محطات هامة في مصر.

كان عامل التلغراف الأسترالي توماس جون سكيهيل (1895-1932)، قارئا نهما، يشارك في مسابقات الخطابة في بلدته، وبدأ يكتب الشعر حين اشتعلت شرارة الحرب العظمى فانضم إلى الكتيبة الثامنة، القوة الإمبراطورية الأسترالية، في أغسطس 1914، وفي 25 إبريل 1915 ألقت به زوارق الإنزال على الشاطيء التركي، ضمن القوة التي أرادت الذهاب مباشرة إلى اسطنبول.

كانت حملة غاليبولي كارثية على الحلفاء، وظل شبحها يخيم على ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت نزول قوات الحلفاء على شواطيء نورماندي، لتحرير أوروبا من الاحتلال النازي.

شكّل الجنود الأستراليون والنيوزيلنديون الجزء الأكبر من قوات الحلفاء، وكان هدف الحملة فتح الطريق إلى البحر الأسود للقوات البحرية، ثم الاستيلاء على اسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت حليفا لألمانيا خلال الحرب، لكن هذه القوات وواجهت مقاومة شرسة من الجيش العثماني.

بعد نحو أسبوعين (8 مايو) انفجرت قذيفة في الخندق الذي كان يحتمي فيه سكيهيل، فأصيب بالعمي، ونقل للتداوي في القاهرة. استمرت الحملة لمدة ثمانية أشهر، ثم حين لم يجد قادتها بدا من الانسحاب تم إخلاء قوات الحلفاء، في الوقت الذي كان فيه سكيهيل يعيد النظر في قصائده التي كتبها في الخنادق، ويرتبها، ومن ثم دفع بها إلى مطبعة في جاردن سيتي، قريبة من دار الحماية، ومعسكرات القوات البريطانية المحتلة في ميدان الإسماعيلية (التحرير، حاليا)، حيث كان يقيم.

قريبا من، وربما في ذات الدائرة التي كان تحرك فيها سكيهيل، كان تتحرك زمرة من رجال الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة، يدبرون أمر طريق آخر، أيسر وأقل تكلفة، في الجنود والمعدات والأموال، يقودهم إلى مقر الخلافة، وكان شريف مكة (الشريف حسين)، الطامح في خلافة عربية ترث التركية، يتوق لملاقتهم في طريق وسط، وكان.

في نوفمبر عاد “الجندي الشاعر الكفيف” إلى بلدته، وأعاد طبع ديوانه في ملبورن، ووزع خلال شهر ألفي نسخة، ثم قام، لمدة عامين متتاليين، بصفته ما زال مجندا، بجولة في أرجاء أستراليا، ألقى خلالها محاضرات، وجمع أموال لجمعية الصليب الأحمر، وخطب في مراكز التجنيد، لحث الشباب على المشاركة في الحرب، ثم سرح من الخدمة في 28 سبتمبر 1916.

توماس جون سكيهيل

توماس جون سكيهيل

وفي ديسمبر 1917، كانت الولايات المتحدة قد دخلت الحرب، فسافر إليها سكيهيل، وقام بجولة لإلقاء محاضرات عن الحرب، طيرت شهرته في الآفاق بصفاته الثلاث، في أمريكا الشمالية، فأثنى عليه الرئيس الأميركي، ثيودور روزفلت، واصفا إياه بأنه “أفضل جندي متحدث في العالم”، وأمر بعلاجه فاستعاد بصره في واشنطن عام 1918. وهناك عرف قصة الرقيب يورك، فسعى للتعرف عليه، واقنعه، بعد جهد بالغ، بكتابة قصة حياته ويومياته في الحرب. ثم ظل يعمل على كتابه، بينما تتوالى جولاته عبر العالم، وقد قادته إلى الاتحاد السوفيتي، سرا. وأخيرا، وحين أتم كتابه، كان في القاهرة، فذهب إلى نفس المطبعة التي أخرجت أول ديوان له، وطبع فيها “الرقيب يورك: قصة حياته ومذكرات الحرب” (1928).

