مرت عشر سنوات على «الربيع العربي» حين اجتاحت الاحتجاجات دول شمال أفريقيا، محدثة الكثير من التغييرات التي لم تكن دائمًا في الاتجاه المرغوب. شرعت تونس في انتقال هش للسلطة نحو الديمقراطية. كما سقطت ليبيا في حرب أهلية، تركت جراحًا مفتوحة عصية على الشفاء. انتجت الانتفاضات العربية كمية مدهشة من العودة إلى الخلف. حيث لم تختف المشاكل التي سببتها. بل ازدادت أحيانًا، واستمرت البطالة في الارتفاع، والفساد في الإدارة، والانقسامات الطائفية والتطرف.

أصدر المجلس الأطلسي للدراسات، وهو منظمة أهلية تبحث في تعزيز القيادة الأمريكية للعالم في مواجهة التحديات الدولية، دراسة بعنوان «مستقبل شمال أفريقيا بعد عشر سنوات من الربيع العربي». وقد تناول تصورًا للمنطقة بحلول عام 2030. وهل ستكون مشابهة لما هو عليه الأمر في 2021.

التحديات التي يواجهها شمال أفريقيا وانعكاسها أوروبيًا

تواجه المنطقة تحديات كبرى داخليًا وخارجيًا. فعلى صعيد المناخ سيكون استهلاك الوقود الأحفوري العالمي أقل مما هو عليه الآن. إذا ما نجحت دول الاتحاد الأوروبي أكبر مستورد للنفط من شمال أفريقيا في تطلعاتها لخفض الانبعاثات. المطلوب لتحقيق ذلك نسبة 55% بحلول عام 2030 مقارنة بعام 1990. ربما لا يشكل ذلك أزمة للدول الفقيرة نفطيًا، مثل المغرب وتونس. لكنه بالتأكيد قد يغذي عدم الاستقرار في الدول النفطية مثل ليبيا والجزائر.

تبحث الدراسة في التداعيات الخطيرة التي يشكلها عدم الاستقرار في شمال أفريقيا على الأمن الأوروبي والأمريكي. وتوجه الأنظار إلى استمرار تمدد «قوس عدم الاستقرار» بدءًا من منطقة الساحل الأفريقي، صعودًا في اتجاه شمال أفريقيا. وما يحمله من آثار عميقة على الدول الأوروبية التي عليها أن تكرس المزيد من الاهتمام لتدعيم الاستقرار في المنطقة.

لا يقتصر الأمر على التداعيات السياسية. بل يشمل أيضًا الاجتماعية والاقتصادية. ذلك مع تزايد أعداد مواطني شمال أفريقيا المتطلعين للتوجه شمالاً. فضلاً عن تزايد موجات الهجرة تجاه الشواطئ الأوروبية. حيث ارتفع العدد من 40 ألفًا سنويًا قبل عام 2020 إلى 110 ألفًا خلال العام الجاري.

التحديات الأمنية

يزداد غضب سكان شمال أفريقيا تجاه حكوماتهم. بينما تحتاج الأخيرة إلى اكتساب المصداقية من خلال إصلاحات طويلة الأمد لمعالجة عدم ثقة المواطنين. يتطلب الأمر «عقد اجتماعي» جديد، يلعب الأوروبيون فيه دورًا هامًا. وسيكون على الأوروبيين خلق توازن بين متطلبات الأمن الأوروبي وتطوير الشراكة والمنافع الاقتصادية. بدلاً من التوجه الحالي المستند إلى وجهة النظر العسكرية والأمنية فقط، والتي فشلت في مواجهة الإرهاب والهجرة والتهريب. لعدم معالجتها جذريًا الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظواهر.

يأتي أيضًا الصراع المغاربي على الصحراء الغربية، واعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب عليها، كأحد أسباب عدم الاستقرار. فقد سعت المغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل لاستخدامها في مواجهة الجزائر، التي تدعم المقاومة الصحراوية. وهو ما ردت عليه الجزائر برفض تجديد عقد تمرير الغاز إلى أوروبا من خلال الأراضي المغربية، والمنتهي في أكتوبر الماضي.

سعت المغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل لاستخدامها في مواجهة الجزائر التي تدعم المقاومة في الصحراء
سعت المغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل لاستخدامها في مواجهة الجزائر التي تدعم المقاومة في الصحراء

الخط يمتد من حقل حاسي في الجزائر عبر المغرب إلى إسبانيا، ليرتبط بشبكات الغاز الإسبانية والبرتغالية. ويمرر هذا الخط 80 ألف متر مكعب من الغاز يوميًا، مع 35 مليون دولار تتلقاها المغرب لحق المرور بأراضيها. بدلاً من ذلك ستقوم الجزائر الآن بشحن الغاز مباشرة من أراضيها عبر خط أنابيب يمر تحت البحر المتوسط.

