ربما يكون أهم نتائج جولة الحوار الاستراتيجي المصري-الأمريكي التي انعقدت في واشنطن يومي 8 و9 نوفمبر أنها انعقدت من الأساس، رغم كل التقارير التي تواصل الإشارة إلى أن العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين منذ أربعين عاما ليست في أفضل أحوالها الآن، وذلك بسبب عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض مجددا وتبني الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أجندة مختلفة في التعامل مع مصر عن تلك التي تبناها الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب.

وأكد انعقاد تلك الجولة أن العلاقات بين البلدين عميقة ومتشعبة تشمل العديد من الملفات، ويحكمها بشكل أساسي اعتبارات إقليمية ترتبط برؤية واشنطن لمصالحها الاستراتيجية، حتى وإن برزت خلافات في وجهات النظر بشأن ملفات داخلية، كحقوق الإنسان، أو خارجية، كالموقف من التطورات التي تجري في السودان أو ليبيا أو فرص الانفتاح على النظام السوري.

فهذه هي أول جولة حوار تضم مسؤولين رفيعي المستوى من البلدين من كافة التخصصات، من الدفاع والأمن وحتى التعليم والتبادل الثقافي، منذ العام 2015، وهو تقليد سنه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ونظيره الراحل حسني مبارك في نهاية التسعينات للتأكيد على متانة العلاقات بين البلدين، والرغبة في توسيعها لتتجاوز إطار المساعدات العسكرية والاقتصادية السنوية التي تقدمها واشنطن للقاهرة منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في 1979. وتهدف جولات الحوار إلى بناء شراكة تتضمن استثمارات أمريكية كبيرة في مجالات عديدة كبديل للمساعدات الاقتصادية، والتي بدأت بالفعل تنخفض بشكل تدريجي من مليار دولار سنويا حتى بلغت نحو 200 مليون دولار فقط. تواصلت تلك الجولات بشكل منتظم وأصبحت بمثابة تقليد سنوي حتى العام 2009، عند وصول الرئيس الأمريكي الديمقراطي السابق باراك أوباما للبيت الأبيض خلفا لجورج دبليو بوش.

وقعت تغيرات كثيرة بالطبع في منطقة الشرق الأوسط برمتها في أعقاب ثورات الربيع العربي في العام 2011، وانحازت إدارة أوباما لثورات الشباب في تونس ومصر وليبيا وسوريا، كما اتخذت خيارا استراتيجيا بعدم ممانعة وصول التيار الإسلامي للحكم وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، أملا في أن يتم دفعهم نحو مواقف أكثر اعتدالا، وكذلك لاحتواء الجماعات الإرهابية الأكثر تشددا كالقاعدة، ولاحقا تنظيم الدولة الإسلامية. كانت استراتيجية أمريكية فاشلة، صدقت بسذاجة وعود الإخوان الناعمة التي قدمها عصام الحداد مستشار الشؤون الخارجية للرئيس السابق محمد مرسي إلى الرئيس أوباما شخصيا وكبار مستشاريه في البيت الأبيض. وسعت جماعة الإخوان المسلمين بكل قوة أن يقبل أوباما استقبال الرئيس السابق مرسي في البيت الأبيض كاعتراف رسمي دولي به كرئيس شرعي، وهو ما رفضه الرئيس الأمريكي السابق.

في النهاية، أدت أخطاء فادحة ارتكبتها قيادات الإخوان في تونس ومصر إلى إزاحتهم عن الحكم في البلدين في صيف 2013، ولكن عناد قيادات الإخوان وحساباتهم الخاطئة في مصر جعلت خروجهم من الحكم دمويا ومضطربا، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين نظام ما بعد 30 يونيو وإدارة أوباما حتى خروجه من البيت الأبيض. أوباما لم يلتق بالرئيس السيسي سوى مرة واحدة على هامش أول اجتماع يحضره الرئيس المصري للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد توليه منصبه في سبتمبر 2014، وتصافحا بشكل مقتضب على هامش إحدى القمم الدولية قبل خروج الرئيس الديمقراطي من منصبه، ليليه ترامب المثير للجدل والعواصف.

