“وبعد فإنه لما طال أمد هذا البلاء المبين، وحلٌ فيه بالخلق أنواع العذاب المهين، ظنٌ كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن فيما مضي مثلها ولا مرٌ في زمن شبهها، وتجاوزوا الحدٌ فقالوا لا يمكن زوالها، ولا يكون أبداً عن الخلق انفصالها، وذلك أنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد واقفون، ومن روح الله آيسون. ومن تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرف من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا أنه كما مرٌ من الغلوات، وانقضي من السنوات المهلكات، إلا أن ذلك يحتاج إلى إيضاح وبيان ويقتضي إلى شرح وتبيان. فعزمت على ذكر الأسباب التي نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادي بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع، واختم القول بذكر ما يزيل هذا الداء ويرفع البلاء”.

تقي الدين أحمد بن علي المقريزي

إغاثة الأمة بكشف الغمة (تاريخ المجاعات في مصر 808 هـ)

منذ 635 سنة وخلال موجة الغلاء العظيم في مصر الذي سمي الشدة المستنصرية قدم العالم المصري تقي الدين المقريزي كتابه هذا الذي يعد أول دراسة اقتصادية في نظرية كمية النقود والأسواق وقبل أربعة عقود من كتاب إرفينغ فيشر الأمريكي. وحلل المقريزي وهو تلميذ ابن خلدون أسباب الغلاء وطرح روشتة للعلاج والخروج من دائرة الغلاء. ولنا أن نفخر بالعالم المصري الذي ولد في حارة برجوان بالقاهرة وكتب في التاريخ والفقه والاقتصاد وحلل أن الغلاء ليس قدر لا فكاك منه ولكن له أسباب ووسائل للعلاج. ثم نعبر لموجة الغلاء العالمي التي تضرب العالم الآن.

تتصاعد موجات التضخم والغلاء وارتفاع الأسعار لتلتهم الدخول الثابتة للعمال والموظفين وأصحاب المعاشات وتهوي بهم في أزمات اقتصادية مستمرة. وكانت الدولة تمنح العمال والموظفين زيادات سنوية في الأجور والمرتبات لمواجهة غلاء المعيشة. لكن مع صدور قوانين الخدمة المدنية والتأمينات والمعاشات والشروع في تعديل قانون العمل توقف منح إعانة غلاء المعيشة وأصبح لدينا معاملات متنوعة مع الغلاء تختلف باختلاف جهة العمل.

الموظفون الخاضعون لقانون الخدمة المدنية يحصلون على علاوة سنوية 7% من الأجر الوظيفي وهي علاوة لا علاقة لها بالغلاء وارتفاع الأسعار، وموظفو بعض الجهات الغير مخاطبين بقانون الخدمة المدنية مثل الأطباء والمعلمين وموظفي الجهاز المركزي للمحاسبات وغيرهم لا يحصلون على علاوة سنوية لمواجهة غلاء المعيشة والبعض يحصل على علاوة سنوية قيمتها ستة جنيهات شهرياً. أما عمال القطاع الخاص فيفترض منحهم علاوة سنوية 3% وهو ما يتهرب منه الكثير من أصحاب العمل. أما أصحاب المعاشات فقد قرر لهم القانون الجديد رقم 148 لسنة 2019 علاوة سنوية لا تزيد على 15%، بينما حدث بعد تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي وتعويم الجنيه المصري أن قفزت معدلات التضخم لتتجاوز 35% وتمتد من نهاية 2016 الي 2017 وإن كانت انخفضت بعض الشئ في 2018. لكن من المؤكد أن الغلاء يؤثر على كل المصريين بغض النظر عن قيمة علاواتهم السنوية. فإذا كان التضخم 25% معني ذلك ان أجور موظفي الحكومة الحقيقية تنخفض قيمتها 18% والقطاع الخاص 22% وأصحاب المعاشات 10% وهكذا. وتتوالى زيادات الأسعار بشكل دوري حتى ان وزارة التموين أحد الوزارات المسئولة عن الدعم والحماية الاجتماعية رفعت أسعار سلعة أساسية مثل زيت الطعام التمويني من 17 جنيه الي 21 جنيه في مايو 2021، ثم رفعته للمرة الثانية من 21 جنيه الي 25 جنيه وهي سلعة أساسية تدخل في الطعام الأساسي للطبقات الدنيا والمتوسطة.