يبدو في الأفق أيضًا أن التقارب الأمريكي الإسرائيلي من المغرب قد يدفع بالجزائر إلى إنهاء سياسة عدم الانحياز التي اتبعتها دائمًا. هي الآن أقرب إلى الانخراط في تحالفات مع روسيا والصين. ما يحول المنطقة إلى أرض للصراع بين القوى العظمى والإقليمية، كما هو الحال في ليبيا الآن.

حكومات شمال أفريقيا والتطلع إلى المستقبل

تميزت الحكومات في المنطقة عبر عقود بسوء الإدارة وغياب الشفافية، فضلاً عن هشاشة النظام القضائي وسيادة القانون. وتحتاج هذه الحكومات إلى تحسين مشاركة المواطنين مع تطبيق المزيد من معايير الحوكمة. ذلك للاستفادة من المخزون الغني من المواهب والأفكار والابتكار، التي أثبتت وجودها بكثرة، وظهرت بوضوح من خلال التصدي المرن لجائحة كورونا «كوفيد-19».

ويمكن لمنظمة «التعاون والتنمية» في الميدان الاقتصادي، وتضم دول المنطقة، أن تشكل قاطرة لجهود الاستفادة من الثروة البشرية والخبرات الموجودة بالفعل. كما بإمكانها تعزيز المشاركة المعرفية الفعالة لدعم جهود الإصلاح الشامل لنظم الحكم نحو التطلع لبناء المستقبل.

تغير المناخ وخريطة موارد الطاقة

سياسات التخلص من الكربون ستعيد تشكيل منطقة شمال أفريقيا في المستقبل. وهي واحدة من أكثر المناطق التي ستتأثر بعواقب تغير المناخ والاحتباس الحراري على كوكب الأرض.

بدأت مصر والمغرب في تطوير مشاريع هامة في مجال الطاقة الشمسية والرياح، باستخدام «دبلوماسية المناخ» لحيازة مكانة وشرعية دولية، وجذب المزيد من الاستثمارات في الوقت ذاته.

هناك دول أخرى لم تحقق نفس التقدم. ومنها الجزائر التي توقفت عن مشروعها الطموح لإنتاج 4000 ميجاوات من الطاقة المتجددة بحلول 2030. بينما لم تشهد ليبيا أي تطور في هذا المجال، وتوقفت نسبة الطاقة المتجددة بها عند 6% كما كانت قبل 2010.

لكن يظل الاحتياج ملح للمزيد من التحول نحو استراتيجيات الطاقة الخضراء، بالتعاون مع الفاعلين الدوليين في هذا المجال. إذ ما يزال الاعتماد على الوقود الأحفوري مرتفعًا ويتراوح بين 45% إلى 85% حسب كل دولة. كما أن دور مصادر الطاقة المتجددة محدود مقارنة بالقدرات الكامنة في تلك البلدان.

مع ذلك، هناك أسباب تدفع إلى التفاؤل. ومنها العمل الجاري من أجل ربط شبكات الكهرباء بين شمال أفريقيا وأوروبا ودول جنوب الصحراء. فضلاً عن إمكانية استخدام أنابيب ضخ الغاز القائمة حاليًا في تصدير الهيدروجين الأخضر من دول المنطقة نحو أوروبا. وهو ما يفتح آفاقًا لنمو اقتصادي مستدام، سيكون عاملاً هامًا في التجول السياسي والاستقرار في شمال أفريقيا.

مستقبل المدن في شمال أفريقيا

يشارك كثير من الفاعلين الدوليين في إعادة تشكيل المدن في شمال أفريقيا. بدءًا من الاتحاد الأوروبي إلى الصين مرورًا بالولايات المتحدة. بغرض تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة 2030، واتفاقية باريس للمناخ، الهادفة لتحسين نوعية الحياة.

ما تزال مدن الشمال الأفريقية بعيدة عن المتوسط العالمي للتحضر، وبلغ نحو 56% عام 2019. كما أن هناك الكثير من المشروعات تسير في عكس الاتجاه. من بينها المشروع العملاق لمبادرة الحزام والطريق، الذي يعزز من التأثيرات السلبية للتنمية الحضرية وتضخم المدن.

ويمكن للمدن أن تتبع نهجًا أكثر أصالة عبر إعادة تقييم هويتها وتراثها العمراني. إلى جانب التعلم من تقاليدها الحضارية. بدلاً من اتباع النموذج الغربي غير الملائم، للحفاظ على الموارد والتكيف البيئي، وخلق فرص عمل بدخل عادل وتوفير الأمن والحماية الاجتماعية.

مصر والمغرب فقط نجحتا نسبيًا في السيطرة على معدلات البطالة التي تظل أيضًا مرتفعة
مصر والمغرب فقط نجحتا نسبيًا في السيطرة على معدلات البطالة التي تظل أيضًا مرتفعة

الشباب ثروة ديموغرافية لم تستغل بفاعلية

شهدت دول شمال أفريقيا تضخمًا ديموغرافيًا في الثروة السكانية من الشباب. وهو ما يشكل فرصة تاريخية لتحقيق نمو اقتصادي متسارع. لكن غياب الفضاء الاجتماعي والسياسي وعدم خلق الفرص الاقتصادية الكافية يهدد بضياع تلك الفرصة. وقد دفع هذه الفئة العمرية نحو الهجرة إلى الخارج وفقدان تلك الثروة للأبد.