*********

ما حدث في العظمى حدث مثله في الثانية، فمع اشتعال كل منهما كان أنصار مبدأ مونرو أقوى من الداعين للمشاركة في الحرب، وكانت الفكرة الأساسية هي ترك أوروبا لتخوض نزاعاتها وحروبها ونبقى في نصفنا الغربي، أنصار التدخل في الحرب الثانية كانوا يبذلون جهدا خارقا في الدفع لإنقاذ أوروبا من النازي والفاشيست، وكانت السينما من بين أهم أدوات الإقناع، والضغط، ولهذا راحت شركة وارنر برذرز (Warner Bros.)‏، التي أشترت في عام 1925 شركة “فيتاجراف” الرائدة، تحاول، منذ بدأت الحرب، المرة تلو الآخرى، إقناع ألفين كلوم يورك (1887- 1964)، بمنحها حق تحويل قصة حياته ويومياته عن مشاركته في الحرب العظمي إلى فيلم سينمائي، ولكنه ظل يرفض، حتى بعدما نقلت إليه أنباء أهوال ترتكب بحق المدنيين والأطفال والنساء، لكنه استسلم للجهود الدؤوبة بعدما عرضت الشركة عليه تخصيص جانب من الأرباح لتمويل إنشاء مدرسة الكتاب المقدس متعددة الطوائف.

وعرض فيلم الرقيب يورك (Sergeant York)‏ لأول مرة في مدينة نيويورك، يوم 2 يوليو 1941، وحقق نجاحا كبيرا، فقد تصدى للإخراج هوارد هوكس، وأدى دور يورك، جاري كوبر. ثم وقعت المفاجأة الكبرى: الهجوم على بيرل هاربر (أو العملية زد “Z”، كما كان يسميها المقر العام للإمبراطورية اليابانية)، وهي غارة جوية مباغتة نفذتها البحرية الإمبراطورية اليابانية في 7 ديسمبر 1941 على الأسطول الأمريكي القابع في المحيط الهادئ في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، في المحيط الهادئ.

كان الهجوم يعني شيئا مؤكدا، وقطعيا: دخلت الولايات المتحدة الحرب على كل الجبهات.

في ذات الليلة وقع حدثان على جانبي الأطلسي؛ فحين نقلت لتشرشل أنباء “زد” قال: الليلة يمكنني النوم من دون كوابيس، أو قال: الآن بت أكثر من أي وقت مضى واثقا في النصر، أو قال: أيقظوني عندما يرن الهاتف، فعلى الجهة الآخرى سيكون الرئيس الأميركي يبشرني بدخول بلاده الحرب، قال تشرشل بعض هذا، أو كله، أو ما شابهه، المحتوى واحد. في الضفة الغربية للاطلسي كان وقع “زد” لا يوصف على رواد “الرقيب يورك”، فتذكر بعض المراجع أن الشباب كان يخرج من دور العرض السينمائي ليذهب مباشرة إلى مراكز التجنيد للتطوع في الجيش، وينتظرون هناك حتى الصباح، في انتظار ملأ الطلبات.

وحققت وارنر أرباحا قياسية.

قصة يورك، كما كتبها سكيهيل، “الجندي الشاعر الذي عاد إليه بصره”، وكما قدمت في الفيلم، تحمل ثلاثة تحولات كبرى للغاية في تركيب شخصية يورك، فهو كان مزارعًا شابًا فقيرًا، يعول والدته الأرملة وأخته وشقيقه الأصغر، ويستطيب المرح والمزاح والعراك مع الاصدقاء عقب جولات الشراب المفرط، ثم أنه يجيد الرماية، ويستغل مهارته هذه كي يجمع ما يكفي لشراء قطعة أرض ليزرعها، لكن المالك يتراجع، فيغضب يورك، ويذهب لينتقم، وهنا يحدث التحول الأول، فبينما هو في طريقه للعراك، يرعد الغيم ويبرق، وتقع صاعقة عليه وعلى بغله، ولكنهما ينجوان، فيعتبر ذلك إشارة من السماء، ويهتدي للإيمان.

