ربما يكون من الأفضل تقييم اليوم السابق بعد غروب الشمس. وطبقا لكلمات هيجل الخالدة في فلسفة الحق فإن “بومة مينيرفا لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يُرخي الليل سدوله”. وعلى عكس تقاليدنا الشرقية تمثل البومة الصغيرة في الأساطير اليونانية إلهة الحكمة العذراء أو مينيرفا في الأساطير الرومانية. وهكذا يُعد طائر البومة رمزا للحكمة وسعة الرؤية في العالم الغربي. وعليه تشمل دراسات ما بعد الاستعمار في القارة الأفريقية مثل هذا التقييم للعصر السابق الخاص بالتكالب الاستعماري الأوروبي على ثروات أفريقيا الطبيعية والبشرية.
أفريقيا: أصل التسمية والهوية
كما يقول أستاذنا الراحل على مزروعي فقد تم اختراع أفريقيا وتحديد هويتها ابتداء من التسمية ذاتها نتيجة تفاعلها مع الحضارات الأخرى. أرجع البعض اسم أفريقيا إلى أصول أمازيغية. وقد عزاه آخرون إلى أصول يونانية رومانية. أشار الرومان القدماء إلى أقاليمهم في تونس الحالية وشرق الجزائر باسم “إفريقيا”، ربما لأن الاسم جاء من كلمة لاتينية أو يونانية تصف تلك المنطقة أو شعبها، أو ربما لأنها جاءت من إحدى اللغات المحلية من تلك المنطقة – إما البربرية أو الفينيقية. هل دعا الرومان القارة بكلمة “أبريكا”، التي تعني “الجو المشمس”؟ أم أن الرومان واليونانيين استخدموا الكلمة اليونانية “أفريكي”، التي تعني “بلا برد” ؟ أم أن الاسم مأخوذ من الفينيقيين في إشارة إلى الانتاج الفلاحي فيما يعرف اليوم بتونس؟ وقد قام المهاجرون العرب بعد ذلك بتعريب الاسم إلى إفريقية.
وعلى أي حال إذا كان اسم أفريقيا يرجع إلى جذور أمازيغية، فهو يؤكد معنى الأصالة الحضارية، لأن البربر هم من السكان الأصليين للقارة. أما إذا كان اسمها مشتقا من المعجم اليوناني الروماني، فهو في هذه الحالة جزء من حوار تاريخي بين القارة وجيرانها الأوروبيين. وفي نهاية المطاف إذا كان الاسم مأخوذًا من الساميين، الفينيقيين والعرب، فإن الاسم – والحالة هذه – يكون نتاج تفاعل أكثر تعقيدًا بين شعوب القارة وثقافات الشعوب السامية. ولعل إحدى مفارقات التاريخ تتمثل في أن اتصال إفريقيا بالعالم العربي ترتب عليه جعل سواد اللون في إفريقيا لا يتعدى منزلة الوصف، حيث لا يعني بالضرورة النيل من المكانة أو الازدراء. إن مصطلح “السودان” لا يحمل في طياته أي معنى بالتحقير أو الدونية. ولهذا السبب لا تزال دولتان في أفريقيا تحملان اسم “السودان”. وبالعكس تماما في اللغات الأوروبية الحديثة، لا يمكن للمرء أن يتخيل بلدًا أفريقيًا يُطلق على نفسه اليوم “الأرض السوداء ” كاسم دولة حديثة. حاولت أوروبا إقناع السود بأنهم أقل شأناً. ليس مستغربا أن تنشر صحيفة الإندبندنت البريطانية في أكتوبر 2007 قصة على صدر صفحتها الأولى، تحت عنوان ضخم يقول أن “خبير” الحمض النووي، الدكتور جيمس واتسون، الحائز على جائزة نوبل عام 1962، قد ادعى أن ” الأفارقة أقل ذكاء من البيض”. في الواقع، أصبحت القضية مثيرة للجدل للغاية في بريطانيا، حيث خرجت كل أبواق العنصريين من مكامنها لتبرير ادعاءات الدكتور واتسون، على أساس أنهم يعتقدون أيضًا أن اختبارات الذكاء أثبتت أن السود أقل ذكاءً من البيض. وقد جُرد واتسون من ألقابه الفخرية بعد تكرار تعليقات حول العرق والذكاء في عام 2019 بعد أن بلغ من العمر أرذله.
تهدف مرتكزات القوة العالمية مثل الأيديولوجيات وكل مكونات المعرفة التي يتم تدريسها ابتداء من مرحلة رياض الأطفال ومرورا بالمدارس وانتهاء بالجامعات إلى إبقاء إفريقيا في نفس الظروف، بحيث تستمر عمليات التكالب الدولي على مواردها الغنية
مراحل اختراع أفريقيا
يرى المفكر الكونغولي الأشهر فالنتين موديمبي أن تاريخ التصور الخارجي لأفريقيا مر بعدة مراحل. اعتبرت المرحلة الأولى شمال إفريقيا امتدادًا لأوروبا، بينما اعتبرت بقية إفريقيا إمبراطورية تسودها البربرية والظلام. عندما كان صانعو الخرائط الأوروبيون في حيرة من أمرهم لتحديد البلدات أو المدن الأفريقية، فقد رسموا صورًا للأفيال أو الأسود” أو تركوها نقاطا صماء. أما المرحلة الثانية من التصور التاريخي لأفريقيا فقد كانت تتعلق بالتفاعل مع الشعوب السامية ومع اليونان الكلاسيكية وروما. في شمال أفريقيا شمل ذلك الفينيقيين والعبرانيين. أما في القرن الأفريقي فقد ضم الساميين السود مثل الأمهرة وشعوب التيغراي في إثيوبيا وإريتريا.