غلاء المعيشة في التاريخ المصري

بدأت مصر منح العمال والموظفين إعانة غلاء معيشة مع الحرب العالمية وانتشار موجة الغلاء. تحاول الرأسمالية دائماً الانقضاض على المكتسبات العمالية في وقت الأزمات فعندما اشتدت الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات بحث إسماعيل صدقي مع معاونيه عدة مقترحات منها: خفض مرتبات الموظفين والمستخدمين، إلغاء العلاوة الدورية، وتم إصدار كادر 1931 ووقف العلاوات الدورية ثم تلي ذلك في عام 1932 منع التعيين في الوظائف الخالية وما أشبه الليلة بالبارحة. وإن كانت منظمة العمل الدولية قد قدمت عدد من الاتفاقيات لتحفظ الأجور من تآكل قيمتها الحقيقية أمام الغلاء ووضعت ضوابط للحفاظ على مستوي معيشة كاسبي الأجور.

لقد خاضت الطبقة العاملة المصرية نضالات كبيرة وإضرابات كثيرة من اجل تحسين الأجور ومواجهة الغلاء خلال الحرب العالمية حتى صدر الأمر العسكري رقم 358 لسنة 1942 بصرف إعانة غلاء المعيشة لعمال المحال الصناعية والتجارية وإقرار حد أدني للأجور لم يكن موجوداً حتى ذلك التاريخ. ثم تبع ذلك صدور الأمر العسكري رقم 99 لسنة 1950 بزيادة إعانة غلاء المعيشة. كل ذلك قبل ثورة 23 يوليه 1952.

عندما بدأ السادات طريق الانفتاح الاقتصادي وتفجرت موجة من الغلاء صدر القانون رقم 40 لسنة 1975 بشأن تقرير إعانة غلاء معيشة للعاملين بالقطاع الخاص وتصرف من أول مايو 1975 على النحو التالي 10% من الأجر للعامل الأعزاب و15% من الأجر للعامل المتزوج     و17.5% من الأجر للعامل الذي يعول ولدا أو أكثر.

منذ عام 1987 بدأ الرئيس مبارك منح العمال والموظفين إعانة غلاء معيشة سميت علاوة اجتماعية وكانت تصرف للحكومة والقطاعين العام والخاص وأصحاب المعاشات وتضم للأجر الأساسي كل خمس سنوات، وتتراوح قيمة العلاوة سنوياً بين 10% و20% وفي عام 2008 ومع تفجر موجة الكساد العالمي قرر نظام مبارك أن تكون العلاوة الاجتماعية بنسبة 30% من الأجور. وفي كلمته بمناسبة عيد العمال تحدث مبارك عن ضرورة الحفاظ على توسيع قاعدة العدالة الاجتماعية، وأوضح أن الاقتصاد العالمي يمر بأزمات جديدة “فالعالم تعرض ولا يزال لموجات تضخمية عاتية نتيجة الارتفاع المستمر في أسعار البترول والسلع” وأضاف ” لا مفر أمامنا من مواجهة هذا التحدي الجديد الوافد إلينا من الخارج فنحن لا نعيش بمعزل عن العالم ونستورد نصف احتياجاتنا من القمح والذرة و 90 في المائة من احتياجاتنا من زيت الطعام وتزداد وارداتنا من الخارج من السلع الغذائية لتلاحق متطلبات الزيادة السكانية والارتفاع في مستويات المعيشة”. ولذلك قرر رفع نسبة العلاوة الاجتماعية إلى 30% من الأجور والمعاشات نتيجة ارتفاع الأسعار العالمي ونتيجة اعتمادنا على الواردات من الخارج. الآن وبعد مرور 16 سنة علي خطاب مبارك الا تزال لدينا فجوة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات بل كان مبارك يتحدث عن استيراد نصف احتياجاتنا من القمح والذرة فقط فإلي أين وصلنا الآن؟

