بينما تقاوم كثير من دول العالم آثار موجة الطقس السيء والظروف الجوية المتطرفة التي ضربت مناطق مختلفة في العالم. أعلنت تقارير صادرة عن البيت الأبيض ووزارة الدفاع ومجلس المخابرات الوطنية، أن تغير المناخ سيهدد الأمن والاستقرار في العالم، ولفترة طويلة. صدرت التقارير قبل أيام من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين للتغير المناخي (COP26) في جلاسجو باسكتلندا، والمقرر أن يشهد مفاوضات حاسمة حول خطط الدول وبرامجها لخفض الانبعاثات إلى النصف بحلول 2030 تنفيذا لاتفاقية باريس للمناخ. فهل تنجح قمة المناخ في الخروج باتفاق على خطط وجداول زمنية لخفض الانبعاثات؟ أم أننا مقبلون على فترة طويلة من عدم الإستقرار؟
خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، تم إنكار تغير المناخ، وتجوهلت كل التقارير والتقديرات التي حذرت من تداعياته، لأنها لم تكن تتوافق مع مصالح إدارته وموقفها المتشكك في تغير المناخ، وفي علم المناخ، وفي العلم عموما. أنكرت إدارة ترامب- أيضا- جائحة كوفيد-19 في بدايتها، قبل أن تعود لتعترف بها، لكن بعد أسابيع، وبعد موت الآلاف في الولايات المتحدة والعالم. بعد تولي جو بايدن لمهام منصبه، احتل تغير المناخ مكانة بارزة في استرتيجية الأمن القومي الأمريكية، عادت الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس، التي كانت الإدارة السابقة قد انسحبت منها. إدارة بايدن مضطرة لتحمل النتائج الوخيمة لسنوات من إنكار تغير المناخ، والتقاعس عن مواجهته.
صدرت التقارير الثلاثة قبل أيام، الأول صدر عن وزارة الدفاع، البنتاجون. ولأول مرة، تعلن البنتاجون عن قلقها العميق من أن يؤدي تغير المناخ إلى سقوط الحكومات وفشل الدولة في عدد من البلدان. يقول التقرير أن على وزارة الدفاع أن تضمن القضايا المتعلقة بالمناخ في المناورات الحربية، وأن تكون مستعدة للتدخل وتقديم المساعدات الإنسانية في أزمات المناخ، وأيضًا، العمل على “مواجهة الجهات الخبيثة التي تسعى إلى استغلال تغير المناخ لكسب النفوذ”.
وقال لويد أوستن، وزير الدفاع، في بيان رافق إعلان التقرير “إن تغير المناخ يهدد الأمن والاستقرار في العالم، وأنه سيعيد تشكيل خريطة الأمن و”يغير في المشهد الاستراتيجي خلال العقود القادمة”، وأضاف، أنه لمنع الحرب وحماية البلاد، يجب على وزراة الدفاع أن تفهم الطرق التي يؤثر بها تغير المناخ على الخطط والمهام والقدرات العسكرية.
ويحذر تقرير البنتاجون من أن تدهور مصايد الأسماك قد يؤدي إلى مزيد من الصراع حول الأمن الغذائي، كما يحذر من أن تغير أنماط هطول الأمطار الناتج عن تغير المناخ، قد يؤدي إلى زيادة التوترات حول مياه الأنهار العابرة للحدود، مثل نهر النيل ونهر ميكونج، كما يحذر-أيضا- من أنه حتى جهود مكافحة تغير المناخ، يمكن أن تؤدي إلى آثار سلبية غير مقصودة، ويضرب مثلا بالتنافس على المعادن والعناصر الأرضية النادرة اللازمة لتصميم وبناء الدوائر الكهربائية والإلكترونية وتوربينات الرياح والسيارات الكهربية.
في الماضي، كانت نظرة وزارة الدفاع لتغير المناخ تركز حصرا على الكوارث المناخية والظروف الجوية المتطرفة، وآثارها على الاستعدادات والمهام العسكرية، لم تكن تهتم برصد الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتغير المناخ، ولم تقدم من قبل أية تقديرات للتحولات الواسعة التي يمكن أن يسببها تغير المناخ، والتي يمكن أن تهدد الأمن والاستقرار في العالم. لذلك، أشاد محللون بدور هذه التقارير في فهم التداعيات الأمنية لتغير المناخ، وقال أحدهم لصحيفة “واشنطون بوست” إن تقرير وزراة الدفاع- على وجه الخصوص- يشير إلى تحول واضح في كيفية دمج المؤسسة العسكرية الأمريكية لقضايا المناخ في استراتيجيتها الأمنية.
التقرير الثاني صدر عن “مجلس الاستخبارات الوطنية” (National Intelligence Council ) ضمن سلسلة تقارير “توقعات الاستخبارات الوطنية” (National Intelligence Estimates) وهو بعنوان: “تغير المناخ والاستجابات الدولية تزيد تحديات الأمن القومي الأمريكي حتى 2040”.