عاد الدفء فجأة إلى العلاقات المصرية-الأمريكية بعد وصول ترامب للبيت الأبيض في يناير 2017، بل ومنذ أن التقى السيسي وترامب للمرة الأولى في نيويورك في سبتمبر 2016 عندما كان ما يزال مرشحا عن الحزب الجمهوري في مواجهة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وقام الرئيس السيسي بزيارة البيت الأبيض في واشنطن وتعددت لقاءاته مع ترامب بشكل مباشر أو في اتصالات هاتفية. هذا المستوى المباشر من التواصل بين الرئيسين لم يجعل من الضروري عقد جولات للحوار الاستراتيجي لأن كل القرارات المهمة تتخذ على المستوى الرئاسي، وليس في لجان وزارية تعقد اجتماعات ثنائية وترفع تقارير لن يتم في الغالب تنفيذ ما ورد فيها. وقدم ترامب كذلك دعما قويا لموقف مصر من جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك في أزمة سد النهضة الإثيوبي. واستضافت واشنطن مفاوضات ضمت مصر والسودان وإثيوبيا، وخصص ترامب أحد وزرائه المقربين لترأس الاجتماعات. وفي ظل شعار “أمريكا أولا”، لم يكن ترامب يعير مطلقا قضايا حقوق الإنسان أية أهمية كأحد العوامل التي تحكم علاقات بلاده مع دول العالم. وعندما وقعت مظاهرات محدودة في مصر في سبتمبر 2019، وتم اعتقال المئات، علق ترامب أن المظاهرات والاضطرابات تحدث في كل مكان في العالم، وأنه يثق في قدرة الرئيس السيسي على التعامل مع الأوضاع في مصر.

ترامب
ترامب

في مطلع العام 2021، عاد بصحبة الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض الكثير من المستشارين الذين صاحبوا أوباما طوال سنوات حكمه الثمانية، وكانوا يتبنون موقفا سلبيا تجاه النظام المصري ويصفون ما جرى في 30 يونيو بالانقلاب. استغرق الأمر نحو خمسة أشهر كاملة حتى جرت أول مكالمة هاتفية بين بايدن والرئيس السيسي، وكان السياق هو دور مصر المحوري للتوصل لوقف كامل للحرب التي شنتها إسرائيل ضد تنظيم حماس في قطاع غزة وقتها، وشكر بايدن نظيره المصري على ذلك الدور، وتعهد الطرفان بمواصلة الحوار. لم يسافر الرئيس السيسي هذا العام لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ولم ينعقد أي لقاء مباشر حتى الآن بين الرئيسين. وكانت قد وردت تقارير عدة أن هناك احتمال لعقد لقاء بين بايدن والسيسي على هامش حضور الرئيسين لقمة المناخ في جلاسجو في اسكتلندا في 31 أكتوبر، ولكن هذا اللقاء لم ينعقد، وذلك على الرغم من أن مصر هي التي ستستضيف قمة المناخ المقبلة في 2022 وتأكيد إدارة بايدن أنها تمنح قضية المناخ أولوية كبيرة.

ولكن الرئيس بايدن، وفي أعقاب السنوات الأربع التي قضاها ترامب في منصبه ألحق خلالها اضطرابا كبيرا في كثير من علاقات أمريكا الخارجية بما في ذلك مع أقرب حلفائها، أعلن أنه سيجعل من قضية حقوق الإنسان محورا أساسيا في علاقة واشنطن مع دول العالم، بما في ذلك الحلفاء المقربين. وفي نفس الوقت الذي انعقدت فيه جولة الحوار الاستراتيجي المصري الأمريكي، كانت هناك جولات حوار استراتيجي مشابهة تنعقد بين أمريكا وكل من رومانيا وقطر. ورغم التقارب الأمريكي-القطري الكبير وامتنان واشنطن للدوحة بسبب دورها الحيوي في ترحيل الأمريكيين من أفغانستان في أعقاب الانسحاب الفوضوي من هناك أغسطس الماضي، فإن ذلك لم يمنع بلينكن من الإشارة في مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره القطري إلى مطالبة الدوحة بتحسين أوضاع العمال الأجانب لديها ومنحهم حق تغيير جهة العمل وعدم مصادرة جواز سفرهم. وفي أول جولة أفريقية يبدأها وزير الخارجية الأمريكي بلينكن يوم الاثنين وتشمل كينيا ونيجيريا والسنغال، ستكون قضية حقوق الإنسان من القضايا المطروحة في كل لقاءاته مع كبار المسؤولين في تلك البلاد، كما سيلتقي ممثلين للمجتمع المدني ونشطاء في مجال حقوق الإنسان في الدول الثلاث.