انتشرت المسيحية كديانة سامية عبر شمال إفريقيا منذ بداية القرن الأول من العصر المسيحي، كما امتدت إلى إثيوبيا في القرن الرابع. تضمنت المرحلة الثالثة من التصور التاريخي لأفريقيا ولادة الإسلام في شبه الجزيرة العربية وانتشاره في القارة الأفريقية. لقد كانت الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة عبر البحر الأحمر.
وقد أصبح دور الإسلام محوريا في التاريخ الأفريقي بعد ذلك كما تشهد بذلك خزائن تمبكتو الكلاسيكية، والتي تم الاعتراف بها على أنها انجاز حضاري أفريقي. ولعل ذلك هو ما دفع إدوارد بلايدن ، المعلم والسياسي الليبيري ،إلى التوكيد على أن دور الإسلام محوري في غرب إفريقيا. وقد زار مصر وفلسطين وسوريا ولبنان كما تعلم اللغة العربية، وأشرف على تعليم المسلمين في سيراليون بتكليف من الحكومة هناك. المرحلة التاريخية الرابعة من وضع تصور لأفريقيا هي الاعتراف بأن إفريقيا نتاج حوار بين ثلاث حضارات – الأفريقانية، والإسلام، والثقافة الغربية المسيحية. أطلق كوامي نكروما على هذه المرحلة اسم “الضمير”، بينما وصفها مزروعي بالميراث الثلاثي.
إعادة استعمار أفريقيا
بينما شرح والتر رودني باستفاضة كيف أسهمت اوروبا في تخلف أفريقيا أكد على مزروعي أن مساهمة إفريقيا في تطوير الغرب العالمي أمر لا جدال فيه. والسؤال الملح هو، لماذا لا تقوم إفريقيا بتطوير نفسها؟ يدين الغرب بتفوقه الحضاري على المستوى المعيشي والمعرفي إلى حد كبير لتجارة الرقيق، واستغلال ثروات أفريقيا ومواردها الطبيعية والبشرية خلال العهد الاستعماري. يعني ذلك أن الدول “المتقدمة” في أوروبا وأمريكا الشمالية لديها حافز كبير في إبقاء أفريقيا في نفس الظروف من التخلف المادي والمعرفي، وانعدام الحقوق والكرامة الانسانية. علينا أن نعترف بأن ثراء دول الشمال العالمي يتم تمويله من خلال إفقار دول الجنوب العالمي ومن بينها دول القارة الأفريقية. تهدف مرتكزات القوة العالمية مثل الأيديولوجيات وكل مكونات المعرفة التي يتم تدريسها ابتداء من مرحلة رياض الأطفال ومرورا بالمدارس وانتهاء بالجامعات إلى إبقاء إفريقيا في نفس الظروف، بحيث تستمر عمليات التكالب الدولي على مواردها الغنية. إحدى الطرق التي تم بها الحفاظ على النظام الرأسمالي العالمي هي إلقاء اللوم على الأفارقة أنفسهم باعتبارهم السبب الأصيل في تخلفهم الحضاري. هذا التكتيك فعال للغاية في إبقاء الأفارقة بعيدًا عن النظر إلى مشاكلهم الحقيقية ومحاولة حلها، وبدلاً من ذلك ينشغلون بلوم أنفسهم وكراهية الذات والاقتتال الداخلي. ألم تصبح أثيوبيا كالهرة تأكل أولادها وهي مهددة اليوم بالانقسام والتمزق وفقا لمصادر استخباراتية غربية. كما أن أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان، وهي نيجيريا مهددة هي أخرى بالتقسيم نتيجة عوامل متعددة أبرزها تمدد الجماعات الارهابية وعلى رأسها بوكو حرام. ولعل الصراعات الدائرة في دول أخرى مثل ليبيا والسودان بدولتيه وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والكونغو الديموقراطية وشمال موزمبيق تؤكد هذا المنحى التفكيكي لأفريقيا.
إن أفريقيا اليوم فقيرة ، وتفتقر إلى حقوق الإنسان ، ليس بسبب أخطاء الأفارقة ، ولكن بسبب الدور الذي قام به أربعة طوائف من الأوروبيين الذين مهدوا لمرحلة الاستعمار. لقد أرسى التجار والصيادون والمبشرون والمستكشفون الأوروبيون أساسًا متينًا للحداثة الأور- أمريكية والاستعمار بمراحله المختلفة. لا يزال هؤلاء التجار والصيادون والمبشرون والمستكشفون الذين أتوا إلى إفريقيا وأصبحوا جزءًا من المشروع الاستعماري يمارسون دورا فعالا في الحفاظ على العلاقة الاستعمارية غير المتكافئة مع إفريقيا حتى اليوم.
