يتزايد الضغط الدولي على قادة الانقلاب العسكري في السودان. بينما سجلت آخر محطات الاحتجاجات عددًا من القتلى وعشرات الجرحى، في استمرار للمقاومة الصلبة من قبل الحركات المدنية والتجمعات النقابية تجاه انتزاع الجيش غير المدروس للسلطة.

وقد دعا رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، الأحد، الجيش مجددًا إلى الانخراط في عملية سياسية، تؤدي إلى عودة النظام الدستوري، تماشيًا مع المرسوم الدستوري المتفق عليه في أغسطس 2019 واتفاقية جوبا للسلام. فيما أعلن عن إرسال مبعوث خاص إلى السودان في المستقبل القريب لتشجيع جميع الأطراف على التوصل بشكل عاجل إلى حل سياسي لهذه الأزمة التي تعانيها البلاد.

انقلاب السودان.. لم يُحضَّر جيدًا

في قراءة للوضع السوداني الراهن، كتب الباحث يزيد صايغ في مركز مالكوم كير-كارنيجي، أن الانقلاب العسكري في هذا البلد الأفريقي المهم لم يحضر له جيدًا. موضحًا كيف أن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وسواه من مدبري الانقلاب قد يكونون أكثر استعدادًا الآن للانخراط في مفاوضات على المستوى السياسي، على عكس ما حدث في 2019 حينما خلع الجيش عمر البشير، مدفوعًا بالثورة الشعبية ضده.

فضلاً عن سوء إدارتهم للنقاشات مع المبعوث الخاص الأميركي جيفري فيلتمان عشية الانقلاب، وخداعهم إياه بشأن نواياهم، لا شيء مما قاله قادة الجيش السوداني أو فعلوه منذ ذلك الحين، يُظهر أنهم توقّعوا مثل هذا الرد الدولي المندّد بالانقلاب، أو أنهم كانوا جاهزين لاستباق حدوثه والتخفيف من حدته. هذا بالإضافة إلى عدم توقعهم الرفض الشعبي القوي لتحركاتهم ضد خريطة التحول إلى الحكم المدني في البلاد.

تحرك عسكري يفتقد الشرعية الثورية

لم يدرك مدبرو الانقلاب في السودان أنه كان عليهم العمل مسبقًا على بناء تحالف مدني فعّال، يضفي على تحركاتهم شرعية. فقد اعتمدوا بصورة حصرية على شبكات المحسوبيات التابعة لهم. وعوّلوا على المناصرين السابقين للدكتاتور المخلوع عمر البشير، وعلى مجموعات مختلفة من الإسلاميين. فلم يستفيدوا من الحلفاء المحتملين في أوساط الأحزاب السياسية التي تعارض أساسًا حكومة حمدوك، أو جهات انفصلت مؤخرًا عن التحالف الحكومي الأساسي المعروف بقوى إعلان الحرية والتغيير.

يقارن صباغ -في قراءته- بين تحرك الجيش السوداني ونظيره في مصر في 2013. فيقول إن في مصر اتخذ الوضع مسارًا مختلفًا جدًا، مدعومًا بثورة شعبية في 2013 ضد حكم الإسلاميين الذي استمر لعام واحد. وقد عمل الجيش هناك عن كثب مع النشطاء المدنيين في القواعد الشعبية والأحزاب الحليفة لأشهر قبل أن يتمهد الطريق لتسلّم السلطة في ذروة التظاهرات الرافضة لحكم الإخوان. وشارك في هذه المظاهرات ملايين المصريين. كما كان الرئيس المؤقت ومجلس الوزراء الجديد، مؤلف بكامله من المدنيين.

أما القوات المسلحة السودانية وحلفاؤها في الأجهزة الأمنية والقوات شبه العسكرية فكانوا أقل تروّيًا. وجُل ما فعلته أنها نقلت مناصريها بالحافلات إلى العاصمة الخرطوم، قبل أسبوع من الانقلاب، للمطالبة بتدخل عسكري. وبدا حجمهم ضئيلاً مقارنةً بالأعداد الضخمة من المتظاهرين الداعمين للحكم المدني.

فلول البشير.. هكذا فشل انقلاب السودان معنويًا

وفق صباغ، فإن قادة الانقلاب في السودان يفتقرون بشكل واضح للكفاءة السياسية. وقد قدموا فرصة رائعة للمعسكر الديمقراطي بما أظهره كبار الجنرالات من انتماء لنظام البشير. والدليل على ذلك الخطوات الأولى التي أقدم عليها البرهان لدى تسلمه السلطة. علق الرجل العمل ببندٍ في وثيقة الإعلان الدستوري للفترة الانتقالية للعام 2019 ينصّ على إنشاء ما يُسمّى بلجنة نبيل أديب للتحقيق في قضية الفض العنيف للاعتصام المدني أمام مقر القيادة العامة للجيش في يونيو 2019.

هذا إجراء أظهر أن البرهان ونائبه في مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الملقّب بـ«حميدتي» يسعيان لحماية نفسيهما من الملاحقة القضائية بعد مغادرة منصبيهما في نهاية الفترة الانتقالية في العام 2024.