جو بايدن
جو بايدن

اللافت أن جولة الحوار الاستراتيجي المصرية الأمريكية السابقة في 2015، كما جولة الأسبوع الماضي بين وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في 8 و9 نوفمبر، انعقدت وسط تقارير عن تباعد في المواقف بين رئيسي مصر والولايات المتحدة، أساسا بسبب تمسك واشنطن بإثارة ملف حقوق الإنسان في مصر والدفع نحو اتخاذ خطوات عملية لتحسين سجل القاهرة في هذا المجال. كما أن إدارة بايدن قررت مؤخرا اقتطاع مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية لمصر المقدرة بمليار و300 مليون دولار وجعل تقديم ذلك المبلغ مشروطا بتحقيق إصلاحات محددة في ملف حقوق الإنسان في مصر تراقب تنفيذها وزارة الخارجية الأمريكية. تعاملت القاهرة مع قرار واشنطن بهدوء أعصاب ولم يحدث تصعيد في لهجة الخطاب بين البلدين، مع الوضع في الاعتبار أن ترامب بدوره اقتطع نحو 300 مليون دولار من المساعدة المقدمة لمصر للضغط من أجل تحقيق مطالب محددة تتعلق بإنهاء ملف قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الإنسان والتي تضمنت أمريكيين، وإصدار قانون جديد للجمعيات الأهلية، وتخفيض مستوى العلاقة مع كوريا الشمالية. وبعد التجاوب مع هذه المطالب الأمريكية الثلاثة، عادت واشنطن لتقديم المساعدة العسكرية كاملة لمصر.

وعقد الحوار الاستراتيجي المصري الأمريكي بينما يتواصل الجدل بشأن أوضاع حقوق الإنسان في مصر يؤكد أن هذه القضية ملف واحد في العلاقات الثنائية بين البلدين وسط ملفات عدة، وأن الاختلاف بشأنها لن يؤثر على مجمل العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.  وأشار البيان الختامي المشترك الصادر عن جلسات الحوار الاستراتيجي أن مصر “أثنت على دور الولايات المتحدة في التنمية الاقتصادية في مصر وتزويدها بمعدات دفاعية، والتعاون المشترك لتقوية قدرات مصر الدفاعية. وعبرت الولايات المتحدة عن تقديرها لدور مصر القيادي في التوسط للتوصل لحلول للصراعات الإقليمية، وتحديدا الدفع نحو السلام وإنهاء العنف في غزة.

وفيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، قال البيان المشترك “إن الولايات المتحدة كررت دعمها لأمن مصر المائي. ودعت الولايات المتحدة ومصر إلى استئناف المفاوضات للتوصل لاتفاق بشأن سد النهضة تحت رعاية رئيس الاتحاد الأفريقي، وفقا للبيان الرئاسي الصادر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 15 سبتمبر 2021 واتفاق إعلان المبادئ الصادر في 2015. وأكدت الولايات المتحدة ومصر على أهمية عقد الانتخابات في ليبيا في 24 ديسمبر، ودعما خطة العمل التي توصلت لها اللجنة العسكرية المشتركة الليبية لخروج كل القوات الأجنبية والمقاتلين والمرتزقة. كما ناقش النظراء الأمريكيين والمصريين الوضع في السودان وحل الصراعات الإقليمية والأزمات الإنسانية في سوريا ولبنان واليمن.”

سد النهضة
سد النهضة

ربما ما يثير حفيظة المسؤولين في مصر إصرار نظرائهم في إدارة بايدن الحديث علنا عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر والمطالبة بتحسينها، رغم التعاون القائم في كل الملفات الإقليمية الحيوية الأخرى التي أشار إليها البيان. وقال البيان الختامي المشترك إن الطرفين “عقدا حوارا بناءً بشأن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك الحقوق المدنية والسياسية وحرية التعبير ومحاربة العنصرية وتمكين المرأة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ورحبت الولايات المتحدة بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي تبنتها مصر، وخططها الوطنية لتنمية حقوق الإنسان في البلاد بالتعاون مع المجتمع المدني. واتفق الطرفان على مواصلة الحوار بشأن حقوق الإنسان”. وكان لافتا أن البيان المشترك لم يرحب بقرار الرئيس السيسي الأخير رفع حالة الطوارئ في مختلف أرجاء البلاد، وذلك لأن الخارجية الأمريكية أشارت إلى اعتماد البرلمان في نفس التوقيت إلى تعديلات في قانون الإرهاب منحت أجهزة الأمن سلطات واسعة تماثل أو تفوق ما كان منصوصا عليه في قانون الطوارئ.