توجد حوافز قوية لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والصين ودول أخرى صاعدة تستفيد من ثروات وموارد أفريقيا لإبقاء القارة المغلوبة على أمرها في وضعها الحالي، بل وإبرازها وكأنها تستفيد من هذه البلدان المتقدمة من خلال المساعدات والاستثمار الأجنبي المباشر. ومع ذلك فإن العكس هو الصحيح. تزود إفريقيا العالم بالجزء الأكبر من موادها الخام مجانًا تقريبًا وبالتالي تمول نمط الحياة الفاخرة لأولئك الذين يعيشون في البلدان المتقدمة.
تصور كوامي نكروما زعيم غانا أن التحول الكامل للقارة يبدأ من بلده. أعلن أن “صوت الأفريقي الجديد في العالم” سوف يُسمع لأول مرة. لقد صاغ هو ومعلمه جورج بادمور أيديولوجية الوحدة الأفريقية التي أضحت تُعرف بعد عام 1960 باسم النكرومية
العودة إلى المستقبل
في عام 1906 وقف بيكسلي ايزاكا سيمي ، وهو من أوائل الأفارقة الذين تلقوا تعليمهم في الغرب، مخاطبا أعضاء الجمعية الملكية الأفريقية في لندن من أجل التوكيد على ضرورة إحياء أفريقيا على أسس جديدة . وتكتسب هذه الدعوة أهميتها في ذلك الوقت لأن القارة كانت ترزح تحت نير الاستعمار الأوروبي باستثناء أثيوبيا وليبيريا. وعندما تم رفع علم غانا المستقلة في سماء أكرا قبل 64 عامًا، كان العالم كله ينظر ويترقب. تصور كوامي نكروما زعيم غانا أن التحول الكامل للقارة يبدأ من بلده. أعلن أن “صوت الأفريقي الجديد في العالم” سوف يُسمع لأول مرة. لقد صاغ هو ومعلمه جورج بادمور أيديولوجية الوحدة الأفريقية التي أضحت تُعرف بعد عام 1960 باسم النكرومية . وقد دعت النكرومية إلى تحرير القارة من خلال الحركات القومية الجماهيرية دون الإشارة إلى الأعراق والقبائل والأديان، وإلى وحدة الدول المحررة حديثًا تحت علم واحد. كما دعت إلى تنمية القارة من خلال اقتصاد اشتراكي مخطط. وإذا كان لأفريقيا أن تفعل شيئًا مختلفًا اليوم مثل توحيد وتشكيل عملة واحدة، وبنك مركزي واحد، وأن يكون لها سياسة خارجية موحدة وفقا لتصور الرعيل الأول من قادة حركة الوحدة الأفريقية، فسوف تتغير معادلة القوة حتما على الصعيد العالمي وسوف تفقد دول الشمال المتقدم أسباب تفوقها.
ولعل ذلك هو ما يستلزم إخضاع إفريقيا وابقاءها مفككة الأوصال وربما تُعاد هندستها لنشهد ظهور عشرات من الكيانات المستقلة الجديدة. يتم الحفاظ على إخضاع أفريقيا من خلال طرق مختلفة مثل إنتاج ونشر المعارف الغربية وطرق المعرفة في أفريقيا. عندما يتم منح ألمع المفكرين في أفريقيا منحًا دراسية وزمالات للذهاب والدراسة في شمال الكرة الأرضية، فإن الأساس المنطقي هو أن يتعلموا طرقًا غربية في الغالب لإدارة أفريقيا والأفارقة حتى تظل القارةا مصدرًا للمواد الخام الرخيصة. لن تُحرم أفريقيا فقط من أذكى عقولها، ولكن أيضًا هذه العقول اللامعة ستعود وتعمل كأدوات لفرض الهيمنة الغربية، مما يؤدي إلى تضليل شعوبهم وفي هذه العملية إبقاء أفريقيا مستعبدة وفقيرة. نحن في حاجة إلى قراءة ما كتبه شينوا أتشيبي عام 1983 عن أن مشكلة نيجيريا الحديثة تكمن في أزمة القيادة، ولعل ذلك ينطبق على أفريقيا بشكل عام. وعليه يصبح الخيار الأمثل أمام الأفارقة للعودة للمستقبل والمنافسة في عالم الثورة الصناعية الرابعة هو الوحدة والتحدث بصوت واحد. يقول مواليمو جوليوس نيريري: “لقرون، تعرضنا للقمع والإذلال كأفارقة. لقد تم اصطيادنا واستعبادنا كأفارقة، وتم استعمارنا كأفارقة. أصبح إذلال الأفارقة تمجيدا للآخرين. لذلك شعرنا بأهمية الهوية الأفريقية. كنا نعلم أننا شعب واحد، وأن لدينا مصيرًا واحدًا بغض النظر عن الحدود المصطنعة التي اخترعها المستعمرون”. ذلك هو خيار المستقبل الذي لا مفر منه: الوحدة في عالم التكتلات الكبرى.