وحين يتم استدعاه للتجنيد، بعد أن دخلت بلاده الحرب، يرفض دافعا بأنه كمؤمن يرفض العنف، وأن ضميره يمنعه من المشاركة في قتال، آيا كانت الأسباب، لكن تحوله عن موقفه هذا، يأتي من داخل عقيدته، فيقتنع أنه عليه “أن يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فيطيع الدولة، ويتجند، على أن يظل رافضا للمشاركة في القتال، فيكلف بأعمال هامشية، ويتدرب على إسعاف المصابين، وسط سخرية واستهزاء رفاقه الجنود.

يأتي التحول الثالث في ميدان القتال، فرفقة السلاح تفعل مفعول السحر، وهو إذ يرى زملاءه يتعرضوا للأهوال يندفع لفعل لا عقلاني تماما، لكنه يحقق مآثرة مذهلة، ويصبح بطلا لا مثيل له في الشجاعة.

مشهد من الفيلم الأمريكي “سيرجنت يورك” 1941

ويعود بعد النصر متوجا بالفخار، ثم تبرعت مجموعة من رجال الأعمال في ولايته بأموال ليتمكن من شراء مزرعته الخاصة.

في كتابه “حرب أكتوبر- مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي”، وتحت عنوان “رقيب يرفض القتال”، يذكر الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، أثناء حرب أكتوبر 1973، الآتي: “في الساعة العاشرة من صباح يوم السبت 6 من أكتوبر أبلغني أحد قادة الجيوش هاتفيا بأن لديه ضابط صف برتبة رقيب يرفض القتال عندما أُخطر بمهمته في القتال في صباح ذلك اليوم وقال لقائده “إن القتل والعنف ليسا من طبيعتي كما أنهما يتعارضان مع معتقداتي. وأنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ هذه المهمة”، وقد حاول أصدقاؤه وقادته أن يثنوه عن هذه الفكرة ولكنه أصر على رأيه. كان قائد الجيش في ذروة الغضب وهو يبلغني بهذا الخبر. وأضاف قائلا بأنه سوف يأمر بتشكيل مجلس عسكري عال لمحاكمة الرقيب المذكور. ولكني أخذت الموقف بمنتهى البساطة وقلت له “لا علينا إنه مجرد فرد واحد من مائة ألف سوف يقتحمون القناة بعد ساعات قليلة. إني أعلم أن نسبة الذين يرفضون القتال في الجيوش الأخرى أعلى من ذلك بكثير. لا تشغل نفسك بهذا الموضوع أرسله تحت الحراسة إلى السجن الحربي وسوف نبحث موضوعه فيما بعد”.

*************

الدليل الثالث: كيف يصنع المراسل الحربي الأسير أعظم فيلم حربي

يعتبر العديد من النقاد والمؤرخين السينمائيين الفيلم الفرنسي “الفصيلة 317″، إنتاج 1965، والحائز على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان كان في نفس العام “أعظم فيلم حرب أُنتج على الإطلاق”.

في مطلع الخمسينيات كانت فرنسا تخوض جولتها الاستعمارية الأخيرة في آسيا، حين أدرك الشاب الفرنسي بيير شويندوفيرفر (1928- 2012) أنه لن تتاح له الفرصة لمقاربة هوسه بالسينما إلا من خلال ما هو متاح أمامه، فتطوع ليصبح مصور حرب للجيش الفرنسي، وتم إرساله إلى سايجون (عاصمة فيتنام السابقة)، وهكذا وجد المراسل الحربي الشاب نفسه في قلب معركة كبرى، وهو يسقط بالمظلة ضمن كتيبة المظليين الهابطة لتنضم للقوات الفرنسية التي تخوض معركة “ديان بيان فو” (معركة مصيرية بين قوات اتحاد تحرير فيتنام والجيش الفرنسي، الذي كان مدعومًا من قوات من حلف الناتو)، وجاء احتفاله بعيد ميلاده السادس والعشرين وسط حصار دام 57 يومًا (1954)، وعلى الفور باشر مهمته فقام بتصوير المعركة بأكملها، لكن المعركة انتهت بهزيمة مهينة للفرنسيين، عندما خرج قائد الجيوش الفرنسية حاملاً الراية البيضاء، معترفا بالهزيمة، ومعلناً انتصار جيش فيتنام، بقيادة القائد الأسطوري للجيش الفيتنامي، الجنرال فون نجوين جياب، ووقع المراسل الحربي، هو أيضا، في الأسر، ولكن قبل ذلك كان قد دمر أفلامه وكاميراه، ونجح فقط في إنقاذ وإخفاء ست بكرات، مدتها دقيقة واحدة.