كيف الطريق إلى المدنية في السودان؟

تعترض عوائق مهمة عملية الانتقال الديمقراطي في السودان. وأهمّ هذه العوائق -وفق تقرير كارنيجي- الشقاق داخل المعسكر المؤيد للديمقراطية. بالإضافة إلى وجود أعداد هامة من المدنيين الداعمين للجيش. وقد استغلت فصائل عدة في القوات المسلحة السودانية هذين العاملين لشن 17 محاولة انقلابية منذ العام 1956، كان النجاح حليف 5 محاولات منها.

كذلك تسببت الانقسامات الفئوية الحادة في مختلف أنحاء البلاد بعرقلة كل المسارات الممكنة للتحرّك. وليس فقط المسار الرامي إلى إرساء حكم مدني. فالحروب الأهلية والنزاعات الداخلية المتعاقبة التي أسفرت، بحسب التقديرات، عن سقوط أكثر من مليونَي قتيل وأفضت إلى استقلال جنوب السودان في يوليو 2011، حدثت جميعها في ظل أنظمة مدعومة من العسكريين في الخرطوم. وهذا الواقع وحده ينبغي أن يشكّل حجّة دامغة لصالح إعادة ضبط العلاقات المدنية العسكرية.

ومع هذا، فإن رد الفعل الدولي تجاه الانقلاب في السودان. إلى جانب موقف الولايات المتحدة القوي، وحركة الشارع الرافضة لانتزاع السلطة بقوة السلاح، كلها عوامل قد تحيي بعض آمال إرغام البرهان على السماح بعودة الحكومة المدنية إلى السلطة. أو تشكيل حكومة «تكنوقراط» جديدة. وإن كان هذا النوع من التسويات لن يفضي سوى إلى عودة للوضع غير المستقر نفسه. في ظل التأجيل بانتظار أن تحين لحظة أخرى مؤاتية أكثر للاستيلاء مجدّدًا على السلطة.

في سبيل الوصول إلى الحكم مرة أخرى، يجب على المعسكر المدني معالجة خوف قادة الجيش من الملاحقات القضائية عن الجرائم المرتكبة في عهد البشير وخلال أيام الثورة الأولى. هذه ورقة تفاوض جيدة بتقديم الحماية للبرهان وحميدتي في مقابل انتزاع تنازلات كبرى في ما يتعلق بنقل الشركات التجارية المملوكة للمؤسسة العسكرية إلى سيطرة المدنيين، وبمصير قوات الدعم السريع، التشكيلة شبه العسكرية التي يقودها حميدتي ويمقل وجودها أزمة جادة في مسار الحل السياسي.

اقرأ أيضًا: كيف تتعامل واشنطن مع انقلاب أحرجها في السودان؟

أزمة في مسار الحل السياسي

تواجه قوات الدعم السريع -التي يقودها نائب رئيس المجلس السيادي الجديد حميدتي- اتهامات بارتكاب فظائع بحق المدنيين في دارفور عام 2015، وبالقتل الوحشي للمتظاهرين المدنيين في يونيو 2019. ولا سبيل لبقائها في مفاوضات ممكنة مقبلة تُمهد العودة للحكم المدني. إلا أنه أيضًا ستواجه محاولات تحييدها صعوبات كبيرة. ذلك نظرًا للقاعدة الشعبية القبلية القوية لحميدتي في دارفور، ووضع هذه القوات الدستوري كقوة «نظامية» انبثقت في عهد البشير عن ميليشيا الجنجويد التي حظيت برعاية الدولة، وأصبحت على قدم مساواة مع القوات المسلحة.

يطرح الباحث يزيد صباغ -في تقريره بكارنيجي- خطة طويلة للتعامل مع تهديد حميدتي (قوات الدعم). وذلك بعدة خطوات تشمل:

تحجيم الأنشطة التجارية

البدء أولاً بإعادة السلطة إلى الحكومة المدنية. ثم مطالبتها بإلغاء الأمر الذي أصدره حميدتي في يونيو 2021. وهو القرار القاضي بتعيين قوات الدعم السريع للمساهمة في قوة مشتركة لحفظ الأمن والنظام العام في الخرطوم. على الحكومة الانتقالية في المقابل أن تعزز من قدرات الشرطة وغيرها من الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية على إنفاذ القانون.

لقوات الدعم السريع في السودان أنشطة تجارية كما للجيش. وهي أنشطة تمارسها شركات تابعة تلاحقها الشبهات. لا سيما في مجالات استخراج الذهب والموارد الطبيعية الأخرى وتسويقها. بالإضافة إلى إنتاج الصادرات الأساسية مثل السمسم والصمغ العربي.

يجب إرغام حميدتي وضباطه على التخلي عن أنشطتهم التجارية المشبوهة. وذلك بالاختيار بين إما حصر قوات الدعم السريع بدورها كقوة عسكرية نظامية. أو تحويلها إلى مؤسسة تجارية فيصبح قادتها رجال أعمال.