الآن وفي ظل الجمهورية الجديدة والعاصمة الجديدة أصبحنا نستورد 60% من احتياجاتنا من القمح و49% من احتياجاتنا من الذرة وبعد أن كان انتاجنا من الأرز يغطي 102.6% في عام 2015 انخفض الي 76.2% فقط بل ووصلت واردتنا من الفول الي 90% ومن العدس الي 99% واحتياجاتنا ومن اللحوم الحمراء إلى 55% ومن الأسماك 22%. أما زيوت الطعام فنستورد أكثر من 90% كل ذلك يرجع إلى إهمال الزراعة والصناعة والاعتماد على الاستيراد من الخارج وبالقروض التي تقيد إرادة المصريين لسنوات طويلة قادمة. وأصبح الوكلاء التجاريين هم المتحكمين بأسعار السلع المستوردة. (البيانات عن الفجوة الغذائية من الكتاب الاحصائي “مصر في أرقام 2020 صفحة 67” الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).

عجز ميزان المدفوعات

رغم ارتفاع قيمة الصادرات المصرية من 18.7 مليار دولار عام 2015/2016 إلى 26.4 مليار دولار في 2019/2020 لكن في نفس الفترة ارتفعت قيمة الواردات من 57.4 مليار دولار إلى 62.8 مليار دولار واستمر عجز الميزان التجاري. أما بیانات التجارة الخارجیة -المیزان التجاري طبقاً للتصنيف الاقتصادي للأمم المتحدة فقد ارتفعت قيمة العجز من 377.5 مليار جنيه في عام 2015/2016 إلى 654.5 مليار جنيه في 2019/2020 وارتفع العجز بنسبة 173% خلال الفترة من 2015 إلى 2020. (البيانات من النشرة الشهرية لوزارة المالية أغسطس 2021)

تشكل السلع الغذائية جزء هام من الواردات المصرية وهي مقسمة الي أربع أنواع:

  • عام 2015 كنا نستورد سلع غذائية أولية(للصناعة) قيمتها 29.2 مليار جنيه ووصلت في 2020 إلى 80.9 مليار جنيه.
  • السلع الغذائية الأولية (للاستهلاك) كنا نستورد بما قيمته 2.9 مليار جنيه أصبحنا نستورد 15.9 مليار جنيه.
  • السلع الغذائية المصنعة (للصناعة) كنا نستورد ب 16.2 مليار جنيه أصبحنا نستورد ب 24.7 مليار جنيه.
  • السلع الغذائية المصنعة (للاستهلاك) من 18.8 مليار جنيه إلى 32 مليار جنيه.

بذلك ارتفعت قيمة الواردات الغذائية من 67.1 مليار جنيه الي 153.5 مليار جنيه وأصبحت السلع الغذائية المستوردة تمثل 23.4% من إجمالي الواردات بعد ان كانت النسبة 18.7% عام 2015 فكل هذا التدهور حدث خلال سنوات المنجزات ومن واقع البيانات الحكومية المنشورة.

نماذج من الزيادات المتتالية في أسعار السلع والخدمات

تزيد أسعار السلع والخدمات العامة بقفزات كبيرة تشوي دخول كل العاملين بأجر وأصحاب المعاشات وإذا أردنا بعض الأمثلة نجد الآتي:

أسعار زيت التموين

عام 2014 كان سعر لتر الزيت 8 جنيهات و45 قرشا ووصل الآن الي 25 جنيه. أي أنه خلال سنوات المنجزات ارتفع سعر زيت التموين بنسبة 296% وهو سلعة أساسية للأسر الفقيرة والمتوسطة أما الشرائح العليا والطبقات الغنية فتشتري زيوت حرة وزيت زيتون الذي وصل سعره لأرقام تفوق خيال العمال والموظفين وأصحاب المعاشات. ومن عجائب مصر أنه خلال عام 2021 فقط ارتفع سعر زيت الطعام مرتين في مايو من 17 جنيه الي 21 جنيه ثم منذ أيام من 21 جنيه إلى 25 جنيه. أي أرتفع بنسبة 47% خلال عام واحد فقط. فهل ارتفعت الأجور والمعاشات لتغطي مثل هذه الزيادة؟ وهل يمكن أن تعيش الأسر المصرية حياة كريمة في ظل غلاء الأسعار الحالي؟!

