في أحيان كثيرة أتساءل عما إذا كان المستقبل يعنينا، نحن المصريين. أو لنقل إن كان يعني الغالبية العظمى منا. وربما لا يكون اﻷمر أننا لا نفكر في المستقبل بقدر ما أننا لا نفكر فيه بالشكل الصحيح. هذا ادعاء به شبهة تعال بالطبع. فليس من حق أحد أن يقول إن اﻵخرين لا يفكرون في شيء ما بالشكل الصحيح. في الواقع ليس ثمة شكل صحيح للتفكير في أي شيء. مع ذلك سأطلب من القارئ أن يسمح لي باستخدامها مع أن يبقى في اعتباره أنني لا أعنيها حرفيا، ولكنها ضرورية وإلا فلن يكون ثمة داع لمواصلة كتابة هذا المقال على أية حال.

في مقالي اﻵخيرين كتبت عن أمرين يتعلق كل منهما بالمستقبل وتحدياته الرئيسية. حقيقة أنني أستشعر بوضوح أن غالبية الناس في هذا البلد غائبون اختيارا، أو مغيبون رغم أنفهم، عن العلم بأي من اﻷمرين، مع تفاوت قدر خطورتهما بالطبع، هو أحد أسباب اعتقادي أننا كمصريين لا نفكر في المستقبل بالشكل الصحيح. فكيف يمكننا أن نفكر بشكل صحيح فيما لا علم لنا به. صحيح بالطبع أن أحدا لا يمكنه ادعاء الاطلاع على الغيب، ولكن قدرا من المعرفة ببعض ملامح المستقبل لا يتطلب فتح المندل أو قراءة الفنجان. كثير من ملامح مستقبلنا القريب تتشكل بالفعل اليوم، ويمكن من خلالها أن نعرف بعضا مما يمكن للمستقبل أن يحمله لنا. وفي عالم مثالي لا يعني ذلك فقط أن نستعد للتعامل مع هذا المستقبل بل يعني أيضا أن نسعى إلى المشاركة في تشكيل ملامحه بشكل يتوافق أكثر مع ما نتطلع إليه.

ما كتبت عنه في مقالي السابقين (التطور التكنولوجي، وتغير المناخ) هما ظاهرتان عالميتان. ولكن آثارهما المباشرة ستمس كل واحد منا بشكل مباشر. وثمة بين ملامح المستقبل ما هو أقرب وأكثر خصوصية. وهو يتعلق بنا نحن أكثر مما يتعلق بغيرنا، وأعني بذلك مستقبل هذا البلد، ومستقبلنا معه. ولكن على خلاف الظواهر العالمية، فإن ما يمكننا معرفته عن ملامح مستقبل مصر محدود إلى حد أنه يكاد يكون معدوما. أعني أن الرؤية شديدة الضبابية رغم كل ما يمكن أن يدعيه البعض عن معرفته بمسار اﻷمور، وما يمكن أن تؤول إليه في معظم جوانب الحياة. هذه المفارقة تتعلق باﻷساس بغياب المعلومات. نحن في بلد لا يزال لا علم له بمفهوم حرية تداول المعلومات العامة. أي تلك التي ينبغي أن تكون متاحة للجميع. ﻷن كل شخص له مصلحة في المعرفة بها، أو على اﻷقل قد يكون له مصلحة في ذلك. وقبل أي شيء لكل مواطن الحق في الاطلاع عليها متى أراد. المعلومات العامة التي أعنيها إذن هي تلك التي تتعلق بالشأن العام. وهي معلومات مثل: ما هي الخطط الاستراتيجية القومية لتطوير الاقتصاد، للنهوض بالتعليم، لتحسين مستوى الخدمات الصحية، إلخ؟ أو ما هي الملامح العامة التي توجه مسار التشريعات؟

في دول أخرى تصل اﻷحزاب إلى الحكم وتشكل الحكومات بالحصول على اﻷغلبية البرلمانية. وهي تكتسب ثقة الناخبين أو تجتذبهم إلى التصويت لها بعرض برامج تشرح نواياها المستقبلية. هذا يعني أن المواطن أو الناخب يشارك بقدر ما في تشكيل مستقبل بلاده باختيار البرنامج المستقبلي لها واختصاص صاحب هذا البرنامج بثقته وصوته الذي يمكنه من الفوز بالانتخابات. وبالتالي الوصول إلى الحكم ووضع برنامجه موضع التنفيذ بالفعل. ليس اﻷمر كذلك في بلادنا، فلا أحد منا يعلم ما هو برنامج الأحزاب التي تشكل كتلة اﻷغلبية في البرلمان الحالي، ولا أحد يعلم إن كان ثمة برنامج لها من اﻷساس. وإن كان ثمة مثل هذا البرنامج وتم عرضه ﻷغراض انتخابية في وقت الانتخابات فجميعنا يعلم يقينا أنه ليس برنامجا الغرض منه تنفيذه، أو حاشا لله أن يكون الغرض منه الالتزام به أمام الناخب ومن ثم أن يكون باﻹمكان محاسبة اﻷغلبية البرلمانية على مقدار ما تحقق منه. في نهاية المطاف، لا تشكل أحزاب الأغلبية البرلمانية الحكومة، ولا تشارك في تشكيلها، وهي توافق بشكل صوري على هذا التشكيل وتعديلاته عندما تستدعي الضرورة الدستورية ذلك.