مصر والمغرب فقط نجحتا نسبيًا في السيطرة على معدلات البطالة التي تظل أيضًا مرتفعة. في مقابل تونس التي ما تزال نسب البطالة فيها عند معدل ما قبل الانتفاضة في 2011. وتشهد ليبيا مستويات غير مسبوقة وكارثية من البطالة، بنسبة 49%.ما هو ناتج عن الصراع الدائر في البلاد.

لكن لحسن الحظ ما تزال الفرصة قائمة، حيث من المتوقع أن تشهد الفترة من 2025 وإلى 2040 تضخمًا آخر في أعداد الشباب. وإن كان أصغر من السابق، يحتاج عمل حكومي على خلق فرص للاستثمار والاستفادة من العائد المتوقع للتنمية، بدلاً من تغذية التوترات الاجتماعية.

تخلق «تكنولوجيا الأتمتة» والرقمنة عالمًا جديدًا كل يوم، وتبشر بآفاق اقتصادية كبيرة للدول التي تجيد الاستفادة من ثروتها البشرية من جيل التكنولوجيا الشاب. لكن الأمر يحتاج أيضًا إلى تعزيز المشاركة السياسية. فضلاً عن تعزيز دور القطاع الخاص وخلق فرص العمل، وتطوير مناهج التعليم لتزويد الشباب بالمهارات التي يحتاج إليها العالم في ثورته الرقمية المستمرة.

التعاون الإقليمي والتأثير الخارجي

خضع الشمال الأفريقي للتدخل الأجنبي منذ القرن التاسع عشر. واستمر اللاعبون الدوليون ومنهم إنجلترا وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة في ممارسة دور مؤثر. وتطور الأمر بعد انتفاضات «الربيع العربي» ليشمل المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر، بالإضافة إلى قطر، في السعي للعب دور، وتوجيه «الاستقرار» بما يخدم تصورات كل منها لمستقبل المنطقة.

يشكل النفط والغاز أحد أسباب الاهتمام الدولي بمنطقة شمال أفريقيا. حيث تسعى الدول وراء موارد الطاقة. وكذلك العناصر المعدنية النادرة والثمينة والهامة لعصر الثورة الرقمية والتكنولوجيا. وهو ما يجذب الصين أيضًا للبحث عن دور في منطقة ظلت طويلاً بعيدة عن الهيمنة والنفوذ الصيني.

وما يزال التعاون بين دول المنطقة في أدنى مستوياته. حيث تتشارك دول الشمال الأفريقي في نسبة 4% فقط من تجارتها.

التطلع للمستقبل وصورة شمال أفريقيا 2030

وقف العالم في رهبة يتطلع للانتفاضات العربية منذ عشر سنوات، مرحبًا بتطلع شعوب المنطقة للانتقال إلى الديمقراطية بعد قرون من نظم الحكم الاستبدادية، ومبشرًا بعصر جديد من الازدهار الاقتصادي والتحول الاجتماعي والسياسي مستقبلاً.

لكن وبعد عقد من الزمن زاد عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية، والتهديدات الأمنية للمنطقة، وتزايدت موجات الهجرة غير الشرعية. ذلك بالتزامن مع استمرار سوء الإدارة ومجموعة السياسات التي تشكل تهديدًا للتنمية الاجتماعية والسياسية.

وتصاعدت موجة جديدة من الاحتجاجات في الجزائر، نجحت في إقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقه. وشهد المغرب حراكًا سياسيًا واحتجاجات في 2016، أسفرت عن الكثير من الإصلاحات الدستورية.

تمثل تونس فصلاً تعيسًا على الرغم من سبقها إلى ما يشبه الحكم الديمقراطي. لكن الرئيس الجديد قيس سعيد أعاد تشكيل صورة أخرى من الاستبداد بحل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء، تحت زعم محاربة الفساد في النخبة الحاكمة. ويستمر في الحكم بمراسيم رئاسية وبدون رقابة برلمانية.

تستمر الفوضى أيضًا في ليبيا التي تشهد عدم استقرار سياسي بعد حرب أهلية طويلة وتدخل من الناتو والأمم المتحدة. ولا تزال الشكوك تحيط بإمكانية إجراء الانتخابات المقرر لها ديسمبر 2021.

ولم تكن الثقة بالحكومات قوية دائمًا في دول الشمال الأفريقي. ويشير مؤشر «البارومتر العربي» إلى أن نسبة 25% فقط من المواطنين راضون عن حكوماتهم في عامي 2019 و2020. وتحذر الدراسة في الختام من أن الشمال الأفريقي يبدو متجهًا نحو المسار الأوروبي للديمقراطية، والذي شهد الكثير من الاضطرابات الاجتماعية وإراقة الدماء.