ثم سيلتقي المراسل الحربي الأسير، بزميل أقدم وأشهر، إنه رومان كارمن، مراسل الحرب السوفييتي، الذي غطى الحرب الأهلية الإسبانية، والحرب العالمية الثانية، والذي سيخبره، خلال لقاءات ودية بين زملاء أنداد، وإن يكن كل منهما يقف في المعسكر المواجه للآخر، أنه عثر على بكراته وشاهدها، وأنه سيظل محتفظا بها، لتبقى من المعركة وتشاهد، فقط، تلك اللقطات التي صورها هو.

سيرة شويندفيوفر الفنية حافلة، لكن تجربة المراسل الحربي والأسر، بقت التجربة الأعمق، والأكثر تأثيرا مجمل أعماله اللاحقة، فقد واصل العمل كمراسل حربي، وكتب روايات، وتدرب على السينما في الولايات المتحدة، وعاد لفرنسا كي يشرع في بناء مشروع سينمائي كبير، يستند إلى خبرته المباشرة، وإلى نضج أفكاره ومراجعاته العميقة للإرث الإمبريالي الفرنسي، ففي عام 1991 يعود إلى فيتنام، كمخرج، وبرفقته ابنه، فريديريك، كمصور، لتصوير فيلم ملحمي عن معركة ديان بيان فو، وفي هذه المرة، استعان بجنود ووحدات من الجيش الفيتنامي، لأداء دور قوات المقاومة للمحتل الفرنسي، وجنود مظلليين من لواء المظليين الحادي عشر الفرنسي للعب أدوار المظليين الفرنسيين في عام 1954. وعرض الفيلم في العام التالي، وفي الصورة الأخيرة، التي بقيت طويلا على الشاشة، كُتبت هذه العبارة “شكر لجيش جمهورية فيتنام الشعبية، الذي وبعد أربعة عقود من المعارك، وفر الوسائل التقنية لتحقيق هذا الفيلم في فيتنام. وتمنياتي الحارة للشعب الفيتنامي”، هل هذا اعتذار؟، لا يبدو ذلك، لكن يبقى جزء من سحر الفن أنه مقرون، في معظم الأحيان، بالالتباس.

مشهد من فيلم الفرنسي “الفصيلة 317”

**************

حين شرعت في التفكير في كتابة هذا الموضوع برزت عدة أسئلة، بدت لي منطقية: هل يمكن اعتبار الأفلام الروائية التي أنتجتها السينما المصرية عن حرب 6 أكتوبر 1973، أفلام حربية، أو أفلام عن الحرب؟، وما هي المفاهيم المحددة لهذا النوع من الأفلام، وهل هناك اتفاق عليها، أم إنها غير محددة الملامح؟، ثم هل هناك من يكترث، حقا، بقراءة مثل هذا الموضوع، والتفكير فيما يطرحه؟، وأخيرا: هل هناك من يكترث بالتفكير في الحرب، نفسها؟

كان سؤالا، غريبا، وربما، صادما، ألح عليّ، لأكثر من شهر منذ نشر موقع “بي بي سي نيوز عربي” تقريرا خبريا، صباح السادس من أكتوبر، الماضي، كتبه عامر سلطان، تحت عنوان: حرب أكتوبر: اختيار يوم الغفران لبدء مصر وسوريا الهجوم على إسرائيل “كان نصيحة جنرال روسي”، ولم أجد له أي صدى في الصحافة والإعلام المصري، الذي يحتفي بالذكري، ويفرد لها مساحات، مخصوصة، على مدار الشهر.

المنشور ينقض بعضا من أهم ما يمكن أن يطلق عليه “المعلوم عن حرب أكتوبر/ رمضان بالضرورة”، لذلك جاء التساؤل، والاستغراب الصادم.