ولكن المعلومات التي يعني كل واحد منا أن يكون له حق الاطلاع عليها لا تتعلق فقط ببرامج اﻷحزاب، ومعظمها في كل مكان في العالم يتعلق بالأجهزة الحكومية المختلفة، الوزارات والمصالح والهيئات الحكومية التي تدير حياتنا اليومية، لديها قدر كبير من المعلومات التي تعني كل واحد منا. معلومات عن اللوائح والضوابط الحاكمة لتعاملاتها مع المواطنين، والتي تعنينا عند الحاجة إلى التعامل مع أي منها، معلومات عن تقارير اﻷداء الدوري لكل منها، معلومات عن مستجدات الواقع اليومي في حدود مجال اختصاص كل منها، فبعضها يمكن أن يقدم معلومات عن أداء الاقتصاد بأفرعه المختلفة، وبعضها يمكن أن يقدم معلومات عن تطور ظواهر اجتماعية مختلفة مثل معدلات الزواج والطلاق ومعدلات الجريمة بأشكالها المختلفة، إلخ. وأخيرا لدى كل منها معلومات تعنينا معرفتها عن خططها المستقبلية. هذه المعلومات وغيرها ينبغي أن تتيحها الجهات الحكومية بصفتها تعمل في خدمة الشعب، إما بشكل تلقائي ودوري من خلال تقارير تنشرها بحيث يسهل لمن يريد الاطلاع عليها، أو من خلال آليات لتوفيرها عند الطلب.

ما لا أظن أن كثيرين يعرفون به أن دستور عام 2012 قد ألزم بإصدار قانون لحرية تداول المعلومات يكون من أدواره إلزام الجهات الحكومية بنشر مثل هذه المعلومات أو إتاحتها عند الطلب وفق آليات محددة. كما أن هذا الدستور قد ألزم بإنشاء مفوضية مستقلة لحرية تداول المعلومات تكون مهمتها مراقبة التزام الجهات الحكومية بالقانون وتلقى شكاوى المواطنين في الأمور ذات الصلة، أي عندما تمتنع جهة حكومية عن إتاحة معلومات تقدم بطلب الاطلاع عليها، دون إبداء أسباب مقبولة قانونا. بالطبع لم يصدر القانون ولم تنشأ المفوضية، ولكن هل يهتم أحد بذلك؟ أعني يفترض أن هذا كان استحقاقًا دستوريًا، متضمنًا في الدستور الذي أقره المصريون بأغلبية أصواتهم في استفتاء عام، ومن ثم فنظريا على اﻷقل هم معنيون بتنفيذ مواده. نظريا. ولكن ما هو نظري عادة ما يكون بعيدا عما هو عملي وواقعي، وفي بلادنا المسافة عادة أوسع كثيرا مما هي عليه في بلدان أخرى. في الواقع المسافة عندنا واسعة إلى حد أن كثيرا من اﻷمور يعلم الجميع أنها مجرد حقائق نظرية، لا يتوقع أحد أن يكون لها أي أثر عملي. فنظريا لدينا دستور، ينظم شؤون الدولة، ولكن لا أحد يتوقع أن تتحول مواده إلى واقع عملي.

يعود بي هذا إلى السؤال الذي افتتحت به هذه السطور. هل يعنينا المستقبل؟ ربما يكون التطور التكنولوجي في عالم اﻹنترنت بعيد عن خيال أكثرنا، وربما لا يعني أي منا ما قد يؤدي إليه تغير المناخ العالمي، ولكن ألا يعنينا مآل اﻷمور في البلد الذي نعيش فيه؟ في الوطن الذي ننتمي إليه؟ في الدولة التي نحمل جنسيتها؟ ومع اﻷخذ في الاعتبار أن هذه اﻷمور تمس الحياة اليومية لكل واحد منا، ألا يعني عدم اهتمامنا بما تمضي إليه، أننا غير معنيين بمستقبلنا؟ ربما ما أرغب في قوله ليس بعيدا بأي حال عما كررت قوله في المقالين السابقين. في نهاية المطاف الاهتمام بالمستقبل يتعلق بالمعرفة. لا سبيل ﻷن تهتم بالمستقبل إن لم تكن معني بمعرفة شيء عن ملامحه، هذه المعرفة تأتي من الاطلاع على المعلومات المتاحة في الحاضر عن العمليات التي يتم من خلالها تشكيل المستقبل. فإن كنت تهتم بمستقبلك ومستقبل أولادك فسيعنيك أن تكون هذه المعلومات متاحة للاطلاع. لا يعني هذا بالضرورة أن تطلع عليها بنفسك، فبعضها قد لا يكون مفهوما إلا لمتخصصين في مجال أو آخر، ومعظمها لن يكون متاحا في صورة يسهل للجميع الخروج منه بمعرفة ذات معنى لهم، ولكن أن تكون هذه المعلومات متاحة يعني فرصة أن يطلع عليها المتخصصون، ويمكنهم أن يقدموا لغيرهم ملخصا مفهوما لها يتضمن النقاط التي قد يكون من مصلحة المواطن العادي المعرفة بها، ﻷنها تحديدا ستساعده على معرفة جانب من ملامح المستقبل، وربما يكون بإمكانه الاستعداد للتعامل مع هذه المستقبل بطريقة أفضل.