العجيب أن وزير التموين يرجع ارتفاع الأسعار الي زيادة تكاليف الإنتاج رغم انه في تصريحات لجريدة المال يوم 30 أكتوبر 2021 يقول إن مصر تستورد 97% من احتياجات الزيوت الخام. إذا المشكلة الفعلية هي سياسات الزراعة والصناعة الفاشلة والتي يتحمل المواطن اعبائها المتزايدة. وأن شركات القطاع العام المنتجة للزيوت تم بيع اغلبها ولم يتبقى سوي ثلاث شركات، بل أن شركة القاهرة للزيوت والصابون التي تم بيعها تتجه الآن الي تصفية مصنع غمرة وبيعه كأرض مباني، هذه هي السياسات التي تقود لارتفاع أسعار الزيوت عدم زراعة المحاصيل الزيتية وبيع شركات القطاع العام المنتجة للزيوت وفتح باب الاستيراد من الخارج.

أسعار الغاز الطبيعي للمنازل

مؤكد ان التحول الي استخدام الغاز الطبيعي في المنازل نقلة نوعية مهمة ولكن الزيادات المتوالية في أسعار الغاز رغم انه منتج مصري بالكامل ولا يوجد أي دعم له منذ 2014 والزيادات تصب كأرباح للشركات المنتجة. ورغم ان توقعات المصريين بعد اكتشافات الغاز الطبيعي وحقل ظهر وغاز شرق المتوسط المفترض ان يشعر المواطن بذلك من خلال تخفيض أسعار الغاز الطبيعي ولكن حدث العكس.

عام 2014 كان سعر الغاز الطبيعي لأدني شرائح الاستهلاك 40 قرش للمتر المربع وارتفع عام 2016 إلى 75 قرش، وفي 2017 وصل الي جنيه للمتر المكعب، وفي 2018 تم رفع السعر إلى 175 قرش للمتر المكعب وفي 2021 ارتفع سعر المتر المكعب لأدني شرائح الاستهلاك إلى 250 قرش. وبذلك يكون سعر المتر المكعب من الغاز الطبيعي الغير مدعم وفي ظل الاكتشافات البترولية المتعددة ارتفع لأدني شرائح الاستهلاك ( أقل من 25 متر3 شهرياً) من 40 قرش الي 250 قرش بنسبة 625%. ونفس الوضع ينطبق على الكهرباء والمياه والمواصلات. هل ارتفعت الأجور والمعاشات بنفس النسبة؟! وهل حصل أصحاب الأجور علي إعانات لمواجهة هذا الغلاء؟!

لذلك فإن شماعة الأسعار العالمية تبرير غير مقبول لأن الموارد المصرية ترتفع أسعارها وليست السلع المستوردة فقط، والمنتجات غير المدعمة ترتفع أسعارها دون أي مراعاة للفقراء والأجراء وأصحاب المعاشات. ولا يمكن أن تستمر المعاناة على هذا الحال ولذلك نحتاج إلى معالجة حقيقية للمشكلة كما طرح المقريزي وليس مجرد مسكنات. لذلك نحتاج روشتة علاج مختلفة تعتمد علي:

  1. المزيد من الاهتمام بالإنتاج الزراعي والصناعي لتغطية احتياجات المصريين الضرورية والأساسية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية وتقليل الاستيراد والخضوع للأسواق الدولية والغرق في الديون.
  2. الإبقاء على الدعم العيني وعدم التحول للدعم النقدي الذي تتآكل قيمته مع التضخم وارتفاع الأسعار.
  3. ضرورة صرف إعانة غلاء معيشة لمواجهة الغلاء فهي ضرورة لاستمرار حياة الكادحين في مصر.

نحتاج لإجراءات جادة لمكافحة الغلاء الذي أصبح يفوق طاقة المصريين على التحمل ويرفع من معدلات الفقر، مواجهة الغلاء يحتاج لسياسات تنحاز للمصريين وتبتعد عن توصيات الصندوق والبنك.