فرضية فاسيليوفيتش وما يستحقه السوفييت

يذكر، سلطان، أن ما يكتبه يستند إلى وثائق بريطانية رُفعت عنها السرية، مؤخرا، فبعد شهور قليلة من انتهاء الحرب، أجرى حلف شمال الأطلسي “الناتو” دراسة للحرب بهدف “استخلاص الدروس” تحسبا لاندلاع صراع عسكري مع دول حلف وارسو في ذلك الوقت، بقيادة الاتحاد السوفييتي، على المسرح الأوروبي. وكلفت قيادة الناتو لمنطقة وسط أوروبا، التي كانت تحت رئاسة بريطانيا ومقرها ألمانيا، وإدارة الاستخبارات في المنطقة نفسها بإجراء الدراسة.

أهم ما ذكره، سلطان، واستوجب، من وجهة نظري، ردودا، وتعقيبات، وتعليقات، من خبراء مطلعين، ثلاثة نقاط، متعلقة بتقرير وجود دور مؤثر، للغاية، للسوفييت في الحرب، تخطيطا، وتنفيذا، وإمداد بالأسلحة والمعدات، على عكس تماما من الروسية، شبهة الرسمية للدولة في مصر، فتلك “الرسمية” لم تكتمل بعد.

فعن التخطيط والتنفيذ، ذكر، سلطان الآتي: “أوصى المستشار الروسي الكبير الجنرال فاسيليوفيتش بفترة يوم كيبور باعتبارها أفضل وقت للهجوم لتحقيق المفاجأة”. ثم “ما أثار اهتمام خبراء الناتو هو احتمال أن يكون الاتحاد السوفييتي على علم أكبر بكثير، مما كان يُظًن، بخطط السادات في مرحلة مبكرة، وهو ما يجعل السوفييت، حسب دراسة الحلف، يستحقون “قدرا أكبر من الاعتراف بفضلهم…وكشفت الدراسة أن أقمار الاستخبارات السوفييتية الاصطناعية “تُطلق عادة بمعدل 2 أو 3 مرات كل شهر، ولكن في الأيام الـ 17 بداية من 3 أكتوبر، أُطلِقت 7 أقمار لتغطية الشرق الأوسط، ووُضع (القمر) الأول في المدار قبل الهجوم بثلاثة أيام”.

وعن الدعم، ذكر، سلطان، أن دراسة الناتو كشفت “أن حجم الدعم السوفييتي للعرب أكبر وأهم بكثير من المعروف عنه”، ثم أورد أرقاما عن الامدادات السوفييتية لمصر وسوريا أثناء الحرب، ويخلص تقرير استخبارات الناتو إلى “أنه في خريف عام 73، كان عدد العمليات الجوية، التي نفذتها مجموعة القوات السوفييتية المتمركزة في ألمانيا الشرقية، التي كانت معروفة باسم GSFG، لأمداد العرب بالدعم العسكري، غير مسبوق في تاريخها”.

 

اقرأ أيضا

الحرب والفن والتاريخ: سينما أكتوبر.. رومانسية ورمزية مهجورة (1)

***********

غياب أم حجب

تقرر درية شرف الدين في مقال لها في “المصري اليوم” (6 أكتوبر الماضي)، بعنوان ” السينما الغائبة عن أكتوبر”، أن السينما المصرية قدمت “بصورة مرتجلة ومتسرعة خمسة أفلام فقط، لابد أن نسجل أنها من أضعف أفلام السينما المصرية، ولا تعبر أبدا عن عظمة تلك الملحمة الحربية والشعبية. والأفلام الخمسة هى: الوفاء العظيم، الرصاصة لا تزال فى جيبى، بدور، حتى آخر العمر، والعمر لحظة…تلك هى الأفلام الخمسة التى نعيد ونزيد فى عرضها منذ ما يقرب من نصف قرن فى التليفزيون مع ذكرى أكتوبر، ثم تناثر فيلمان أو ثلاثة فى سنوات لاحقة تذكر الحرب ومن بعيد”.