مصدر أمريكي مطلع شارك في جزء من جلسات الحوار قال إن الحوار كان “روتينيا” أكثر منه “استراتيجيا”

ومقابل ضغوط الخارجية الأمريكية في ملف حقوق الإنسان، فإن وزارة الدفاع (البنتاجون) لها دور قوي أيضا في تحديد مسار العلاقات المصرية-الأمريكية في ضوء التعاون العسكري والأمني الممتد بين البلدين منذ عقود. وأشار البيان الختامي للحوار الاستراتيجي إلى أن “الولايات المتحدة ومصر أعادتا تأكيد التزامهما بالتعاون في مجال الدفاع المشترك لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية، بما في ذلك في مجال مكافحة الإرهاب وأمن الحدود البرية والبحرية. وللبناء على الاختتام الناجح للاجتماع الثاني والثلاثين للجنة التعاون العسكرية الأمريكية المصرية المشتركة، وتدريبات النجم الساطع متعددة الجنسيات للعام 2021، فلقد أعادت مصر تأكيد التزامها بالمشاركة النشطة في قوة القوات البحرية المشتركة. وأثنت الولايات المتحدة على أهمية البرنامج المصري الذي تم إقراره مؤخرا من خلال عقد بقيمة مليار دولار لإعادة تحديث طائرات مصر المروحية من طراز أباتشي، مما سيدعم استمرار المئات من الوظائف في الولايات المتحدة ويرفع درجة الاستعداد لمصر”.

مصدر أمريكي مطلع شارك في جزء من جلسات الحوار قال إن الحوار كان “روتينيا” أكثر منه “استراتيجيا.” وأضاف أن الجانب المصري أكد أن القاهرة ستمضي قدما في تحقيق إصلاحات في مجال حقوق الإنسان، ولكن وفقا لرؤيتها وتقديرها للواقع القائم في مصر، والتأكيد على شمولية هذه الحقوق لتشمل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم التركيز على الحقوق السياسية والمدنية فقط، كما يكرر دائما الرئيس السيسي. كما أشار المصدر الأمريكي إلى أن مسؤول مصري طالب نظراءه الأمريكيين بالالتفات لمشاكل أمريكا الداخلية وقضية العنصرية ضد السود والجدل الدائر بشأن قوانين الانتخابات في ولاية تكساس، بدلا من التركيز على أوضاع حقوق الإنسان في مصر.

في النهاية، ستواصل مصر مراقبة الأوضاع في واشنطن، مثل دول عدة تغيرت علاقاتها نسبيا مع الولايات المتحدة مع وصول بايدن للحكم، وهي تدرك أن الأوضاع الداخلية الأمريكية في ضوء العداء المتصاعد بين الديمقراطيين والجمهوريين وحالة انتخابات لا تنتهي بين كونجرس ورئاسة، وملفات دولية أخرى مثل المنافسة مع الصين أو روسيا أو الانشغال بصراعات عاجلة كما هو الحال الآن في إثيوبيا والسودان، قد لا تمنح إدارة بايدن الفرصة لممارسة الكثير من الضغوط على مصر فيما يتعلق بملف داخلي كحقوق الإنسان. وإذا كانت القاهرة قد تمكنت من التعامل مع إدارة أوباما بكل مواقفها السلبية تجاه ما حدث من تغيير في 30 يونيو 2013 على مدى أكثر من ثلاث سنوات، فإن تصور نفس السيناريو لا يمكن استبعاده مع إدارة بايدن. وفي نفس الوقت، ستبقى هناك أوجه شراكة متعددة بين مصر والولايات المتحدة أصبح لا يمكن التراجع عنها بشكل كامل، وستنعقد المزيد من جولات الحوار الاستراتيجي غالبا، حتى وإن لم يحدث ذلك بشكل منتظم.