هذا التقرير وثيقة هامة جدا، وذلك لسببين، الأول، أنها المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا التقرير عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، والثاني، لأنها تعبر عن وجهة النظر التي اتفق عليها 16 جهاز استخبارات في الولايات المتحدة. الأمر الذي يعني أن نأخذ التحذيرات الواردة في التقرير على محمل الجد، لأنها مبنية على أساس سنوات من التحليل الاستخباراتي ودراسات سابقة لمسئولي الأمن القومي، التي تشير بوضوح إلى أن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتغير المناخ، يمكن أن تدمر المجتمعات، وأن تطيح بالحكومات. بحسب العلماء يؤدي تغير المناخ إلى المزيد من الكوارث المناخية والظروف الجوية المتطرفة، بالإضافة إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي قد تترتب على هذه الكوارث.
يحدد التقرير إحدى عشرة دولة في الفئة الأولى من البلدان التي يتوقع أن تواجه مخاطر حادة وجسيمة بحلول العام 2030. ستة من هذه الدول في آسيا، ثلاث منها نووية، هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى افغانستان والعراق وميانمار. وأربعة دول في أمريكا الوسطى والكاريبي، هي نيكاراجوا وهاييتي وهندوراس وجواتيمالا. بالإضافة إلى كولومبيا في أمريكا اللاتينية
يتوقع التقرير أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية والأمن القومي الأمريكي، وأن تتصاعد التوترات الجيو-سياسية بين الدول في العقود القادمة. الأسباب تتعلق باختلاف الطرق والتقنيات التي ستتبعها كل دولة في التعامل مع تغير المناخ، والتنافس بين الدول في تطوير تقنيات جديدة لخفض الانبعاثات، وكذلك، التنافس الشديد للفوز بنصيب في صفقات التحول الكبير في ميزان الطاقة في العالم، من طاقة الفحم والنفط والغاز إلى الطاقة الجديدة والمتجددة، كما يعترف التقرير، بوجود خلافات حادة بين الدول حول المسؤلية المشتركة والمتباينة عن الانبعاثات، وحول من يجب أن يتصرف أولا.
معظم الدول ستواجه خيارات اقتصادية صعبة خلال العقود الثلاثة القادمة، يتوقع التقرير، لكنه يرجح أن تكون الآثار الفيزيائية الحادة والمباشرة أوضح وأقوى، خاصة في الدول التي تعاني من الكوارث والظروف المناخية المتطرفة، وفي المناطق المتأثرة بتغير المناخ والتي يعاد تشكيلها بالفعل، مثل منطقة القطب الشمالي. ستكون آثار التغير المناخي في الدول النامية والضعيفة مؤلمة، وستتعرض بعضها لمخاطر جسيمة، سواء بسبب الكوارث والظروف المتطرفة، أو بسبب ضعف الحكومات وعدم استعدادها للتعامل مع تداعيات تغير المناخ، أو بسببهما معا. ويتوقع التقرير، أن الدول المتضررة قد تلجأ إلى واشنطون لطلب المساعدة، الأمر الذي يزيد من الطلب على الموارد الاقتصادية و الدبلوماسية والإنسانية والعسكرية للولايات المتحدة.
ويحدد التقرير إحدى عشرة دولة في الفئة الأولى من البلدان التي يتوقع أن تواجه مخاطر حادة وجسيمة بحلول العام 2030. ستة من هذه الدول في آسيا، ثلاث منها نووية، هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى افغانستان والعراق وميانمار. وأربعة دول في أمريكا الوسطى والكاريبي، هي نيكاراجوا وهاييتي وهندوراس وجواتيمالا. بالإضافة إلى كولومبيا في أمريكا اللاتينية. الجدير بالذكر هنا، هو التذكير بأن إجمالي عدد السكان في هذه الدول الإحدى عشرة التي يتوقع لها أن تعاني أسوأ عواقب تغير المناخ، يزيد عن 1800 مليونا من البشر، يمثلون، تقريبا، ربع سكان الأرض.. ربع سكان الأرض تقريبا سيعانون قريبا وبشدة من آثار تغير المناخ.
يقول التقرير إن الصين هي أكبر مصدر منفرد للانبعاثات المسببة لتغير المناخ في العالم بحوالي 30% من الانبعاثات الكلية، وبالتالي، تؤثر الصين بدرجة كبيرة في مدى ارتفاع درجة حرارة الأرض، لكن هذا هو نصف الحقيقة فقط، فالولايات المتحدة الأمريكية تنافس الصين على مركز الصدارة في الانبعاثات. لكن الأهداف المتواضعة لخفض الانبعاثات في خطط الصين طويلة الأجل، تثير الشكوك فيما إذا كانت ستنجح في تحقيق أهدافها. الصين لم تعلن عن أية خطط تفصيلية لخفض الانبعاثات وتحقيق هدف الوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول عام 2060. وكان الرئيس الصيني قد تعهد في أبريل الماضي بالتخلص التدريجي من الاعتماد على الفحم، لكن التقرير يعترف بأنه سيكون من الصعب على الصين القيام بذلك، يقول التقرير، إنه على الرغم من دمج الصين (والهند أيضا) للمزيد من مصادر الطاقة الجديدة منخفضة الكربون، لكن عدة عوامل سوف تحد من قدرة البلدين على التخلص من الفحم.