هل ينطبق أي معيار، أو قياس نقدي وتاريخي يتناول فيلم الحرب، على أيا من الأفلام الخمسة، وما السبب في: الارتجال، التسرع، ثم القلة، إلى حد الندرة؟

تتنوع التعريفات للفيلم الحربي، أو فيلم الحرب، لكنها تتقاطع في نقاط، وهي ما يمكن عدها حدودا فاصلة، بين هذا النوع السينمائي، وغيره.

فالفيلم الحربي هو الذي يكون موضوعه الرئيسي الحرب، وتتوالى أحداثه وفقا لمفاهيم درامية، وليس مجرد تصوير المعارك.

والموضوع الرئيس يمكن أن يتفرع إلى وحدات مخصوصة، فهناك دوافع أساسية ممكن طرحها، ويمكن أن تتغلب أحدها على الأخرى، فدافع الحفاظ على الحياة، وهي قيمة حربية أساسية، قد يتغلب عليها دافع التضحية بالذات من أجل الآخرين، أو الهدف “الأسمى”، وهناك الصداقة الحميمة بين الجنود، وأحيانا تتقدم قيمة عدم جدوى المعركة ووحشية الحرب على أي قيمة آخرى، وهناك آثار الحرب على المجتمع، والقضايا الأخلاقية والإنسانية التي تثيرها الحرب.

أحداث الفيلم الحربي يمكن أن تكون خيالية تماما، أي أنها لم تحدث في الواقع، وربما تكون ملتزمة بالرواية التاريخية، وتكون أقرب للتسجيل والتوثيق، وهناك ما يعد سيرة ذاتية، واقعية، أو حتى متخيلة.

وهناك من النقاد والمخرجين من يعتبر أن نجاح فيلم الحرب يقاس بالمدى الذي يصله شعور المشاهد ويجعله كأنه في خضم حرب بالفعل.

وتُطرح منظومة من المعايير الفارقة: ففيلم الحرب ينحى القيم والأخلاق المدنية ضمن أحداثه، كما تنحى قيمة الفرد ويكون في سبيل المجموع، وفيلم الحرب لا بد أن يرتكز على التنافسية والتدافع للوصول للأهداف، وأدوار النساء، تكون في الغالب، ثانوية.

هناك تعريفات ومحددات آخرى، عديدة، لكن مهما طال البحث فلن يمكن وضع تلك الأفلام الخمسة في نطاق النوع المسمى فيلم حربي، أو أفلام حرب، أفضل ما يمكن أن توصف به، أنها أفلام لامست حرب أكتوبر.

عرضت الأفلام الخمسة خلال سنوات أربع (1974- 1978)، وكان من الصعب أن يحاول أحد مهما بذل من جهد أن ينتج فيلما عن الحرب في العام التالي. ففي كتابه “مذكرات الجمسي- حرب  أكتوبر 1973″، يذكر المشير محمد عبد الغني الجمسي، الفقرة التالية: “وقع الرئيس السادات “اتفاقية كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 1978. وكان رأي الرئيس السادات، كما أبداه لي بعد أسبوعين من توقيع هذه الاتفاقية، أن مصر تمر بمرحلة جديدة تتطلب تغييرا شاملا فيمؤسسات وأجهزة الدولة. ولذلك قرر تغيير الوزراة حينئذ- وزارة ممدوح سالم التي كنت نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزير الحربية فيها- بوزراة أخرى، واختيار رئيس جديد لمجلس الشعب، وتغيير القيادة العسكرية- القائد العام ورئيس أركان حربالقوات المسلحة- وإطلاق اسم وزارة الدفاع على وزراة الحربية. كما تتطلب المرحلة الجديدة إجراء مفاوضات مع إسرائيل لوضع اتفاقية كامب ديفيد موضع التنفيذ في صورة معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل”.

***********

ترتيب الآفيش وتقلبات الربيع والخريف

من بين الأفلام الخمسة لعب الدور الرئيسي في ثلاثة منها محمود ياسين، وهو بذلك بطل الملامسة دون منازع، وتساوت كل من نجلاء فتحي ونجوى إبراهيم، فلكل منهما فيلمين، وعلى الرغم من أن محمود ياسين يتفوق بالعدد على كل منهما، لكن كل واحدة منهما سبقته في “الآفيش” (الملصق الدعائي)، وهي حالة نادرة للغاية في الفيلم الحربي، تبقى ماجدة، ونظرة واحدة لـ “آفيش” فيلم العمر لحظة، كافية.