تماما كما أنني أظن أنك لم تعلم بوجود النص الدستوري حول الحق في تداول المعلومات في دستور 2012، فأنا أظن أنك أيضا لا تعلم أن هذا النص قد تم تخفيض درجة إلزامه الدستوري عند تعديل الدستور في عام 2014، وظل الأمر كذلك عند تعديله في عام 2019. وبالطبع لم يتساءل أحد عن مغزى تعديل مواد الدستور بحيث قلصت من الحق في تداول المعلومات وخفضت من درجة إلزام الدولة ومؤسساتها به. قد لا يعني هذا الكثير ما دام قانون حرية تداول المعلومات في حد ذاته قد تعثر إصداره في البرلمان السابق مرة تلو مرة، ولكن في إطار الصورة اﻷشمل ليس هذا إلا أحد تجليات ظاهرة أشمل ربما نسميها الانفصال بين المجتمع ودولته. هذه الظاهرة تعني أن الأفراد ينظرون إلى الدولة ومؤسساتها على أنها مستقلة ومنفصلة عن المجتمع، وهي تحكمه وتدير شؤونه كممارسة لحق له وليس كممارسة لحق للمجتمع عليها، وهو ما يجعل أثر وجودها وممارساتها المختلفة في الحياة اليومية للأفراد مسألة قدرية، تشبه هطول اﻷمطار أو هبوب الرياح أو أي ظاهرة طبيعية أخرى. يفسر هذا أن المصريين في معظمهم لا يتعاملون مع الشأن العام على أنه عام حقا، أي على أنه شأنهم كمواطنين، ومن ثم لا يعنيهم معرفة الكثير عنه ولا يهمهم أن ما يتاح من معلومات عنه محدود أو غائب تماما، فما يعنيهم هو معرفة كيفية اتقاء شر ما قد يصيبهم به إن اضطروا إلى التعامل معه، وهو ما يتجنبونه في معظم اﻷوقات إلا إذا اضطروا إليه اضطرارا.

لا يمكن القول بالطبع بأننا كمصريين لا نهتم بمستقبلنا بصفة عامة. لكل منا تصوراته عن مستقبله وعما يخطط لتحقيقه فيه. ولكن ما يتخطى حدود حياتنا الشخصية يبدو لمعظمنا مسألة قدرية بيد الله أولا ثم بأيدي أولي اﻷمر، وليس بيد أي منا ما يفعله بخصوصه، مع معرفته بشكل مبهم أن آثاره سوف تصيبه حتما، ولكنه لا يرغب في معرفة المزيد عنه ﻷنه يظن أن هذا لن يغير من اﻷمر شيء. ولكن هذا تحديدا هو ما يعنيه قولي بأننا لا نفكر في مستقبلنا بشكل صحيح. وبصفة خاصة في وقت أصبح فيه التغيير السريع هو السمة الغالبة للحياة بصفة عامة. وهذا يعني أن الركون إلى أن تستمر اﻷمور على حالها لوقت طويل، أو تحديدا بقدر المدى الزمني لعمر الفرد لم يعد ممكنا. نحن في حاجة إلى معرفة المزيد عن ملامح المستقبل الذي سيحل بعد أعوام قليلة وسيكون علينا التعامل معه، والجهل بما قد يحمله هذا المستقبل لنا رفاهية لم نعد نملكها. قوانين مثل تلك التي تحمي الحق في المعرفة وفي تداول المعلومات قد أصبحت ضرورة في كثير من دول العالم، ﻷن الواقع المتغير بسرعة تتطلب ملاحقتنا له أن نعرف أكثر عن الشأن العام. ربما حان الوقت ﻷن ننفض عنا لا مبالاتنا بالمستقبل الذي لم يعد بعيدا ويخص أبناءنا أو أحفادنا وحدهم، بل هو قريب ويخصنا، وربما حان الوقت ﻷن ندرك أهمية أن نعرف أكثر عما يدور في حاضرنا في مطابخ المستقبل القريب. وربما كان علينا أن نشعر بأن الدولة ومؤسساتها هي ملك للمجتمع وليس العكس، ومن ثم فمعرفتنا بكيف تدار وإلى أين تتجه ليس مجرد حق ولكن ضرورة. بصفة عامة، ربما أصبح ينبغي أن ندرك ضرورة أن نهتم.