الإخضاع لشروط الخدمة بالقوات المسلحة

على الصعيد الاستراتيجي، ينبغي البدء في إخضاع قوات الدعم السريع للسياسات والأنظمة المعيارية المتعلقة بالتنسيب، وتدريب الضباط والرواتب، ومعاشات التقاعد، وشروط الخدمة في القوات المسلحة. ويجب أيضًا مراجعة هيكلية الميزانية وإجراءات الإدارة المالية لتلك القوات، لتتماشى مع شروط وزارة الدفاع. ويُستحسن بدء هذه العملية بإلغاء الوضع المستقل الذي منحه الدستور في عهد البشير لقوات الدعم السريع، وإخضاعها لسلطة وزارة الدفاع. وقد تحظى هذه الخطوة برضى القوات المسلحة التي تعتبر قوات الدعم السريع غريمةً لها.

على المدى الطويل، تتوفّر خيارات أخرى لمستقبل قوات الدعم السريع. وعلى رأسها إدماجها في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى. وهذا هو الوعد الذي قطعته الحكومة الانتقالية على المقاتلين في صفوف مختلف الجماعات المتمردة التي وقّعت معها اتفاق جوبا لسلام السودان أكتوبر 2020، وهذا ما ستعرضه على الأرجح على عناصر الجماعات الأخرى التي تتفاوض معها منذ ذلك الحين.

إلا أن هذا الإدماج الشامل قد يتسبّب -وفق تقرير كارنيجي- بمشاكل تفوق الحلول التي يقدّمها. فيُرجَّح أن يؤدي إلى تضخم شديد في تعداد الجيش والأجهزة الأمنية وفي رواتبهم. وحينها لن تستطيع البلاد تحمّل هذه النفقات.

قد يفرض لحل هذه الأزمة، إدماج القوات شبه العسكرية والجماعات المتمردة ضمن هيكل حرس وطني أو إقليمي جديد ينتشر على مستوى البلاد ويُنشأ لهذه الغاية. وذلك على صورة الحرس الوطني الأميركي. وهو حل أيضًا له تكاليف سياسية ومالية محدّدة. لكن العلاقة الخاصة التي تجمع بين الإمارات وقوات الدعم السريع قد توفر نقطة انطلاق مهمة في الجهود المبذولة لإنجاح هذا المسعى.

ما تستطيع القوى الخارجية فعله

يقول تقرير كارنيجي، إن الجهات الدولية تحتل اليوم مكانة تمكنها من التأثير في مجرى الأحداث في السودان. ومن ثم إعادة المسار نحو التوافق بين المدنيين والعسكريين.

وفي سبيل تحقق هذا سيكون على الجهات الخارجية التشديد على ضرورة احترام الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية. وذلك بدءًا بنقل رئاسة مجلس السيادة الانتقالي إلى سلطة مدنية. وإعلان الاستعداد الواضح لدعم الخيار المدني في حال قرّر العسكر المماطلة. وذلك من خلال تقديم أي من التواريخ السابق تحديدها. يجب إقناع القوات المسلحة بأن قبولها بهذه العملية هو الخيار الأقل كلفة من سائر البدائل المتاحة.

ثانيًا، يمكن للدول الأجنبية أن تساعد على تهدئة الأزمة السياسية بطرق تستنزف التأييد الذي يحظى به التدخل العسكري. ويكون ذلك بالمبادرة بتعزيز الدعم الاقتصادي للسودان، وتخفيف عبء الديون، وتوفير المساعدات الاجتماعية الهادفة. وأن تتوازى هذه الخطوة مع المساعدة الفنية في تسريح أفراد الجماعات المتمردة أو إعادة دمجهم، لتخفيف التوترات ووضع حدٍّ للعناصر المخرّبة المحتملة.

كما يجب أن تسعى الفصائل المدنية إلى تحسين صورتها في أوساط الجماعات المتمردة التي تدعم الجيش حاليًا. وذلك باقتراح «عدد أكبر من بنود تقاسم السلطة والإدماج الفعّال للمجموعات الأثنية التي كانت مهمّشة في السابق»، وفقًا لما ورد في توصيات نيلز كريستيان بورمان ووزير المالية السابق في الحكومة الانتقالية إبراهيم البدوي.

يقول التقرير إن الموقف المؤيد للجيش الذي تمسّكت به بوضوح بعض الجماعات المتمردة قلّص رصيدها السياسي. لذا فإن الفرصة سانحة للتفاوض معها بشأن إدخال بعض التعديلات إلى اتفاق جوبا لسلام السودان. بما يصعب على الحرس القديم في القوات المسلحة إيجاد مبرّرات لعرقلة الانتقال إلى الحكم المدني.

على المعسكر الديمقراطي الدولي الضغط بقوة للحصول على دعم دول الجوار المترددة. إذ يؤثّر ذلك الاستعداد الغربي لاتخاذ الإجراءات اللازمة في تصورات هذه الدول. كذلك يجب إقناع مصر والإمارات والسعودية بأنه لا يمكن تحقيق مصالحها الكبرى بتدخل عسكري جديد في السودان. وحتى إذا اكتفت هذه الدول بإبداء حياد نسبي، فهذا كفيلٌ بإقناع الجيش السوداني وقوات الدعم بضرورة تعديل مواقفهما.