الملصق الدعائي لفيلم “العمر لحظة”

 

لكن يمكن الإضافة: في ربيع 1978، كانت الممثلة والمنتجة ماجدة، تثق في أن كل الظروف والإمكانات قد توفرت لنجاح جماهيري ومادي، غير مسبوق لفيلمها، الذي انشغلت بتوفير كل مقومات النجاح له: رواية “العمر لحظة”، من تأليف، الكاتب الكبير وزير الثقافة، يوسف السباعي، الذي قتل غدرا في مطار العاصمة القبرصية لارنكا، في فبراير، ثم أعقب ذلك عملية عسكرية قامت بها عناصر من قوة المهمات الخاصة المصرية (المجموعة 777) لتحرير عدد من الرهائن قامت باختطافهم مجموعة صبري البنا المعروف باسم “أبو نضال” (شخصية سياسية فلسطينية، أسس ما عرف باسم فتح – المجلس الثوري أو منظمة أبو نضال)، أنتهت بطريقة مأساوية، فأولا لم يكن هناك تنسيق مسبق مع قوات الأمن القبرصية، ثم لم تستجب القوة للتحذيرات بعدم الاقتراب من الطائرة المخطوفة، وثانيا، سرعان ما تبادل الطرفان اطلاق النار، وهو ما نتج عنه مقتل 15 من رجال الصاعقة المصريين وجرح ما يزيد على ثمانين من الطرفين. وتمّ القبض على باقي عناصر القوة الذين رفضوا تسليم أنفسهم حتى تمّ التفاوض مع القاهرة لإصدار أمر بالانسحاب بعد مهمّة دبلوماسية. وقد انتهت المفاوضات مع الحكومة القبرصية بالإفراج عن القوة المصرية وعودتها لأرض الوطن بكامل سلاحها. وتمّ تكريم أفرادها في مجلس الشعب. وجرى قطع العلاقات الدبلوماسية بين قبرص والقاهرة لعدّة سنوات. وانتهت الأزمة بين البلدين بعد اغتيال الرئيس أنور السادات العام 1981، حيث طلب الرئيس القبرصي إعادة العلاقات مع تقديم اعتذار رسمي، مشدّدًا على أنه لم يكن ممكنًا إعطاء الإذن للمصريين للهجوم على الطائرة.

هل يمكن أن تتوفر دعاية لفيلم أعظم من هذا، مؤلف النص الأدبي المأخوذ عنه قصة وسيناريو وحوار الفيلم كاتب كبير ووزير شهيد، وحدث على مستوى وطني يواكبه، لكن الخريف، حمل أنواء معاكسة لآمال ماجدة، فبينما تستعد لعرض الفيلم مع كل هذه الدعايا داخل مصر، وتوزيعه في البلاد العربية، التي يُعتمد عليه كثيرا في تعظيم الإيرادات. كان الرئيس أنور السادات يطير إلى الولايات المتحدة، وحدثت الواقعة، عرض الفيلم يوم 3 سبتمبر، ووقع السادات اتفاقية كامب ديفيد في 17 منه، وفعّلت الدول العربية قرارها بمقاطعة مصر، وأوقفت عرض الفيلم.

إذا عدنا للملصق الدعائي، سنقف على أولى مظاهر الرومانسية والرمزية، الفجة، والمهجورة، حيث يحلق اسم السباعي فوق الغمام، بينما ترنو إليه ماجده وتلوح بمنديل أصفر، بينما يقبع المقاتلون تحت قدميها يتطلعون إليها.

أثناء تصوير الفيلم كثرت المشاكل، وتعطل التصوير مرات عدة، وفي مارس 2020 نُشر موضوع صحفي عنوانه “سر توبيخ ماجدة الصباحي لأحمد زكي في سيناء”، وفي متنه نقرأ: ” كان أحمد زكي يعمل في نفس وقت تصوير الفيلم بمسرحية “العيال كبرت” وكان يقدمها على المسرح في القاهرة بينما يجري تصوير ‏‏”العمر لحظة” بين سيناء والسويس، وتأخر زكي على التصوير ذات مرة الأمر الذي دفع ماجدة لتوبيخه قائلة: “إزاي الجيش الثالث ‏الميداني يقف يستناك” مستنكرة تعطل التصوير”.