التقرير الثالث صدر عن البيت الأبيض، ويتناول بالتفصيل موضوع الهجرة المرتبطة بتغيرات المناخ ومصادر تمويلها، ويقدم عرضا هاما ووافيا للطريقة التي يؤثر بها تغير المناخ على حركة البشر في جميع أنحاء العالم. ويستشهد تقرير البيت الأبيض بتقدير سابق، يقدر أنه بحلول منتصف القرن، فإن حوالي 143 مليون شخص في أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا، يمكن أن يضطروا للهجرة لأسباب تتعلق بالمناخ”.
يشير التقرير إلى أن الجفاف والظروف الجوية المتطرفة الأخرى، يمكن أن تشعل الصراعات وأن تؤدي إلى تهجير السكان، وأن دولًا، مثل الصين وروسيا، يمكن أن تستفيد من ذلك.
ويضيف التقرير أنه “في غياب استراتيجية قوية من الولايات المتحدة وأوروبا لمعالجة الهجرة المتعلقة بالمناخ، فإنه يمكن للصين وروسيا ودول أخرى، أن تعزز نفوذها في العالم عن طريق توفير الدعم المباشر للبلدان المتأثرة. ويدعو التقرير إلى توسيع برامج الهجرة واللاجئين المرتبطة بتغير المناخ، ويطالب صناع السياسة بتخصيص المزيد من الأموال للمناطق التي تستقبل تدفقات المهاجرين المرتبطة بالطقس السيء والجفاف والصراعات المتعلقة بالمناخ. ولقراءة تقرير البيت الأبيض كاملا يمكن زيارة الرابط التالي:
على الرغم من إشادة الكثيرين بالتقارير المذكورة، إلا أن، إيرين سيكورسكي، مديرة مركز المناخ والأمن، ومسئول استخباراتي كبير سابق، قالت لصحيفة واشنطون بوست” “إن هذه التقارير ربما تكون قد “تأخرت عن موعدها”. وانتقد رود شونوفر، مدير البيئة والموارد الطبيعية في مجلس الاستخبارات الوطني في إدارتي أوباما وترامب، التقرير، قائلا للصحيفة ذاتها “إن تقرير البنتاجون لم يوضح بدرجة كافية مدى جدية وفورية المخاطر المتعددة المرتبطة بالمناخ، ولا مدى قدرة البشرية على تحمل ضغوط المناخ والتكيف معها”.
التحول في نظرة الجيش والبيت الابيض والاستخبارات لتغير المناخ لم يحدث فجأة، وليس بعيدا عن التحول في نظرة الكثير من الجيوش والمؤسسات الأمنية والشركات في العالم، والتي أصبحت تضع تغير المناخ في صلب خططها للمستقبل. ففي عام 2014 حذرت استراتيجية الإستخبارات الوطنية من أن تغير المناخ قد يشعل حروبا جديدة على المياه والموارد الطبيعية، خصوصا الموارد النادرة. وفي يونيو 2017 أصدرت كلية الجيش الأمريكية دراسة عن المياه والأمن القومي الأمريكي، توقعت الدراسة زيادة حدة التنافس والصراع على موارد المياه في العالم، خصوصا في أحواض الأنهار المشتركة.
وفي وقت سابق من هذا العام، أعلن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، أن تغير المناخ محور رئيسي في الخطط الاستراتيجية لإصلاح الحلف. وفي الربيع الماضي، كشف الجيش البريطاني عن تقرير الاستدامة الذي أوصي بضرورة إصلاح شامل للمهام والخطط والعمليات العسكرية في ضوء تغير المناخ، ونصح بالاستعداد لمزيد من عمليات الانتشار المرتبطة بتغير المناخ خلال العقود المقبلة. ومؤخرا، أنشأت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، (CIA)، مركزا لمعالجة- ما تصفه بالتهديدات العابرة للحدود- بما في ذلك تغير المناخ.
أصبح تغير المناخ حقيقة واقعة، أقرب مما نظن، وأخطر مما كنا نعتقد، ربع سكان الأرض سيعانون- قريبا- وبشدة من تغير المناخ وتداعياته، وليس من المستبعد أن تستخدم الصين والولايات المتحدة تغير المناخ كوسيلة للمساومة والضغط في الحرب التجارية المفتوحة بينهما، لكن تقارير الجواسيس كانت دائما علامة من علامات الحرب عبر التاريخ، فهل نعتبر التقارير الأخيرة عن تغير المناخ وسيلة لكسب نقاط في الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة؟ أم أنها نذير حرب جديدة؟