لا يهم المشاهد التوبيخ وأسبابه، أو الكشف عن هذا بينما زكي وماجدة قد فارقانا، يهم المشاهد أن يركز في هذا المقطع، ربما طرح بنفسه السؤال الذي يرد، تلقائيا.

 

هل هذه هيئة مقاتل، جندي، وهل هذا شعر يليق بالأبطال، والشهداء؟

**************

هذان مشهدان من فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي، ربما ينتجان سؤالين.

https://www.facebook.com/watch/?v=247240696354302

 

موضوع شعر الرأس يبدو فاضحا من المشهد الذي يخاطب فيه الضابط مروان (حسين فهمي) جنوده، فهو والجنود “النجوم”، الواقفون في الصف الأول، واضح أنهم، جميعا، مختلفوا شعر الرأس عن “الكومبارس” (غالبا هم جنود بالفعل)، الواقفون في الصفوف الخلفية، فهل لهذا من سبب، وهل هو أمر لا أهمية له، أو دلالة؟

قدم محمود ياسين (بطل تماس حرب أكتوبر) في عام 1974 اثني عشر فيلما، فلربما عطل قص شعره ليناسب هيئة المحارب المنضبط، أحدها، حسين فهمي قدم النصف، ستة فقط، ولكنه لم يكن ليضحي بدوره في “الأخوة الأعداء” في سبيل “الرصاصة….”

السؤال الثاني: هل من المنطقي أن يبدأ قائد تلقينه القتالي لجنوده، بالقول: “القيادة بتقول…وأنا بأقول”، يعني أي حرب هذه التي كل واحد يقول اللي هو عاجبه؟

*************

ليست الأفلام الخمسة هي فقط التي تعاند أي مفهوم معقول عن الحرب والفن والتاريخ حين تقرن بحرب 6 أكتوبر والتعبير الفني والجمالي والبصري عنها، بل في الواقع أن المصريين حجبت عنهم الحرب ووقائعها ونتائجها وسياقاتها، وهذا يحتاج تفصيل أوسع، يكفي هنا إعادة التدقيق في الصورة المنشورة في الجزء السابق، ومن المستحسن أن ندقق فيها معا، هنا.

في اليوم الذي غادر جسم البطل عبد الرحمن القاضي عالمنا في 24 مايو 2019، أعاد الكثير من الصحف والمواقع الخبرية نشر الصورة، وذكر بضع معلومات عن دوره ومشاركته في الحرب: فهو كان ضمن قوة كتيبة الدبابات 212 التابعة لفرقة المشاة 18 التي كانت في نسق العبور الأول ضمن الجيش الثاني الميداني، اليوم أعود إلى صاحب أشهر صورة عن حرب أكتوبر “الصورة الأيقونة”، وأقرأ ما نشر على لسان البطل في حساب “المجموعة 39 قتال”، على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، في 23 أغسطس 2016، وأفكر، فيما نقل عنه: “عبرنا فى اليوم التالى لبداية الحرب “صباح 7 أكتوبر” حين عبرنا كان موجود على الضفة الشرقية مراسلين حربيين يرتدون زيا مدنى ومعهم كاميرات، لقد تعجبنا من وجودهم قبلنا وكيف عبروا فى أتون الحرب المشتعل، ولقد التقطوا العديد من الصور لنا فور عبورنا ورصدوا مشاهد فرحتنا بالعبور وتحمسنا لما هو آت من قتال”.

ثم أنظر للصورة، وأعيد القراءة، وأفكر، ونبت السؤال: هل هذا معقول، أين الأبطال، أين الدبابات، أين العبور، أين الحرب، أين…، أم أن هناك شيء أعجز عن إداركه؟.

يبقى معنا مقطع مصور نختم به، وفيه ما يكفي عن الرومانسية والرمزية، وقد يكون لنا عودة، إذا ما كان هناك من يكترث.